تستعد تونس لدخول المعترك الانتخابي الثالث خلال بداية السنة القادمة من خلال الإعداد للانتخابات المحلية والجهوية، وتلوح في الأفق مسألة الشباب والمشاركة السياسية التي دائمًا ما كانت محور نقاش داخل الفضاء المجتمعي، وفي صلب اهتمامات الفاعلين في الحقل السياسي والمجتمع المدني، وهذا الحديث في حد ذاته يبين مدى أهمية الشباب في العمل السياسي من جانب وعزوف الشباب عن العمل السياسي من جانب آخر، إذ لو كان الشباب مهتمين بالسياسة لما طرح هذا الأمر ولما شغل العزوف بال الكثيرين.
لكنّ ثمة سؤالاً عريضًا لماذا العزوف من طرف الشباب عن المشاركة السياسية؟ أو لماذا يغيب الشباب عندما يتعلق الأمر بالأحزاب والانتخابات والمشاركة في الشأن العام؟
ينظر علماء الاجتماع للمشاركة السياسية على أنها عبارة عن سلوك اجتماعي يعتمد على نشاطات وجهود سياسية مختلفة يقوم بها أفراد المجتمع بهدف تحقيق أهداف تفيد المصلحة العامة.
وتعتبر المشاركة السياسية هي أساس الديمقراطية والتعبير الواضح عن مبدأ سيادة الشعب وتقتضى المشاركة السياسية وجود مجموعة من المواطنين الذين يتوافر لديهم شعور الانتماء والاهتمام بالشأن العام ،والمشاركة هي أرقى تعبير عن المواطنة التي تمثل جملة من النشاطات التي تساعد على ممارسة السلطة السياسة.
وإذا كانت قضايا الشباب متعددة ومتنوعة، فإن مسألة المشاركة الشبابية أصبحت موضوع الساعة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، سواء في مجال البحث العلمي أو في ميدان السياسات الموجهة للشباب، وهي على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تتعلق بإطار أشمل هو مشروع الحوكمة والبناء الديمقراطي، حيث تتنامى أهمية المشاركة الشبابية في الشأن العام، بوصفها إحدى أهم دعامات المواطنة وديمقراطية المشاركة في إدارة السياسات العمومية، فالمشاركة وبخاصة من جانب الشباب تعد المدخل الحقيقي لتعبئة طاقات الأجيال الصاعدة وتجديد الدماء في شرايين النظام السياسي والاجتماعي للوطن والمساهمة في حركة التنمية المستدامة.
ففي قراءة سريعة لعمليات سبر الآراء والدراسات الميدانية التي تناولت الشباب والعمل السياسي، تعتبر تونس دولة فتية ديمغرافيًا حيث تبلغ نسبة الشباب من الفئة العمرية (من 15 إلى 30 سنة) 29% من إجمالي السكان وإذا أضفنا إليها الشريحة العمرية من (30 إلى 35 سنة) تتجاوز النسبة الاجمالية للشريحة الشابة الأكثر حراكًا وديناميكية ما مجمله 40% من جملة السكان ما يجعلهم القوة الناخبة والمؤثرة الأهم في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد ورغم هذا فإن أحدث الدراسات حول المشاركة السياسية للشباب تشير إلى إحباط في صفوف هذه الشريحة وتوجّه عام إلى العزوف عن المشاركة في القرارات الحزبية وعدم ثقة في المشاركة إلى جانب غياب الوعي الكافي بمجريات العملية الانتخابية.
حيث أشارت دراسة أجراها المرصد الوطني للشباب بالتعاون مع منتدى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أنّ نسب الانخراط الحزبي لم تتجاوز 2.7% (حسب وزارة الشباب والرياضة) في حين أنّ نسبة حضور الشباب من الجنسين إلى الاجتماعات الحزبية والانتخابية تقارب 22.3% وهو ما يترجمه ارتفاع نسبة الشباب الذين يعتقدون أن الثورة لم تحقق أهدافها ولم تفتح مجالاً للشباب في مستويات المشاركة في القرار الحزبي إلى حدود 65.1%، وأما فيما يتعلّق بالتسجيل للاقتراع في الانتخابات الماضية فقد كانت النسب دون المتوسّط حيث لم تتجاوز نسبة التسجيل الإرادي للنساء 13% إلى جانب أنّ نسبة التسجيل الإرادي للفئة العمرية من (18 إلى 30) سنة لم تتجاوز 20% (وفق تصريحات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات)، أما فيما يتعلّق بترشّح الشباب ضمن قائمات حزبية أو مستقلّة فلم تتجاوز 3% من جملة الترشيحات في المرتبة الأولى أو الثانية بالقائمة.
وتناول سبر آراء الشباب حول الديمقراطية التشاركية والحوكمة المحلية في تونس الذي قامت به منظمة أنا يقظ أواخر سنة 2015 عديد المسائل المتعلقة بمدى ثقة الشباب في أصحاب القرار من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأعضاء الحكومة وأعضاء مجلس نواب الشعب وأعضاء المجالس المحلية والأحزاب بالإضافة إلى ذلك تم التطرق إلى مدى مشاركة الشباب في الحياة السياسية وفي اتخاذ القرار على المستوى المحلي ومدى استعدادهم للمشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة.
وبيّن سبر الآراء أن 69% من الشباب أعربوا عن عدم ثقتهم في الأحزاب السياسية،
وقد أعرب 55% من الشباب عن عدم ثقتهم في رئيس الجمهورية و51% لا يثقون في رئيس الحكومة، كما أعرب أكثر من 60% من الشباب عن عدم نيتهم المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة.
وعمومًا يمكن القول أن المعطيات الحالية تحيلنا إلى إشكاليتين أساسيتين وهما: تدني مستوى الثقة في القيادات الحزبية والعمل الحزبي المباشر، إلى جانب تواصل السياسات الرسمية في تغييب الشباب عن مستويات القيادة الفعلية .
إن العزوف عن المشاركة السياسية للشباب وكافة المواطنين، في أبعاده الفكرية والاجتماعية، يعود في نظر العديد من الباحثين والمهتمين والخبراء، إلى ضعف الأداء السياسي للأحزاب التونسية، المتمثل في لا ديمقراطية الكثير منها، وفيما تستند عليه في تنظيماتها من منطق إقصاء الكفاءات والاعتماد على زعامات هرمة مهترئة تقليدية، لا تمثل من حيث خصائصها الفكرية والنفسية الاجتماعية، ما تعنيه الزعامة في مفاهيم العلوم الاجتماعية، فهي على المستوى التربوي والاجتماعي لا تمثل زعامات سياسية، يمكن للمواطنين وللشباب خاصة أن يتخذوا منها مرجعية فكرية، وهي لا تملك مقومات الزعامة في أبعادها القيادية وجاذبيتها الكارزمية السيكولوجية والثقافية، بقدر ما تملك سلطات إدارية توفر لها مواقع بيروقراطية.
إننا نقف أمام مفارقة عجيبة في أن الأحزاب تنادي بملء فمها عن رغبتها في ضم الشباب إلى صفوفها في حين لا تقدم – معظمها – لهم خطابًا فكريًا أو حتى لا تخصص لهم أي منصب داخل المكاتب التنفيذية وسلطة القرار المتفرعة عنه، مما يوحي أن الأحزاب تريد الشباب فقط من أجل رفع عدد المنخرطين ليس إلا، حيث لا نعثر على أي شاب دون الخامسة والعشرين داخل المكتب التنفيذي لأي حزب، وهذه بالطبع رغبة بعض الأحزاب الذين يحاولون إبعاد أي شاب عن مركز القيادة فيه.
لذلك فإن عزوف المواطنين عامة، والشباب بشكل خاص، عن المشاركة في العمل السياسي، وفي الانخراط بالأحزاب السياسية، لا يعني فقط رفضهم للنهج الذي تتخذه هذه الأحزاب للاستقطاب والتأطير، ولكنه أيضًا يعني رفضهم أن يكونوا مجرد أصوات توظف في الانتخابات أو من أجل تحقيق مصالح ليس مضمونًا أن تكون من صميم مصالحهم أو مصالح مجتمعهم، بل قد تكون مصالح أخرى يُوظفون لتحقيقها، بل قد تكون هذه المصالح ضد الأفكار التي يحملونها عن الديمقراطية والحوكمة والشفافية، وعن المشاركة في تدبير الشأن العام.
إضافة إلى العوائق الحزبية والإدارية، يساند عزوف المواطنين والشباب منهم خاصة، عن المشاركة السياسية، عوائق اجتماعية واقتصادية، تتمثل في تراجع الفكر التنويري والنقدي في المنظومة التعليمية، إذ عرفت مواد الفلسفة والتفكير والتربية المدنية والمواد الاجتماعية انطلاقًا من نهاية عقد التسعينات، حصارًا قويًا، وهو ما يعني إيقاف آليات النقد والتفكير العقلاني، وفي ظل التحولات المجتمعية التي عرفتها تونس ابتداءً من تلك الفترة، برزت أزمة اقتصادية حادة، كرست مظاهر بطالة الشباب المتعلم، الحامل للكفاءات العلمية والمهنية، مما أدى إلى تهميشه وحرمانه وبالتالي إلى تمزقه النفسي والقيمي وإلى يأسه وانزلاقه في السلوكيات الانحرافية وتطرف شرائح واسعة منه سياسيًا ودينيًا.
وللخلاصة فان أغلب الدراسات التي تناولت ملف الشباب والمشاركة في الشأن العام (على قلتها) أكدت أن الشباب التونسي عمومًا لا ثقة له في التنظيم الحزبي المباشر، وباعتبار أننا نعايش أوضاع انتقال ديمقراطي وجب أن يكون الشباب وقوى التغيير جزءًا أساسيًا من مكونات قيادته ومخططيه سواء على المستوى الحزبي الصرف أو كأصحاب القرار وليس المقصود هنا صراع أجيال بقدر ما المطلوب تشبيب “ثورة” على مستوى الفكر والأطروحة بهدف تطابق قوى التغيير مع فكره ومطلبه.