تعلق أمي على الثلاجة لسنوات قول جبران خليل جبران: “أولادكم ليسوا لكم” إلا أنها ترغب لو بيديها أن تبني لنا عُشّا أبديًا نعود إليه في كل موسم هجرة ونستقر فيه دون حراك وهي التي تقول دائمًا: “لا تتعلق بأحد حتى لا تذق طعم ألم الفقدان”.
تقول أمي أشياءً كثيرة، تقول “إنها أم ولا يعرف معنى أن تكون أمًا إلا من جرب ذلك”، تقول أمي كلما قلت لها إنني أفكر بالهجرة الأبدية: أن أخجل قليلاً وأن أراعي مشاعرها، وأن أعظم الشهادات الأكاديمية من أعرق كليات التربية في الجامعات حول العالم، ليست كافية أن تجعلني أفهم معنى أن يكون الإنسان “مُربيًا”، وأن رسالة الإنسان في النهاية أن يعود لوطنه، وإلا لا فائدة من علمه، تقول أيضًا: “قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر”، فأرد بوقاحة: “ما حدا قلك تخلفيني بهاي البلد”، البلد التي ينتهي بي الأمر فيها أن أعمل تحت أوامر محتلي.
يتوقف الزمن عند أمي عند نهاية اللقب الأول، ولا تدرك أنني قاب قوسين أو أدنى من الدكتوراة، لا يقف أمي وأبي أمام طموحاتنا خاصة المتعلقة بالتعليم، إلا أن نقاش أبي الدائم “ليش بتختاروش السهل، ودايمًا بتدوروا عالأصعب؟”.
صحراء النافاخو في أريزونا
ندفع نحن ثمن كل خياراتنا، ولكن في نهاية المطاف ورغم كل شيء نجدهما سند لنا في كل خطوة بالرغم من كل ظروفهما، وكل مشاعرهما المتألمة بسبب أنانيتنا، هذه الأنانية بالرغم من قساوتها تدفعنا ألا نرضى بفتات أحلام ووظائف برمجها لنا الاحتلال بسبب واقعنا الاقتصادي والسياسي.
أشرح لأمي طوال الوقت ما موضوع دراستي، بريق عيني الذي يتحدث عن المستقبل، الخيال العلمي والتطورات التكنولوجية ليس كافيًا أن يقنع أمي أن مستقبلي في الغربة، أمي التي لا تعرف أصابع يدها إلا جروح الزجاج من ساعات العمل في صقله وتصميمه، ولا علاقة لها بأي جهاز تكنولوجي، وأجهزة اللمس ليست كافية أن تساعدها على إجراء محادثة سكايب معي.
عام على سفري إلى الولايات المتحدة، مرت كل لحظاته بسرعة البرق، كانت رحلتي الأولى لأريزونا مليئة بالقلق والخوف، إلا أن الثانية على العكس، مليئة بالنشاط، والحماس، وأسئلة حول “الزمن والوقت”، كيف سيمكنني أن “ألحق” وأحقق كل ما في البال قبل نهاية الفيزا المخصصة لي؟!
التلال بمنطقة الجليل بفلسطين
البعد جفا، يخلق البرود، ويُفقد الإنسان طعم قشعريرة اللقاء والوداع، نتغير وتتبدل الأيام، نصبح أكثر قسوة في العالم الآخر، ليس موت مشاعر، إنما البعد، وفي المقابل في العالم الآخر، من يحبوننا دون أن يتغيروا في أي شيء يتوقف الزمن عندهم، أما أنا أركض وأحلق وحدي بأسرع ما يمكن.
في الأشهر الأولى، لم أتقبل فكرة الهدوء والأمان حولي، فكانت ترافقني أحلام شبه أسبوعية لجنود يضربون طلابًا علمتهم في بلدي، وكانت ترافق هذه الأحلام عقدة شعور بالذنب كوني عشت في منطقة لم تعرف المواجهات أو القصف.
في العام الأول تعلمت الكثير، كسرت حواجز كثيرة اجتماعية وثقافية، انفتحت على ثقافات أخرى، ولم أكن أتردد أن أشارك لحظات الفرح والحزن مع الآخرين، في الغربة، تبدو بلادنا جميلة، ونحبها أكثر عند زيارتها، نحبها بكل ما فيها رغم كل شيء، إلا أنها أصبحت غريبة عني من قريب وبعيد.
في العام الأول، تخطيت حواجز الهوية والتعريفات والتصنيفات، خلقت ألف مبرر لتصرفات الآخرين دون أن أضع أي أحكام مسبقة عليهم، وفهمت تمامًا أن رأيي قابل للتغيير في كل لحظة أتعلم شيئًا جديًدا فيها، تعلمت أن أستمتع حتى بأسوأ الأماكن واللحظات، في سنتي الأولى تذوقت معنى الوحدة الحقيقية والغربة الحقيقة، إلا أن هذا لم يمنعني من الاستمرار في اكتشاف الكثير، إنه شغف الحب، البحث، والتعلم، إنها طاقة البدايات.