من يطّلع على تاريخ تونس يسترجع جراء ما تمر به البلاد من أزمة اقتصادية خانقة أحلك تجربة ومرحلة عاشتها وهي ما عرف بفترة “الكمسيون” ولمن لا يعرفها فهي لجنة مالية أجنبية تشكلت في تونس قبل دخول الاستعمار الفرنسي أي في عهد حكم البايات مهمتها العمل على استرجاع القروض التي تحصلت عليها الإيالة التونسية أي استرجاع ما للغرب وخاصة فرنسا من ديون مستحقة فات أوان تسديدها.
طبعًا الزمن تغير ولم يعد من الممكن إرساء لجنة مالية أجنبية أو “كمسيون” مالي، لكن الوسائل لن تعوزهم وهناك طرق أخرى ووسائل أخرى ليضمن الدائنون الغربيون استرجاع أموالهم، لكن أليس علينا أن نتساءل هنا: هل ما تدين به تونس للغرب يمثّل رقمًا مهمًا لها حتى تفكر أو تخطط لاسترجاعه بأي وسيلة؟
ارتفاع حجم المديونية كبير بالنسبة لتونس ولاقتصادها المريض حاليًا، وأيضًا لأنها بلد بلا موارد كبرى، بالتالي فالهدف المعلن يختلف عن الهدف غير المعلن وكما يقال فإن الشيطان يسكن في التفاصيل.
ما يدفع لاسترجاع تجربة “الكمسيون” المالي هو أنه الوسيلة التي أدخلت المستعمر إلى تونس بتعلّة أنه حماية لذلك عندما دخل الفرنسيون إلى التراب التونسي عام 1881ميلادي فإنهم لم يمضوا مع الباي حينها وثيقة استعمار بل ما أطلقوا عليها حينها الحماية الفرنسية لتونس لكن حمايتها من ماذا، فهذا هو السؤال الجوهري.
اليوم تغيرت المعطيات ومعها تغيّر وجه الاستعمار الذي لم يعد مباشرًا ولا من قبل دول بل إن القوة صارت بيد قوى مخفية أو هي متخفية تتحرك بلا اسم أو لعلها تحمل أسماءً مستعارة فهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهي مؤسسات مالية تسمى عالمية لكنها تتحرك بحسابات سياسية من أطراف لها مصالح في كل العام تريد المحافظة عليها وأيضًا توسيعها.
الأمر هنا يمكن أن نفهمه بمثالين: الأول عندما تعرضت تونس لأزمة مالية خانقة في مناسبة سابقة أي بعد حصول الثورة وجدت داعمين لها بقروض أو بمساعدات في شكل هبات وودائع وأيضًا قروض ميسرة وبفائض بسيط.
لكن عندما حان موعد الدفع نرى مثلاً دولة قطر ودون أن تمارس ضغوطًا أو حسابات سياسية تمكّن تونس من مهلة جديدة بل وتضيف عليها مساعدة أخرى وهذا يتم بمنتهى البساطة ودون ضجة إعلامية.
المثال الثاني: مؤسسات المال العالمية وعندما يحين موعد الدفع فإنها تطالب به ودون نقاش حول التأجيل أوما يسمّونه جدولة الديون لكنها مع عدم مناقشة مسألة التأجيل بشكل مطلق تعمد إلى اقتراح قرض جديد بشروط دفع جديدة أي رفع نسبة الفائدة.
الأمر لم ينته هنا بل الأخطر من هذا هو ما سمي من قبل صندوق النقد الدولي بتوجيهات إصلاح الاقتصاد المتعثر وهي في الحقيقة حزمة من الشروط والإملاءات حصلت في دول أخرى ولم تكن لها من نتائج سوى تأجيج و”إشعال” الأوضاع الاجتماعية.
هذه الشروط يمكن تلخيصها في جملة من المطالب منها تخفيض ما تقدمه الدولة من دعم للسلع الأساسية أي الغذائية والمحروقات والأدوية وهو ما يعني تضاعف أسعارها بشكل فجائي، الشرط الثاني هو إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية من قبل الدولة أي تخلى الدولة عن المعطلين عن العمل بما في ذلك أصحاب الشهادات العليا، الشرط الآخر هو تقليص المصاريف التنموية والاجتماعية أي فرض تخلي الدولة عن دعم الطبقة الفقيرة مع العلم أن رفع الدعم سيؤدي مباشرة إلى تهاوي الطبقة المتوسطة التي بقيت لعقود صمام الأمان لاستقرار المجتمع، لينضاف إلى هذا شرط آخر خطير جدًا وهو فرض رفع سن التقاعد من ستين سنة إلى خمس وستين عامًا والغاية التقليص من الإنفاقات الاجتماعية.
شروط صندوق النقد الدولي لا تقف عند هذا الحد بل تتعداه إلى فرض خصخصة مؤسسات الدولة بما في ذلك البنوك والإشكال ليس هنا فقط بل في كون هذه المؤسسات وخاصة البنوك أفلست في مدة سنوات قليلة بالتالي فقد فقدت قيمتها الحقيقية.
هذه الحزمة من الاشتراطات هي في عمقها ليست متأتية من مؤسسة مالية عالمية تريد مساعدة تونس لإنقاذ اقتصادها بل هي متأتية من “كمسيون” ولكنه باسم جديد يتلاءم ومفهوم العولمة.
اليوم في تونس تتم مناقشة خيار حكومة وحدة وطنية أو هكذا يقال لأن تحقيق هذا الأمر صعب جدًا إن لم نقل مستحيل بسبب الخلافات الكبيرة بين النخب السياسية والأحزاب بما في ذلك مكونات الائتلاف الذي يحكم حاليًا، وأيضًا لأن اتحاد الشغل وهو المنظمة التي تمثل العمّال والأجراء والموظفين وتدافع عن حقوقهم لن تستطيع الانخراط في هذا المشروع وهي تدرك أن تنفيذ اشتراطات مؤسسات المال العالمية معناها تأجج الوضع الاجتماعي وتصاعد حدة الاحتجاجات ما يعني أنها لن تستطيع فرض هدنة اجتماعية تريدها وستطلبها الحكومة القادمة بالتالي أليس من المهم أن نتساءل بجدية: هل الأزمة التي تمر بها تونس اقتصادية فقط أم هي أساسًا سياسية؟