بالرغم من تراجع مستواها الاقتصادي والمجتمعي قياسًا بدول أوروبا وأمريكا إلا أنها باتت قبلة للمستثمرين ورجال الأعمال وأغنياء العالم بلا منازع، واستطاعت أن تتصدر المشهد بصورة ملفتة للنظر في تقديم نفسها كـ “بديل” للأسواق التقليدية الجاذبة للاستثمار.
ففي دراسة حديثة أعدتها شركة “كابجميني” الاستشارية تحت عنوان “ثورة العالم عام 2016” أشارت إلى أن معظم أغنياء العالم يفضلون الإقامة والعيش في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مقارنة بالمناطق الأخرى التي تصدرت قائمة الدول الأكثر جذبًا للاستثمار في الآونة الأخيرة.
الدراسة التي نشرتها الشركة الخميس الماضي كشفت عن 5.1 مليون ثري بالعالم إجمالي ثروتهم يقدر بـ 17.4 تريليون دولار كانوا يعيشون في عدة مناطق متفرقة من آسيا والمحيط الهادي خلال عام 2015، معظمهم من أثرياء أوروبا والذي يبلغ عددهم 4.2 مليون شخص، بزيادة عن العام الماضي بنسبة 9.4% قابلها زيادة في ثرواتهم هي الأخرى بنسبة 9.9%، مع الإشارة أيضًا إلى تزايد مؤشرات زيادة أعداد أثرياء اليابان والصين بشكل واضح عن العام المنصرم.
نسعى في هذا الطرح إلى قراءة واقع الكيانات الآسيوية الناشئة وكيف باتت واجهة ومصدر ثقة لأثرياء العالم، مرورًا بمحاولة استشراف ما يمكن أن تكون عليه مستقبلاً، وقدرتها على مواجهة الكيانات الأوروبية ذات التاريخ والمكانة الكبيرة، ووصولاً إلى الدوافع الحقيقية وراء اختيار أثرياء الكون لآسيا لتكون مهبط ومستقر إقامتهم واستثماراتهم.
المدن الأكثر إغراءً للأثرياء
في قراءة سريعة للتقرير الصادر عن مجلة ” فوربس” الأمريكية بشأن المدن الأكثر إغراءً في العالم خلال العشر سنوات القادمة يلاحظ تصاعد العديد من المدن الآسيوية على حساب الأوروبية، فضلاً عن تصدر بعض المدن داخل منطقة آسيا والمحيط الهادئ لقائمة أغنى مدن العالم على الإطلاق.
اللائحة التي وضعتها المجلة المتخصصة في الكشف عن أثرياء العالم وتوجهاتهم الاستثمارية خلال السنوات القادمة، وضعت قائمة بالمدن التي من المحتمل أنه ستكون وجهة المستثمرين خلال العقد القادم، وفق توافر عدد من الشروط المثالية لاستقرار الأثرياء، (4) منهم لأوروبا، و(4) لآسيا، و(2) لأمريكا
- لندن
تصدرت لندن وفق تقرير ” فوربس” الدول الأكثر إغراءً للأثرياء، كونها ملاذًا لأموال أغنياء الشرق الأوسط وروسيا وبعض دول أوروبا المجاورة، لما تتمتع به من استقرار وثبات اقتصادي كبير، كما أنه ووفقًا للتقرير ستظل لندن اللاعب رقم (1) في سوق العقارات العالمية خلال السنوات العشر القادمة.
- نيويورك
حافظت نيويورك على المركز الثاني بعد لندن في جذب أغنياء العالم، لاسيما وهي تحتضن أكبر سوق للبورصة وتداول الأوراق المالية والأسهم، مما أهلها لتكون وجهة مفضلة لأغنياء روسيا وأوروبا.
- هونغ كونغ
ثم تأتي “هونج كونغ” في المركز الثالث، إذ تعد أغلى مدينة في العالم بلا منازع، ووفقًا لتقرير “فوربس” فإن هناك تراجع بسيط سيحل بهذه المدينة خلال العشر سنوات القادمة لصالح العاصمة الصينية “بكين“.
- باريس
وفي المركز الرابع تحل العاصمة الفرنسية “باريس” لما لديها من رصيد هائل وسحر لا يقاوم في عيون عشاق الموضة والرفاهية والباحثين عن الجمال والأناقة، إلا أن تراجعًا طفيفًا سيحل بمركزها خلال السنوات القادمة أيضًا.
- سنغافورة
نجحت المدينة صاحبة أكبر ميناء في العالم في الحفاظ على المرتبة الخامسة للسنوات العشر القادمة في ظل هذه المنافسة الشرسة، إذ إنها تعد محور السلع المتداولة في الأسواق الآسيوية وينتظرها مزيد من التقدم والريادة في هذا المجال مستقبلاً.
- ميامي
وتأتي المدينة الأمريكية في المرتبة السادسة كونها قبلة أغنياء أمريكا اللاتينية لما تتمتع به من مناخ جذاب وفرص استثمارية جيدة، إلا أن أزمتها الاقتصادية التي تعرضت لها مؤخرًا من الممكن أن يكون لها دور محوري في مغادرتها قائمة المدن العشر الأكثر إغراءً لأثرياء العالم
- جنيف
وبالرغم من احتلالها للمركز السابع في اللائحة التي أعدتها “فوربس” فضلاً عن محافظتها على صدارتها خلال السنوات الماضية، إلا أنه من المتوقع تراجعها خلال العشر سنوات القادمة لصالح الكيانات التجارية الصاعدة في آسيا وأوروبا.
- شنغهاي
وتأتي المدينة الصينية المتميزة لتحتل المركز الثامن، إذ تعد من أكثر مدن العالم جاذبية في عيون الأثرياء والباحثين عن فرص استثمارية جيدة، ومن المتوقع أن تحتل “شنغهاي” مكان العاصمة الفرنسية “باريس” في اللائحة الجديدة خلال السنوات المقبلة.
- بكين
واستمرارًا لتألق المدن الصينية ها هي العاصمة “بكين” تحتل المرتبة التاسعة في لائحة “فوربس” لما تمتلكه من مقومات استثمارية ضخمة، ومن المتوقع أن تتقدم من المرتبة التاسعة إلى الثالثة في غضون عشر سنوات.
- برلين
وتتذيل المدينة الألمانية قائمة العشرة الكبار الأكثر إغراءً لأثرياء العالم، ومن المتوقع أن تحافظ على هذه المرتبة خلال السنوات المقبلة بالرغم من قوة المنافسة.
سنغافورة صاحبة أكبر ميناء في العالم
آسيا: مستقبل الاستثمار العالمي
في الآونة الأخيرة نجحت منطقة آسيا والمحيط الهادئ في جذب أنظار المستثمرين ورجال الأعمال من شتى بقاع الأرض، واستطاعت في وقت لا يساوي في عمر الزمن لحظات أن تبني لنفسها ثقلاً وكيانًا اقتصاديًا لم تشهده هذه المنطقة من قبل، حتى إبان عهد النمور الآسيوية أواخر القرن الماضي.
وتشير التقارير الواردة عن مؤسسات بحثية واستشارية إلى الطفرة والقفزة الهائلة في حجم الاستثمارات في منطقة آسيا والمحيط الهندي خلال العامين الماضيين، وهو ما يمكن الوقوف عليه إذا ما علمنا أن إجمالي الاستثمارات في 2014 بلغ 39 مليار دولار، مقارنة بـ 9.4 مليار في 2013، وهذا ما أشارت إليه شركة “أرانكا الدولية للأبحاث” في تقريرها السنوي الأخير.
وبالرغم من تشكيك المؤسسة البحثية في قدرة البنية التحتية الآسيوية وعدم تماشيها مع التطورات الكافية، إلا أن القراءات المستقبلية لخريطة تدفق رؤوس الأموال تشير إلى تصدر هذه المنطقة لقائمة تفضيلات رجال الأعمال وأثرياء العالم.
شركة “كومباس”، المتخصصة في الأبحاث والتي تتخذ من سان فرانسيسكو مقرًا لها، قدمت رؤية اقتصادية موضوعية للباحثين عن فرص استثمارية مضمونة، وذلك من خلال تصنيف لأفضل 20 نظامًا اقتصاديًا لتأسيس شركات ناشئة، واستندت فيه على تقييمات تجارب سابقة، والوضع الحالي في أسواق منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وغيرها من العوامل، وقد توصلت الشركة في تصنيفها إلى أربعة مراكز اقتصادية ناشئة قادرة على أن تكون بيئة استثمارية ناجحة لتأسيس شركات بها:
- سنغافورة
والمصنفة كأفضل بيئة لإنشاء شركات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ تم إنشاء ما يقرب من 3600 شركة خلال العام الماضي فقط، في مجالات التجارة الإلكترونية والألعاب وشبكات التواصل، مما أهل هذه المدينة لتكون رابع أهم مركز مالي في العالم.
- بنغالور
عاصمة ولاية كارناتاكا في الهند، وبالرغم من معاناتها من ارتفاع مستويات الفقر، إلا أن التقارير تشير إلى قدرتها خلال السنوات القادمة على النهوض وخلق فرص استثمارية جيدة، كونها بيئة صالحة لإنشاء شركات في أكثر من مجال، فضلاً عن إمكانية تسويق منتجات هذه الشركات بسهولة، إذ بها ما يزيد عن 6 ملايين نسمة معظمهم من مستخدمي الإنترنت.
- هونغ كونغ
أحد أبرز الأعلام الاستثمارية في العالم، ومن أكبر الكثافات السكانية في نفس الوقت، يمتاز اقتصادها برأس مال مزدهر ومتفوق دومًا، لاسيما وهي تقوم على نظام التجارة الحرة والضرائب المنخفضة مما أهلها لتكون قبلة للباحثين عن فرص استثمارية جديدة وتأسيس شركات في أكثر من مجال.
- كوالالمبور
عاصمة وأكبر المدن في ماليزيا، وقد ساعد قربها من أسواق جنوب شرق آسيا في منحها ميزة استثمارية تنافسية هائلة، ويجعها منطقة جذب للمستثمرين ورؤوس الأموال.
هونغ كونغ أبرز الأعلام الاستثمارية في العالم
لماذا آسيا؟
بعد نجاح آسيا في فرض نفسها كسوق واعدة، في ظل ما تتميز به من إمكانيات اقتصادية كبيرة، وهو ما أهلها لتصبح الحصان الأسود للرهان الاقتصادي خلال العشر سنوات القادمة، يبقى السؤال: كيف استطاعت منطقة آسيا والمحيط الهادئ في الآونة الأخيرة تصدر المشهد الاستثماري العالمي؟ وما الدوافع التي قادت أثرياء العالم لتفضيل هذه المنطقة للإقامة بها وضخ مليارات الاستثمارات فيها بالرغم مما تحققه الكيانات الاقتصادية الأوروبية الأخرى من مكاسب لا يستهان بها؟
كلاوس جيورج ميار الخبير بشركة كابجيميني، أشار إلى عدة أسباب وراء تفضيل أغنياء العالم لهذه المنطقة تحديدًا لتكون قبلة استثماراتهم خلال الفترة المقبلة، بعضها يتعلق بالإمكانيات البشرية وأخرى بالمادية، ملفتًا أن بعض الكيانات الاقتصادية في آسيا سيكون لها النصيب الأكبر من حجم ثروة أغنياء العالم والتي من المتوقع ان تصل إلى 100تريليون دولار بحلول 2025.
- انخفاض أسعار العقارات
أول الأسباب التي أوردها “ميار” بشأن تفضيل رجال الأعمال لمنطقة آسيا انخفاض أسعار العقارات مقارنة بما هي عليه في دول أوروبا وأمريكا، حيث تتميز العقارات في بعض الكيانات الاقتصادية الناشئة في آسيا بانخفاض ملحوظ وهو ما يسهل الأمر على رجال الأعمال في تملك ما يحتاجون إليه من أراضٍ، فضلاً عن إمكانية إنشاء بنية تحتية لمشروعاتهم بتكلفة أقل بكثير مما كانت عليه في أوروبا.
- انخفاض مستوى الضرائب
كما تعد الضرائب المنخفضة على المشروعات والاستثمارات في آسيا دافعًا قويًا لدى رجال الأعمال خاصة وأن نسبة كبيرة من الأرباح تلتهمها الضرائب الباهظة في أوروبا والتي تصل أحيانا إلى 40%، وهو ما شكل تحديًا خطيرًا أمام المستثمرين هناك على عكس الحال في منطقة آسيا.
- العمالة الماهرة رخيصة الثمن
تتميز العمالة في دول آسيا بمهاراتها العالية لاسيما في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال فضلاً عن القدرات البارعة في التسويق والترويج لمنتجاتهم بصورة ملحوظة يشهد بها الجميع، وفي الوقت ذاته فإن هذه العمالة تتسم بانخفاض مستوى أجورها مقارنة بأوروبا، وهو ما يساهم بشكل كبير في توفير ملايين الدولارات كانت تذهب إلى جيوب العمالة باهظة التكاليف.
- السوق الواعدة
تتميز منطقة آسيا بأن لها سوق هو الأكبر عالميًا، لاسيما وأنها تحتوي وحدها على أكثر من نصف سكان العالم، وهو ما يشجع على الاستثمار هناك، إذ بمقدور المستثمر أن ينشئ شركته ويصدر منتجاته ثم يسوقها في نفس المكان، دون الحاجة لتحمل أعباء النقل والشحن والتفريغ.
ولعل هذا يفسر لنا كيف أن توكيلات عالمية كـ “مرسيدس بنز” و”بي إم دبليو” و”نوكيا” وغيرها تنقل مقارها الأصلية من دول أوروبا إلى دول آسيوية وفي مقدمتها الصين والهند، نظرًا لما حققته من أرباح طائلة جراء فروق الأسعار ما بين أوروبا وآسيا، فضلاً عن تواجدها قرب مكان تسويق منتجاتها مما يوفر عليها الكثير، ومن ثم يمكن القول أنه وخلال العشر سنوات القادمة ستصبح آسيا هي الكيان الاقتصادي الأول في العالم، إذا ما حافظت على ما تتمتع به من مميزات، فضلاً عن سعيها لتطوير بنيتها التحتية بما يؤهلها لمنافسة الأسواق الأوروبية.