قبل أكثر من أسبوع شاهدت صورةً للمصور خالد العيسى بصحبة الناشط الإعلامي هادي العبدالله، بعد أن تعرضا سويًا للقصف على يد النظام السوري، إلا أن الله كتب لهم النجاة، لأجل عيون الثورة، التي لم يكل الصديقان في توثيق أحلك لحظاتها، وأبهجها أيضًا، أتذكر يوم تحرير إدلب، يوم انهار هادي على الهواء أمام آلاف المشاهدين، وهو يوثق هذه اللحظات التاريخية، ويدخل وسط المدينة في اللحظات الأخيرة من تحريرها، وتختلط مشاعره بين الدموع والفرح، كان مشهدًا عظيمًا، بحق.
بعد ذلك بيومين، اُستهدف خالد وهادي بعبوةٍ ناسفة قرب المنزل الذي كانوا يسكنون فيه بمدينة حلب، إصابة خالد كانت بالغة، والدته تخبر الجميع، أنه في حالة غيبوبة نتيجة تعرض رأسه لشظايا، بينما تستقر حالة هادي الصحية بعض الشيء.
ما استوقفني كثيرًا، مشهد إسعاف خالد وهادي، والكاميرات تصورهم، في رسالة غير مكتوبة، تقول إن الحقيقة ستستمر في الإذاعة، سيستمر رفاق خالد وهادي في فضح جرائم النظام السوري ومن يرتكب جرائم أخرى بحق المدنيين الأبرياء، سيستمر وسيرى العالم، ما أراد السفاح أن يكتمه.
استهداف خالد وهادي، أمر منطقي للغاية، في ظل نظام قصف شعبه بالكيماوي وأباده بالطائرات والبراميل وقتلهم بالبطيء داخل سجونه، وأذل الأحرار منهم عن طريق الحصار، بمساعدة حزب الله أحيانًا أو الأكراد أحيانًا، أو الدولة الإسلامية أحيانًا أخرى، كما حدث مع مدينة مارع التابعة لمحافظة حلب.
إن هذا النظام الذي ارتكب كُل هذه الجرائم، توجب عليه أن يستمر في خطته كامله، التي أبرزها، تكميم أفواه كل من ينقل جرائمه، أو يذيع مجازره التي ارتكبها ويرتكبها بحق الأبرياء.
هادي فقد خالد
قرأت نعي هادي لخالد، عبر صفحته على فيس بوك، مؤلم هذا الرثاء كثيرًا، مؤلم لأنهما كان يعلمان أن ثمن الحقيقة ستكون حياتهم، وكتب هادي لصديقه يرثيه فيقول: “ماذا عساي أن أفعل الآن؟ جسدي الكسير الذي أنهكته العمليات، أحشائي الممزقة المدماة، قدماي المكسرة، روحي التي تحتضر، ماذا عساهم جميعًا أن يفعلوا في حضرة الخبر؟
أيا خالدي
ياليتني كنت معك أو مكانك، يا ليتك أنت الذي نعوتني ورثيتني، أياليت عبوتهم مزقتني ألف قطعة، حقيرة هي تلك الأنقاض التي لم تقتلني، لا أريد عيشًا بعدك ياخالد، أخبر روحك لتنادي روحي إليها، أرجوك بحق صحبتنا، بحق ألمنا بحق كل ما عشناه معًا أخبرها أن تفعل، هو آخر طلب سأطلبه منك، أعدك لن أطلب غيره، هيا يا خالد فروحي تنتظر روحك”.
لم نعُد بخير، كلنا نعرف ذلك، نعرف أن مهنتنا أضحت تمثل خطرًا على حياتنا، وأضحت العدسة والمقالة، ثمنها القتل، وأضحى إذاعة المعلومة، الذي هو أدنى حقوقنا كصحفيين، يودي بك إلى حبل المشنقة كما نرى في مصر من اعتقالٍ للصحفيين والحكم عليهم بالمؤبد، واختطافهم في اليمن والتهديد بقتلهم، أو استهدافهم بعبوات ناسفة كما في سوريا!
يا الله! كم كان صوت هادي وعدسة خالد مزعجَين للنظام، أو من قتله بهذه الطريقة، أتفهم أن تطلق رصاصة على مقاتل في ساحة قتال، أو يقصف منزل بحجة أن “الإرهابيين” موجودون بداخله، لكن هل وصل الانزعاج من الحقيقة لهذه الدرجة؟ أن تستهدف بالقصف فيمنحك الله النجاة، ثم يُخطط لقتلك بعبوة ناسفة حيث تسكن.
وبعد كُل هذا لم يكُن مستغربًا، أن تأتي دول الشرق الأوسط في ذيل التصنيف العالمي لحرية الصحافة للعام الجاري، حيث صنفت سوريا كأخطر بلد عربي على الصحفيين، وجاورتها في التصنيف العراق ومصر.
الثورة والحقيقة
إن الثورة هي أم الحقيقة، هي ذروة إيمان المرء بأنه لن يحيا إلا حياةً كريمة وحرة يستطيع فيها أن يعبر عن رأيه وأن يصرخ ويهاجم ويسب ويلعن النظام، دون أن يلقى به في السجن، وهذا كان هو حلم خالد، أن يحيا في بلد لا تسجنه آلات القمع لأنه يحمل كاميرا ويرصد جرائم السلطة، أن يحيا في وطن يتظاهر فيه دون رصاص، وأن الموت لا يكون إلا سبيلًا لتحقيق هذه الحرية، دفع خالد ثمن صوره التي فضح بها النظام أمام العالم كله، دفع خالد ضريبة حريته.
وإلى رفاق خالد في كُل مكان، في مصر والعراق وسوريا واليمن، سيروا على درب خالد، تمسكوا بأحلامكم، تمسكوا بأقلامكم وعدساتكم، تمسكوا بها لأنها تستحق منا كُل ذلك، وإلى هادي، الشاب الذي يعرفه أبناء الثورة من أصغرهم لأكبرهم، الشاب الذي أصبح شوكة غير هينة في حلق النظام، يخشى منه كما يخشى من أي قائد عسكري، تمسك يا صديقي بحملك، وإذا استطعت أن تعود فلتعود، فأنت لا تختلف عمن يحمل البارودة، كلاكما يناضل، وكلاكما سينتصر.