بكل تأكيد، مثلت نتائج الاستفتاء البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، زلزالاً سياسيًّا واقتصاديًّا سوف تستمر تبعاته وأصداؤه طويلاً، في مستويات مختلفة.
ولعل أبرز دليل على عمق تأثير الحدث، رد فعل البريطانيين أنفسهم، بعد وصول عريضة من مليون توقيع إلى مجلس العموم البريطاني (الغرفة الثانية في البرلمان البريطاني)، تطالب بإعادة الاستفتاء.
وكذلك، نجد ردة فعل الدول الست المؤسسة للاتحاد الأوروبي، والتي وقَّعت على اتفاقية الفحم والصلب الأوروبية عام 1955م، والتي مثلت نواة الاتحاد، حيث اجتمعت في العاصمة الألمانية برلين، وطلبت من الحكومة البريطانية البدء بـ”أقصى سرعة” في إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، بنبرة تعبر عن إحساس الجميع بالخيانة!
معالم الزلزال بدت أول ما بدت في سعر الجنيه الإسترليني الذي تراجع بنسبة 12%، مما اضطر الحكومة البريطانية إلى ضخ 250 مليار جنيه إسترليني للحفاظ على سعر صرفه، حيث القطاع المالي والمصرفي البريطاني هو أول ما سوف يتأثر بهذه النتائج، باعتبار أن بريطانيا كمركز مالي دولي، تتمتع بالكثير من المميزات من عضويتها في الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بحركة رؤوس الأموال والاستثمارات.
أضف لذلك بدء الإسكتلانديين في بحث قضية تنظيم استفتاء مجددًا على الانفصال عن بريطانيا.
ويبدو خطر ذلك على الاتحاد الأوروبي، في “تأثير الدومينو” الذي قد يحدث، ويدعو دولاً أخرى للخروج، وبدت بوادر ذلك في هولندا، عندما دعا السياسي اليميني المتطرف، جيرت فيلدرز، زعيم حزب “الحرية”، إلى تنظيم استفتاء مماثل، وكذلك في فرنسا، عندما نادت أحزاب اليمين المتطر وأقصى اليسار، خلال اجتماعها السبت 25 يونيو مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند (أو أولوند)، لبحث القرار البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ولكن، لسنا في معرِض تناول تبعات الاستفتاء في الإطار الاقتصادي والسياسي الأوروبي، بقدر ما سوف نهتم بتبعاته على الشرق الأوسط وقضاياه وأطرافه، والتي من بين أهمها الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي، والتي تُعتبر لندن بمثابة نقطة ارتكاز مهمة لها، استغلالاً لظروف سياسية بعينها، ليس أهمها طبيعة النظام البريطاني المنفتح والمؤمن بالحريات والديمقراطية، وإنما لأسباب أخرى تتعلق بسياسات بريطانيا العظمى عبر العالم، الخفي منها والمعلن، وما أكثرها!
قضايا تأسيسية للفهم
لعله، كما أية ظاهرة سياسية، فإن هناك بعض الأمور المفتاحية التي تحكم هذا الأمر، تداعيات الزلزال البريطاني على الشرق الأوسط وجماعات الإسلام السياسي، وهي في هذه الحالة تتعلق بمفتاحَيْن رئيسيَّيْن.
المفتاح الأول، تنامي ظاهرة اليمين المتطرف داخل بريطانيا، وأثر ذلك على أمور عدة مهمة في هذا الصدد، منها الدور البريطاني في أزمات المنطقة، وملفات الهجرة، والدعم السياسي للحركات الإسلامية السياسية، وحقوق المسلمين هناك.
المفتاح الثاني، هو رد فعل دول الاتحاد الأوروبي المتحمسة لهذه المظلة الإقليمية، وخاصة ألمانيا وفرنسا، قاطرة الاتحاد الأوروبي طيلة العقود الماضية، إزاء بريطانيا، والذي – بكل تأكيد – سوف يقود إلى عواقب سلبية على الأطراف التي تتحالف مع بريطانيا، من قوى ودول، ومن بينها – وهذا ثابتٌ تاريخيًّا – جماعة الإخوان المسلمين.
وتزداد وطأة تأثير هذه العوامل المفتاحية في الموضوع الخاص بقضايا الشرق الأوسط والموقف من الإسلام السياسي وجماعاته، تقدير موقف قديم، أيدته الأدلة والأحداث، يشير إلى دخول الاتحاد الأوروبي إلى عين دائرة استهداف قوى دولية عظمى، لكسر المركزيات الدولية المهمة، والتي تدخل فيها حروب وصراعات الفوضى الهدامة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتستهدف قوى عربية وإسلامية سُنِّية مثل تركيا ومصر والجزائر والمملكة العربية السعودية، بعدما تم الانتهاء من العراق وسوريا وباكستان.
وبدا ذلك أكثر ما بدا – ولقد ثبت صحَّة ذلك الافتراض بعد ذلك – في بعض التقارير وتقديرات الموقف التي تم وضعها إبان أزمة الهجرة الكبرى للسوريين تجاه أوروبا، من خلال الحدود التركية واليونانية، حيث أشارت بعض الأوساط، إلى أن الحشد الذي تم في يناير وفبراير الماضيَيْن، كان مرتَّبًا من قوى دولية ساعدتها جماعات وقوى إقليمية، من أجل خلَق أزمة سياسية وأمنية واقتصادية لدول أوروبا، تستدعي معها وقف العمل باتفاقية المرور الحر التي تعتمدها بعض دول الاتحاد الأوروبي “شينجن”، وتُعتبر من أبرز مظاهر الاتحاد مع “اليورو”.
نفس المنطق حكم العمليات الإرهابية الكبرى التي شهدتها فرنسا وبلجيكا، عاصمة الاتحاد الأوروبي، في الفترة الماضية، حيث إن التحقيقات كشفت عن خلايا مستترة، استغلت اتفاقية “شينجن”.
وكلا الأزمتَيْن أدتا إلى تعطيل فعلي للاتفاقية، لبواعث أمنية، فيما لا يؤمن الكثيرون بأن تنظيم “بدائي” مثل تنظيم الدولة “داعش” قادر على تنظيم عمليات مثل تلك التي جرت في أوروبا، على أعلى قدر من التخطيط ليس الفني، وإنما التخطيط الاستخباري.
وليس خافيًا على أحد، أنه في أزمة الهجرة على وجه الخصوص، كانت جماعة الإخوان المسلمين والجمعيات الإسلامية المعبرة عنها في دول الاتحاد الأوروبي – على مستوى الحدث – أحد أهم الأطراف التي دعمت موجات هجرة السوريين والأفغان إلى أوروبا، وحشد الجهود الإغاثية واللوجستية لأجل تمركزهم في دول الأطراف والقلب من الاتحاد الأوروبي، وهي نقطة وضعت بعض العلامات على الإخوان داخل بعض الدول الأوروبية الرئيسية من أهمها فرنسا.
بريطانيا وقضية صعود اليمين
بعد سنوات طويلة من سيطرة العمال واليسار بشكل عام على السياسة البريطانية، ضمن تيار جارف ظهر في أوروبا في نهاية التسعينات وفي العقد الأول للألفية الجديدة، عاد تيار المحافظين إلى الحكم في بريطانيا بعد انتخابات 2010م العامة التي جرت في ذلك العام.
كان وصول حزب المحافظين إلى الحكم مجددًا بعد أكثر من عقد من الزمان من فقدانه للسلطة، ضمن ظاهرة بدأت في التبلور في نهاية العقد الأول للألفية الجديدة، وهي صعود اليمين المتطرف في بريطانيا وفي أوروبا بشكل عام، مدفوعًا في ذلك بعدد من الأمور ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي من بينها كارثة غزو العراق، وتنامي وجود المهاجرين في أوروبا، وتراجع الوعود الاقتصادية والإصلاحات الاجتماعية التي تعهد بها اليسار في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وإيطاليا، ودول أخرى حكمتها أحزاب يسارية في تلك المرحلة.
ويقول الدكتور خليل العناني أستاذ العلوم السياسية في عدد من الجامعات الأمريكية والبريطانية، إن تولي ديفيد كاميرون زعيم المحافظين ورئيس الحكومة الحالية في بريطانيا، لقيادة البلاد، كان ينذر بتحولات جذرية هناك خاصة فيما يتعلق بعلاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي بعدما حولها من مسألة مصيرية إلى قضية صراع انتخابي بحت من أجل ضمان الفوز برئاسة الوزراء.
ويشير العناني إلى أنه خلال السنوات الست الماضية، حدث تمدد غير مسبوق لتيار اليمين المتطرف المعادي للأجانب والمتمثل لأحلام الامبراطورية البريطانية التي يمكنها الاستغناء عن العالم والعيش في عزلة.
وعضد من ذلك التيار، زيادة وجود الأجانب – أوروبيين وغير أوروبيين – في بريطانيا، بما في ذلك من تبعات على الاقتصاد البريطاني، وخصوصًا قطاع العمالة، في وقت فرض التراجع الحاصل في النمو الاقتصادي العالمي، على الحكومة البريطانية بعض إجراءات التقشف، شملت تقليص الدعم الحكومي لقطاعات اجتماعية ذات أهمية، مثل التأمين الصحي والتعليم والطرق والإعانة الاجتماعية، وهو ما كان له تبعات على الطبقات العاملة والأكثر فقرًا في هذا البلد.
كاميرون وضع مستقبله السياسي رهن نتائج الاستفتاء
وبقطع النظر عن أسباب صعود تيار اليمين المتطرف في بريطانيا – من المرجح أن يخلف كاميرون في رئاسة حزبه والحكومة شخصية أكثر تطرفًا، وهو بوريس جونسون – وأنها تصب في الاتجاه الاقتصادي والاجتماعي بالأساس، فإنها سوف تأخذ حيزًا سياسيًّا، بسبب أن الباعث الرئيسي لذلك، كان موضوع المهاجرين وغالبيتهم مسلمين في بريطانيا.
وبكل تأكيد فإن للاستفتاء دلالاته في صدد الاتجاهات التصويتية للشارع البريطاني خلال الانتخابات العامة المقبلة المقررة بعد أقل من عامَيْن، بشأن اختيار حكومة أكثر راديكالية، سوف تنعكس انتماءتها وهويتها على سياساتها تجاه قضايا الشرق الأوسط والموقف من الإسلام السياسي الذي تتحصن بعض جماعاته بلندن منذ الحرب العالمية الثانية.
الإخوان في أوروبا: تحالف تاريخي ووجود استراتيجي
ولذلك قصة طويلة، رواها الكاتب الأمريكي الكندي المولد إيان جونسون في كتابه الشهير “مسجد في ميونيخ.. النازيون.. وكالة الاستخبارات المركزية وبزوغ نجم الإخوان المسلمين في الغرب”، الذي أثار ضجة كبيرة عندما صدرت طبعته العربية في العام الماضي، بعد خمس سنوات من صدور طبعته الإنجليزية.
الكتاب يروي قصة طويلة للغاية حول العلاقات المعقدة التي جمعت بين التحالف الأنجلو ساكسوني الأمريكي البريطاني، مع جماعة الإخوان المسلمين وتيارات إسلام سياسي أخرى، منذ الحرب العالمية الثانية، منذ أن قدمت جماعات تنتمي إلى تيار الإخوان المسلمين، الدعم العسكري والاستخباري لقوات الحلفاء خلال الحرب ضد ألمانيا النازية.
فعندما بدأت ألمانيا النازية في استخدام بعض المسلمين من آسيا الوسطى من أجل تكوين الفيلق الشرقي، وحشد العالم الإسلامي، خلال صراع النازيين ضد الاتحاد السوفييتي، كان لا بد للحلفاء من “حليف” إسلامي آخر، لضرب هذا المسعى الألماني النازي.
وبعد اغتيال مؤسس الجماعة حسن البنا في العام 1949م، وحظر الجماعة في مصر، وطرد الجماعة من عدد من الدول العربية الأخرى، فإنها، وخصوصًا بعد أزمتها مع نظام جمال عبد الناصر في الخمسينات، قد بدأت في البحث عن مجال جيوسياسي آخر تعمل من خلاله.
وكان هذا المجال، هو أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يقول جونسون إن الإخوان المسلمين كجماعة “وجدت ملاذا آمنًا في أوروبا بعد الحرب، وكان هذا الملاذ ركيزة أساسية فى مستقبل جماعة الإخوان المسلمين”.
وكما يستند الكتاب إلى خلفية تاريخية في تناوله لوجود الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية في الغرب وفي أوروبا على وجه التحديد، فإنه كذلك تناول دور مجموعة من أسماء شخصيات عربية وتركية وإسلامية لها أهميتها في المسرد الذي قدمه لأبرز الشخصيات التي لعبت دورًا في توطيد دعوة الإخوان المسلمين في أوروبا.
ومن أشهر هؤلاء، سعيد رمضان، وهو زوج ابنة البنا وسكرتيره الشخصي، ومحمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للإخوان المسلمين، وغالب همَّت أحد قيادات الجماعة في أوروبا، والحاج أمين الحسيني الرمز التاريخي الفلسطيني، ويوسف ندا أحد رموز المال والأعمال الإخوان في الغرب.
ومن بين الأسماء غير المعروفة، ولكن كان لها أهميتها في هذا التأسيس والصيرورات التي تلته، إبراهيم كاجا أوغلو، وأحمد كمال، وروسي نصار، وسعيد شامل، وغالب سلطان وبياميرزا هايت، وعلي قنطمير، وحسان كساجب، ووالي قيوم، ونور الدين نمنجاني.
هذا العمق التاريخي للعلاقات بين الإخوان وبين الحكومة البريطانية – وبدرجة ما الألمانية – يقول بأن هناك الكثير من الأمور غير المنظورة، وأن هذه العلاقات التي بدأت بخدمات قدمتها الجماعة خلال الحرب العالمية الثانية، قد استمرت على قاعدة المصالح والخدمات المتبادلة، وهذا أمر بديهي، بل ربما هو أحد الحقائق الثابتة – وهو أمر نادر في عالم السياسة – التي تحرك السياسة الغربية.
ويرتبط الإخوان المسلمون في بريطانيا وفي أوروبا بمنظومة مهمة للغاية من المصالح، التي ترتبط بأمور سياسية وأمنية واجتماعية، جعلت لهم أهمية كبرى لدى الحكومات، وخصوصًا الدول التي يكثر فيها المهاجرون المسلمون، باستثناء فرنسا، حيث تقدم الجمعيات والرموز المحسوبة على الإخوان المسلمين – وهذا رسمي ومُعلَن – في أوروبا والولايات المتحدة كذلك، أدوارًا رقابية واجتماعية مهمة، في مجال ضبط المجتمع المسلم في هذه البلدين، وفيما يتعلق بموضوع مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف.
ويتم ذلك من خلال نظام مؤسسي محكَم، حيث يشمل منظومة من الجمعيات، تضمها في أوروبا مظلة واحدة، وهي اتحاد الجمعيات الإسلامية في أوروبا، وفي أمريكا الشمالية نجد الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية “إسنا”.
ويستفيد الإخوان – وغيرهم – في ذلك من بعض الضمانات والأمور التي يوفرها القانون البريطاني من ضمانات للاجئين، والمزايا المالية التي توفرها الحكومة من سكن ورواتب شهرية لكل لاجئ.
إلا أن الصورة ليست على هذا القدر من الوضوح فيما يخص علاقة الإخوان المسلمين ببعض الدول – وليس الحكومات – الغربية، فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، وإن كان هناك الكثير من العلامات التي تشير إلى أن ما يتعلق بذلك الأمر، على نفس درجة الأهمية والمتانة لدور الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي، في داخل الدول الأوروبية والولايات المتحدة كما تقدم.
ومن بين مؤشرات ذلك، فشل كل من مصر – بعد انقلاب يوليو 2013م – والسعودية والإمارات، في حمل حكومات دول أوروبية مهمة أو محورية في حركة السياسة العالمية مثل بريطانيا وألمانيا، على تغيير مواقفها من الإخوان المسلمين.
ولقد بدا ذلك شديد الوضوح في تقرير المراجعة الذي أصدرته الحكومة البريطانية في ديسمبر من العام الماضي، حول الإخوان المسلمين، حيث لم يحمل التقرير الإدانة التي كانت تتوقعها دول المنطقة التي تعادي نظمها الإخوان المسلمين، وتأجل أكثر من مرة إعلان محتواه من جانب حكومة كاميرون، موازنة لعلاقات بريطانيا مع دول محورية في العالم العربي، ولها تأثيرها في الاقتصاد البريطاني، مثل السعودية والإمارات.
هذه النقطة مهمة لفهم حقيقة العلاقات القوية التي تجمع بين الدولة البريطانية وبين جماعات الإسلام السياسي التي لها امتداداتها في الشرق الأوسط، حيث إن بريطانيا في واقعة التقرير هذه، وازنت بين علاقاتها مع الإخوان وبين علاقاتها مع أهم دول المنطقة، بل إنها فضلت عدم إدانة الإخوان ودخلت في أزمة مع السعودية حول ملف حقوق الإنسان.
بل إنه، وقبل ذلك، وفي أبريل 2014م، رفضت الحكومة البريطانية حظر جماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا، قائلة: “لا ينبغي تصنيف الجماعة على أنها منظمة إرهابية”، بالرغم من ضغوط سعودية وإماراتية قوية للغاية، شملت رشاوى مقنعة في صورة صفقات عقارية وسيولة مالية تم ضخها في السوق البريطانية، وصفقات سلاح.
ومن بين الأحداث التي تتكرر، حتى منذ قبل الانقلاب في مصر، بل ومن قبل ثورة 25 يناير 2011م في مصر، وتؤكد هذه الصورة، ديمومة استضافة مجلس العموم البريطاني من فترة لأخرى لرموز من إخوان مصر، ومما يُعرف بمكتب لندن والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
فقبل الثورة وبعدها، ذهب الدكتور محمد سعد الكتاتني، ورموز آخرين من الإخوان، ثم من حزب الحرية والعدالة بعد تأسيسه بعد الثورة، وألقوا كلمات مهمة أمام مجلس العموم من أجل استطلاع مواقفهم من قضايا معينة في مرحلة ما بعد التمكين في مصر.
أنس التكريتي أحد أهم مهندسي علاقات الإخوان في بريطانيا والولايات المتحدة
وبعد الانقلاب، جلس الدكتور إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين للخارج والأمين العام للجماعة على المستوى الدولي، أكثر من مرة أمام مجلس العموم، كان آخرها في جلسة استماع حول الإسلام السياسي وجماعاته، يوم 11 يونيو الجاري.
وبالتدقيق في الشخوص الذين كانوا وراء حضور منير وشخصيات أخرى – من بينها أنس التكريتي رئيس مؤسسة “قرطبة” الإسلامية، ومقرها بريطانيا ورفيق عبد السلام، رئيس دائرة العلاقات الخارجية في حركة “النهضة” التونسية – لهذه الجلسة، والتي كانت بمبادرة كذلك من هذه المجموعة، سوف نقف أمام شخصية بعينها توضح هذا الذي نقول.
هذه الشخصية هي سندس عاصم منسقة الإعلام الخارجي لمكتب الرئيس السابق محمد مرسي، والمحكوم عليها بالإعدام في القضية المعروفة إعلاميًّا باسم قضية التخابر مع حماس، حيث تتنقل بحرية كاملة بين بريطانيا والولايات المتحدة “فقط” – و”فقط” هذه مهمة للغاية في التوضيح – ويعتمد عليها مكتب لندن في عملية التواصل مع وسائل الإعلام الأجنبية، وتلعب هذا الدور من دون أي اعتراض من الحكومات المعنية.
الإخوان وأوروبا بعد الخروج البريطاني: اختلافات ومراوحات
هذه المتانة من العلاقات، استمرت منذ عقود طويلة، ولم تتبدل بتبدل الحكومات البريطانية، بين عمالية ومحافظة، يسارية ويمينية، مما يشير إلى أن التقييم الذي يقول بأن ما جرى سوف يؤثر على الإخوان وقدرتهم على الحركة في مناطق نفوذ التحالف الأنجلو ساكسوني؛ غير دقيقة.
وذلك – بأبسط تقدير – يعود إلى استمرار المصالح وبواعث الخدمات التي تقدمها الجمعيات الإسلامية التي أسسها الإخوان في دول أوروبا في العقود الماضية، في الاستمرار، بل وتنامي أهمية دور الإخوان فيها، في ظل انتشار الخلايا التكفيرية والأفكار المتطرفة في الأفق الأوروبي بالكامل، وزيادة موجات الهجرة من بلدان الأزمات في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، والتي معها يمكن دخول قافلة “إرهابيين” إلى أوروبا، وليس مجرد أصحاب أفكار متشددة أو ما شابه.
التأثير الأهم على الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي المتمركزة في منطقتنا العربية والإسلامية، سوف يكون في دول معينة في الاتحاد الأوروبي.
وهو ما يعيدنا إلى النقطة المفتاحية الثانية المتعلقة بوجود إدراك لدى بعض الحكومات الأوروبية، بأن التحالف الأنجلو أمريكي، ومَن يتعاون معه مِن حكومات وجماعات (في هذه الحالة من بينها تنظيم “داعش” الغامض والجماعات التي بايعته) قد بدأ حرب نفوذ ضد الاتحاد الأوروبي كمركزية دولية، مع تهديد مصالح دول الاتحاد المؤثرة في الخارج.
ويبدو ذلك واضحًا في الصراع الفرنسي الأمريكي في إفريقيا جنوب الصحراء، ومناطق غرب إفريقيا الغنية بمصادر الطاقة المختلفة والمعادن الثمينة وعلى رأسها النفط واليورانيوم والبوكسايت والألمنيوم، في نيجيريا وتشاد ومالي والكونغو وبوركينا فاسو وكوت ديفوار والكاميرون، حيث لفرنسا وبلجيكا احتكارات وامتيازات تعود إلى الحقبة الاستعمارية نفسها!
وهذا ليس خافيًا طبعًا على هذه الدول، ولذلك نسمع عن تحالفات إقليمية ودولية جديدة بدأت في البناء، تشمل القوى المعادية للنفوذ الأمريكي البريطاني الآخذ في التحرك بين ظهرانينا، مثل فرنسا وروسيا، ومن المنطقة، ينضم إليهم مصر بشكل أساسي، بينما تركيا تمثل الذراع الإقليمية الأساسية للتحالف الأنجلو ساكسوني.
ولعل ارتباط الحكومة التركية الحالية بالإخوان، سيكون مؤذيًّا لهم في المرحلة المقبلة، بسبب النظرة الفرنسية الروسية للأدوار التي تقوم بها تركيا للولايات المتحدة، بالوكالة في المنطقة، بالرغم من أن السياسات الأمريكية أكثر من آذت في المنطقة، كانت تركيا، حيث يجري عليها مخطط الفوضى الهدامة وتقسيم المركزيات هذا، من خلال دعم الأكراد في سوريا، وبالتحديد الأطراف الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني الانفصالي.
هنا يكون للتساؤل حول ما جرى في بريطانيا من تأثيرات على الإخوان المسلمين في أوروبا، حيثية، حيث إن الاستجابة الفرنسية والألمانية في هذا الملف، للمطالب والتقارير المصرية على وجه الخصوص، أقوى من بكثير من تأثيرات القاهرة والرياض وأبو ظبي، على لندن وواشنطن.
لكن إلى أي مدى؟! لن يمكن معرفة ذلك على وجه التحديد، ربما باستثناء فرنسا، حيث الأدوار الوظيفية التي بدأت منذ عقود طويلة للإخوان في أوروبا بالكامل، مستمرة، ولا يمكن الحديث عن نقضها بسهولة.
كما أن ذلك سوف يتوقف على قدرة دول المنطقة التي تعادي الإخوان المسلمين، على العمل على هذا الملف مع الحكومات الأوروبية، وقدرتها على توظيف “الحظوة” الإخوانية لدى لندن وواشنطن، في موضوع الأزمة الراهنة التي تواجه الاتحاد الأوروبي.
أيضًا هناك عامل مهم سوف يتحكم في هذا الأمر، سوف يظهر خلال الفترة المقبلة، وهو نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث إن الجمهوريين، ومن الآن قد اقترحوا مشروع قانون لتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية، وهو ما يشير إلى طبيعة الموقف لو فاز دونالد ترامب، الأقرب للفوز بترشيح الجمهوريين للانتخابات.
فيما سوف تتغير الصورة إلى النقيض لو وصلت الديمقراطية هيلاري كلينتون للبيت الأبيض، من خلال تصريحات ومواقف عديدة لها في السنوات الماضية، تشير إلى أنها تفضل تحالفًا مع الإخوان المسلمين عن نظام عسكري في مصر، على سبيل المثال.