جاء الخبر المنشور على موقع المنظمة الدولية “إعلان بري” المعنية بالحفاظ على قانون التجارب السريرية على موقعها الإلكتروني بشأن قيام شركتان سويسريتان في مصر بإجراء تجارب – غير أخلاقية – في مجال بعض أدوية السرطان الحديثة على المصريين دون علم وزارة الصحة المصرية وبما يخالف القانون، ليضيف حلقة جديدة من مسلسل الانتهاكات التي يتعرض لها المواطن المصري تحت مرأى ومسمع من الحكومة.
وبالرغم من تشكيك البعض في مضمون هذا الخبر، إلا أن المؤشرات الناتجة عن سابقة أعمال الشركات الأجنبية العاملة في مصر تسير في هذا الاتجاه بصورة كبيرة، لاسيما وأن تاريخ التجارب “غير الأخلاقية” التي يتم إجراؤها في مصر بات معلومًا للجميع، فهل تحول المصريون إلى “فئران تجارب” للشركات متعددة الجنسيات؟ وأين دور الدولة في حماية المواطن من الولوج في هذا المستنقع؟
ليست المرة الأولى
لم يكن التقرير المنشور على موقع منظمة “Bern Declaration” هو الأول من نوعه بشأن قيام بعض الشركات الأجنبية بإجراء تجارب غير أخلاقية على المصريين، فهناك سابقة أعمال “مخزية” توصم جبين كل مسؤول عن صحة أبناء هذا الوطن بالعار، بشأن تحويل الشعب المصري إلى حقل تجارب لكل من أراد اختبار أي سلعة أو منتج أيًا كان نوعها، بصرف النظر عن آثارها الجانبية وما يمكن أن تحمله من مخاطر على حياة المواطن، فهذا آخر ما يُلتفت إليه.
وفي جولة سريعة للوراء قليلاً نقف على حجم الكارثة الحقيقية التي يعاني منها المواطن المصري جراء تركه فريسة لأحلام الثراء السريع والرخيص للشركات الأجنبية، ولعل ما حدث في فضيحة دواء “السوفالدي” الخاص بعلاج فيروس سي الكبدي الوبائي، تجسد الواقع المؤلم الذي يحياه أبناء هذا الوطن.
وكيل نقابة الصيادلة الدكتور مصطفى الوكيل، كشف في أكثر من موقف عن حجم الفساد الذي شاب مفاوضات صفقة الحصول على “السوفالدي”، ملفتًا أن لجنة الفيروسات الكبدية افتقرت إلى وجود مختص أو خبير في لجنة الدواء أثناء التفاوض على المنتج قبل تمريره إلى المرضى المصريين، وهو ما أدى بعد ذلك إلى كارثة حقيقة راح ضحيتها الآلاف من مرضى الكبد في مصر.
الوكيل حذر من تناول المرضى المصريين لهذا الدواء قبيل الانتهاء من اختباره بصورة كاملة، فضلاً عن الحملة التي شنها أساتذة الكبد وأعضاء الجامعات المصرية والتي تحذر من هذا العلاج، إلا أن مهندسي الصفقة والمتربحين من ورائها ما كان أمامهم إلا تمريرها دون أي اعتبارات أخرى، ومن هنا تحول المصريون إلى فئران تجارب لاختبار هذا المنتج في مصر قبيل تسويقه عالميًا.
جاءت النتائج الكارثية لتناول هذا الدواء لتلقي بظلالها القاتمة على الشارع المصري بصورة عامة، وهو ما دفع بعض المنظمات والهيئات لمقاضاة وزارة الصحة بسبب هذا التجاوز غير القانوني أو الأخلاقي والذي يودي بحياة المصريين دون أدنى مسؤولية تذكر لدى القائمين على أمور هذا الوطن، وعلى الفور قدم المركز المصري للحق في الدواء كوكيل عن أكثر من عشرين مريضًا من ضحايا العلاج بعقار السوفالدي، بلاغًا للنائب العام اتهم فيه اللجنة القومية للفيروسات الكبدية والوزير السابق للصحة عادل عدوي بارتكاب مخالفات جسيمة في بروتوكول العلاج الخاص بمرضي فيروس سي باستخدام العقار علي آلاف الحالات قبل أن يقرر أعضاء الجامعات المصرية وأساتذة الكبد على مستوى مصر تفعيل بروتوكول استخدام العلاج للفيروس واتخذت لجنة الفيروسات الكبدية قرارها منفردة دونما انتظار لقرار اللجان المشكلة لبحث الأمر.
البلاغ كشف عن وفاة بعض مرضى التليف الكبدي جراء تناول هذا العقار، فضلاً عن “ديكتاتورية” لجنة الفيروسات الكبدية في اتخاذ قرارها دون النظر إلى رأي ما يقرب من 100 أستاذ كبد من مختلف الجامعات المصرية ممن دعتهم اللجنة للتصويت على بروتوكول العلاج، محملاً إياها – أي اللجنة – مسؤولية ما يترتب على تناول هذا العقار الذي لم يخضع للتجربة في أمريكا سوى على أقل من مائة حالة، ومن ثم لا يمكن البناء عليها، مما دفع شركات إنتاج العقار للبحث عن فئران تجارب جديدة لاختبار عقارهم الغالي الثمن، فما كان أمامهم سوى المصريين لإجراء آلاف التجارب عليهم دون حساب أو مراقبة.
مصريون للإيجار
في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ مصر الحديث، كشف المركز المصري للحق في الدواء عن فضيحة جديدة مدوية من طراز مختلف، تتعلق بـ “استئجار” المصريين كـ “فئران تجارب” لبعض الشركات الراغبة في اختبار عقاراتها، مقابل مبلغ من المال، وهو ما تجسد في الإعلان الذي قامت به شركة “وادي سيلكون” البريطانية للبحث عن متطوعين يتناولون عقارها الجديدة لمدة عام تقريبًا مقابل الحصول على 420 ألف جنيه مصري.
المركز رصد في تقريره تردد بعض المواطنين على إحدى المستشفيات المملوكة لأحد أساتذة طب الجهاز الهضمي بمدينة السادس من أكتوبر، فضلاً عن رصد حافلات لنقل بعض مواطني محافظة الدقهلية إلى مقر المستشفى لاختبار عقار “دكلانزا” و”سوفالدي” مع وضعهم تحت الإقامة هناك طيلة فترات العلاج، في غيبة تامة عن وزارة الصحة أو أي جهة رقابية أخرى.
يذكر أن المركز قد حذر قبل عامين من وجود شكوك حول تجارب تتم داخل عدد من المستشفيات التابعة للجمعيات الخيرية، خاصة التي تحصل على تمويل دولي سنويًا، كما أن أحد مواقع التجارب الشهيرة أكد أن هناك تمويل بلغ أكثر من 100 مليون دولار لتجارب معلنة وتمت الموافقة عليها من وزارة الصحة المصرية إلا أنه لم يتم إعلان نتائجها.
وبالرغم من مخالفة هذه الإجراءات للاتفاقية الدولية الخاصة بقانون “نورنبرغ” 1947، وإعلان “هلسنكي” الصادر عن الجمعية الطبية العالمية في 1964، التي تشترط موافقة الأشخاص على تناول العقار بعد معرفتهم بمخاطره وآثاره الجانبية، فضلاً عن عدم جواز إعطاء تعويضات سخية للمرضى مقابل تناولهم لهذا العقار، إلا أن الأمور تسير في مصر بسلاسة وأريحية لا تقلق المتورطين فيها، في ظل انشغال وزارة الصحة بمشاكلها الداخلية وأزماتها اليومية.
الفقر وغياب القوانين الرادعة
لم يكن اختيار الشركات العالمية لمصر وغيرها من الدول الفقيرة لاختبار عقاراتهم اختيارًا عشوائيًا، بل هناك العديد من الدوافع والأسباب التي استقرت في عقلية إدارة هذه الشركات لاعتماد مثل هذه الاختيارات، ففي تقرير نشر بمجلة “ذي لانسيت” 2006، كشف أن شركات دواء كبرى أجرت أكثر من 80% من التجارب العلاجية خارج الأسواق الغربية، خاصة في الدول المنخفضة التكلفة ودول فقيرة مثل زامبيا ومصر والهند.
فمثل هذه الشركات لا تجد في بلدانها الأصلية هذه المرونة في التلاعب بحياة مواطنيها، فضلاً عن وجود حزمة من القوانين الرادعة التي تجرم تعريض حياة أي مواطن للخطر أيًا كانت نسبته، ومن ثم فليس أمام هذه الشركات سوى البحث عن دول أخرى تفتقد لهذه القوانين، ولا تعبأ كثيرًا بحياة مواطنيها، فضلاً عن العزف على وتر الفقر والعوز والذي يدفع الإنسان إلى التنازل عن كثير من حقوقه في مقابل الحصول على حفنة من المال، وهو ما دفع ملاك هذه الشركات إلى الدول الفقيرة وفي مقدمتها مصر التي يقبع نصف سكانها تحت مستوى خط الفقر، فضلاً عن تصدرها لقائمة الدول الأكثر إصابة بأمراض الكبد الوبائي والسكري والفشل الكلوي، إضافة إلى 19 مليون مواطن بها يسكنون العشوائيات والمقابر.
ومن المضحكات المبكيات في هذا الموضوع أن التجارب التي تجرى على المصريين بشأن اختبار عقار ما ليس لها أي فائدة تذكر عليهم فيما بعد، لأن هذه العقارات قد صممت خصيصًا على مواطنين مختلفين في الجنس والجينات الوراثية، وما ينطبق عليهم قد لا يكون صالحًا للآخرين والعكس، مما يجعل المواطن هنا ليس أكثر من فأر تجارب يتقاضى أجره عن عمله فقط، دون أن يعود هذا العقار الجديد عليه بالفائدة مستقبلاً.
الفقر في مصر… أبو الخبائث
الحقوقي عامر سعد الدين عضو الجمعية المصرية لحقوق الإنسان طالب وبشدة بوجود قوانين رادعة وصارمة لمثل هذه التجارب، مع ضرورة وضع إطار قانوني تنظمه الدولة لحماية حياة المواطن، والحيلولة دون وقوع المصري فريسة لإغراءات هذه الشركات العالمية.
سعد الدين طالب أيضًا بمزيد من الرقابة من قبل وزارة الصحة، وأن تكون هناك لجانًا مستمرة للتمشيط على المستشفيات العامة والخاصة، والوقوف على حالات المرضى بها، وتحجيم أي محاولات للنيل من كرامة المواطن وصحته مهما كان المقابل المادي.
وفي المقابل أكدت عصمت الميرغني، رئيس اتحاد المحامين الأفروآسيوي لحقوق الإنسان، أن القانون يعاقب كل شخص وافق على هذه الدراسات الطبية الإكلينيكية أو من أشرف عليها أو من أجراها، وذلك وفق الاتفاقية المتفق عليها بين الدول، بغرامة مالية لا تقل عن 20 ألف جنيه، ولا تزيد على 100 ألف جنيه، مشيرة أنه يعاقب كل من ثبت عليه التربح من إجراء تلك البحوث بغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه، ومعاقبة أي مؤسسة تُجري دراسة طبية على الإنسان، دون أن يكون مؤهلًا لذلك، والعقوبة لكل من أخفى معلومات أو آثارًا جانبية عن المبحوث أو لجنة الأخلاقيات الطبية أو لجنة مراجعة البحوث والدراسات الطبية بوزارة الصحة.
إلا أن الواقع يخالف ما أقره القانون تمامًا، فليس من المعقول أن تكشف الشركات الأجنبية العاملة في مصر عن مخططها لاختبار عقاراتها، كما أن المستشفيات التي تجرى فيها هذه الاختبارات ليست من السذاجة أن تفضح نفسها بالإعلان عن مشاركتها في هذه الجريمة، لاسيما وأن الآلاف من المؤسسات الطبية في مصر – الحكومية والخاصة والخيرية – لا تخضع للإشراف الطبي الكامل، مما يجعلها تربة خصبة لمثل هذه الممارسات غير الأخلاقية.
بالأمس كنا نبيع أعضاءنا من أجل المال، واليوم صرنا “فئران” تجارب أيضُا لأجل المال، ليبقى السؤال: لماذا يتحمل المواطن المصري تسديد فاتورة فشل الأنظمة والحكومات التي أودت به إلى مؤخرة الركب؟ إلى متى سيتجرع أبناء هذا الوطن مرارة حصاد (الفقر – الجهل – المرض)؟ وأين دور الدولة في حماية مواطنيها من الولوج في هذا المستنقع؟