وأخيرًا حدث ما كان قد حذر منه العديد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم رئيس مجلس الاتحاد دونالد توسك (Donald Tusk) أو رئيس المفوضية الأوروبية أو وزير الخارجية الألماني أو المستشارة أنجيلا ميركل أو الرئيس الفرنسي أو حتى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حيث حسم الشعب البريطاني أخيرًا خياره من خلال استفتاء تاريخي قام بتنظيمه رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون في 23 من يونيو/ حزيران الحالي، إذ قرر البريطانيون من خلاله الانسحاب التام من الاتحاد الأوروبي، غير أن هذا الطلاق بين الطرفين لا يمكن أن يمر بسلاسة أو دونما تداعيات على فكرة أوروبا الموحدة كما يمكن أن يظن البعض.
وقد بدأت المؤشرات الأولى لهذه التداعيات فعليًا وبشكل سريع من خلال مطالبة زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني في فرنسا بإجراء استفتاء شعبي (Frexit) على غرار نظيره في بريطانيا حول البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، كما بدأت ترتفع نفس الأصوات المشككة في جدوى الاتحاد ومدى قابليته للاستمرار من هولاندا من خلال الزعيم اليميني المناوئ للهجرة خيرت فيلدرز (Geert Wilders) أو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، المنادي بضرورة الاستماع لصوت الشعوب واحترام خياراتها.
كما لا بد من الإشارة في ذات السياق إلى مطالبة رئيسة الوزراء الإسكتلندية بضرورة إجراء استفتاء ثانٍ في بلادها حول البقاء ضمن المملكة المتحدة أو الانفصال عنها مع الإعلان عن نية بلادها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن مطالبة إسبانيا بتقاسم السيادة على جبل طارق مع بريطانيا، ينضاف إلى ذلك تلويح تركيا بإجراء استفتاء داخلي حول الاستمرار في مفاوضات الانضمام أو الانسحاب من هذا الماراثون التفاوضي الطويل، يأتي ذلك بالتزامن مع اتهامات الرئيس أردوغان لشركائه الأوروبيين بعدم احترام الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين لاسيما منها ذات الصلة بتأشيرات دخول الأتراك إلى المجال الأوروبي.
فالاستفتاء “التاريخي” الذي أثار الكثير من الجدل ولازال، جاء ليكشف من جديد، أن الاتحاد الأوروبي يمر هذه الأيام بأصعب فتراته وأكثرها حساسية منذ تأسيس لبنته الأولى في 18 أبريل/ نيسان 1951، بالنظر لتراكم جملة من العوامل والمؤثرات التي أضحت تؤرق كبار قادته وتهدد بتقويض هذا الحلم النموذجي الذي لطالما راود شعوب أوروبا ونخبها، منذرًا بانقسام حاد في المواقف بين شرق أوروبا وغربها.
غير أن أكثر هذه العوامل خطورة يظل ملف الهجرة والنازحين، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وصعود التيارات اليمينية الشعبوية والأحزاب القومية، والنزوع المتنامي إلى تبني سياسات أكثر انغلاقًا وحمائية، وغلق الحدود في وجه اللاجئين والمهاجرين ضدًّا على المبادئ والفلسفة التي تأسس عليها الاتحاد، فضلاً عن مشاكل فضاء شنغن (Schengen) ومنطقة اليورو والإرهاب، والتباين الحاد في الإمكانيات الاقتصادية للدول الأعضاء الذي يصل حد التناقض أحيانًا، لا سيما بين دول شرق أوروبا وبين غربها، وتنافسية اليد العاملة الأوروبية الشرقية مقارنة مع نظيرتها الغربية، وتفاقم أزمة البطالة، وهي تعتبر جميعها بمثابة أسباب مباشرة لكافة المشاكل الاقتصادية بحسب منظور هذه التيارات.
هذا الواقع لن يزيد على ما يبدو الوضع الأوروبي إلا تعقيدًا وضبابية، كما لن يزيد بناءه الجامع إلا تآكلاً وتداعيًا كقطع الدومينو، إن لم يتم القيام بسلسة إصلاحات هيكلية وقانونية على بنية الاتحاد والتخفيف من قيوده البيروقراطية، الشيء الذي يبدو أكثر استعجالاً، بغية الحد من حمى التشكيك في جدوى الاتحاد والمطالب المتزايدة بالانسحاب أو الانفصال.
هذا الوضع الدقيق وغير المسبوق الذي يمر منه الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن يمر دون أن يرخي بظلاله أيضًا على علاقة الثقة بين دول حلف الشمال الأطلسي سواء بطريقة أو بأخرى، لاسيما في ظل المخاطر الأمنية المحدقة بدول الاتحاد، خصوصًا وأن الأمر يجري في سياق حالة رصد وتقييم لهذه الظرفية من قبل الغريم الروسي الذي يبدو مبدئيًا المستفيد الأكبر من هذا الوضع الحساس.
مع أخذنا بالاعتبار أن الاتحاد الأوروبي الذي فقد للتو عضوًا دائمًا ثانيًا في مجلس الأمن بعد فرنسا، وقوة عسكرية واقتصادية هي الخامسة عالميًا، والمنهمك الآن في ترميم بيته الداخلي واستيعاب هول الصدمة الناجمة عن هذا الانسحاب، متورط في فرض وتجديد عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا قد تسببت في خسائر فادحة على اقتصادها على خلفية الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم، وفي ظل تزايد المخاوف من التلويح باستعمال سلاح الطاقة الروسي أو تكرار نفس سيناريو القرم في دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا ولتوانيا)، وفي ظل احتمالية تقارب تركي – روسي وشيك قد يتجاوز أزمة إسقاط الطائرة سوخوي الروسية العام الماضي وحالة “الجفاء” الناجم عنها، وفي ظل حالة الضعف والسلبية التي أبدتها إدارة أوباما (الحليف الاستراتيجي لأوروبا) في التعاطي مع كثير من الملفات وبؤر التوتر عبر العالم وعلى رأسها أوكرانيا والصراع السوري في الوقت الذي أبدت فيه روسيا مواقفًا متصلبة وما يمكن أن ينجم عن ذلك من حالة التشكيك في قدرتها على الالتزام بالدفاع عن حلفائها داخل الحلف.