تعد الدولة كتجمع سياسي لمجموعة من المؤسسات تدير شؤون الأفراد في نطاق إقليمي محدد بممارسة ما يسمى بـ”السلطة” وهو الأمر الذي يكسبها الشخصية القانونية، حيث تعتبر الدولة هي صاحبة القوة العليا في المجتمع بغير قيد، وهي بهذا الأمر تعلو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة، وقد دفع ذلك توماس هوبز إلى وصف الدولة بالتنين البحري أو الوحش الضخم.
من خلال هذا الدور المنوط بالدولة يمنحها المجتمع قوة الإرغام بالقانون للالتزام بالقوانين، كما تمنح الدولة سلطة المعاقبة في حالة المخالفين، أي أن الدولة تحتكر ما يسمى بأدوات العنف الشرعي داخل المجتمع.
هذه هي النظريات والتعريفات السياسية لمفهوم الدولة ودورها، لكن ما يُمارس في الحالة المصرية الآن يُدل على تلاشي هذا الدور لصالح تجمعات أخرى من القوى المنظمة والغير منظمة، حيث باتت طوائف المجتمع السلطوية أو غير السلطوية تمارس نشاطها خارج نطاق قانون الدولة.
طوائف الحكم تخرج عن السيطرة
قد تكون بداية القصة في مصر خروج طوائف الحكم خاصة الطوائف التي تحتكر العنف الشرعي عن سيطرة مجمل قوانين الدولة بصناعة طبقات حكم خاصة بامتيازات محددة على أساس النفوذ بشكل بعيد كل البعد عن قانون الدولة، أو على أقل تقدير محاولة تكييف هذا القانون مع هذه الأوضاع الاستثنائية.
على سبيل المثال صنعت أجهزة الأمن المصرية الشرطية بمختلف فروعها نفوذًا داخل النظام حاليًا أتاح لها ممارسة العنف خارج إطار القانون، والأمر بدأ كعادته في الأنظمة الديكتاتورية بالتنكيل بالمعارضين لحماية النظام، إلا أن الأمر تتطور مع هذه الأجهزة الأمنية لممارسة العنف خارج هذا النطاق الضيق إلى نطاق أوسع يطال شرائح المجتمع، إذ تكونت تجمعات مصالح داخل هذه الأجهزة تدير شبكات معقدة جدًا من الجريمة، أو تتداخل مع غيرها من الشبكات الاجتماعية الأخرى، مستفيدة بوضعها داخل النظام.
لا يمكن أن نغفل هنا ما عُرف مؤخرًا بدولة “أمناء الشرطة” التي هي إحدى تجليات هذا الخروج عن السيطرة، بعد تعدد حالات القتل خارج إطار القانون التي تمارسها، وبعد كشف وقائع ممارسة بلطجة من هذه الفئة في الشارع مستعينة بسلطتها الرسمية.
كما يجدر بنا الإشارة إلى وقائع ارتباط عناصر من وزارة الداخلية مع كبار تجار المخدرات وهو الأمر الذي ظهر في قضية القليوبية الأخيرة التي أثارت ضجة بعد اتهام ضباط من مختلف الرتب بالتنسيق مع عصابات للاتجار بالمخدرات.
أما بالنظر إلى طائفة أخرى من طوائف الحكم وهو الجيش الذي استدعى نفسه للحكم في الثالث من يوليو الماضي، يمكن رؤية ببساطة ما ينشغل به بعيدًا عن أمور الدفاع والأمن القومي المنصوص عليها في الدستور والقانون، وهي أمور جلها متعلق بالاقتصاد، حتى أن البعض أصبح يعتقد أن الجيش “شركة اقتصادية” لا غير بعد إطلاق يده في كافة المنافسات الاقتصادية للدولة، وقد أصبح همه الأول تكريس هذا الوضع الاحتكاري خارج إطار أي قانون أو كما ذكرنا من قبل بتقنين هذا الوضع.
في ظل خروج هذه الطوائف الأمنية عن السيطرة تجد طوائف القضاء والبيروقراطية هي الأخرى تحاول إيجاد رقم لها في المعادلة يخرجها من مفهوم الدولة بشتى الطرق، لتشكل مصالحها الخاصة خارج إطار القانون، وتدافع عنها بسلطتها.
إلا أن الوضع الأساسي الذي يظهر تلاشي فكرة الدولة هو عدم قدرة هذه المكونات التفاعل مع بعضها البعض بشكل كافي للحفاظ على حد أدنى من التنظيم، كما كان في العهود السابقة، مع وضع هامش مجتمعي للتنفيس.
إلا أننا نجد في حالة المؤسسات الأمنية أنها تركت دورها الأساسي المنوطة به وتحولت إلى مجموعة من المليشيات تحاول تحسين وضعها داخل النظام، وتمارس سلطتها على المجتمع بما يخدم هذا الوضع، ولا تعبئ بتناقص دورها في مسألة ضبط الأمن داخل المجتمع.
رد فعل المجتمع
هذه الطوائف تتفاعل داخل المجتمع المصري بلا شك، وعدم قيامها بدورها الأساسي كمؤسسات للدولة يؤثر بالطبع على هذا المجتمع الذي قرر فيما يبدو الاعتماد على نفسه مرة أخرى، بعد أن أصبح لا يرى الدولة إلا في حالة التسلط عليه كمواطن وفقط.
ظهور صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تحمل اسم “السراج لاعمال البلطجة واستخلاص الحقوق” هو أحد تجليات تلاشي الدولة ومحاولة المجتمع الاعتماد على نفسه بعيدًا عن طوائف الدولة المتصارعة.
هذه الصفحة تقدم خدماتها الأمنية والقضائية على ما يبدو في مسألة استخلاص الحقوق المهضومة داخل المجتمع المصري، بعدما لخصوا أهدافهم في أحد منشوراتهم بأن هناك من يريد أن يأخذ حقه ولكنه لا يستطيع، بمعنى أن يضطلع مجموعة من البلطجية بدور الشرطة في قضايا استرداد الحقوق مقابل مبلغ من المال، بل إن هذه المجموعة تراعي الظروف الاقتصادية للمواطنين وتعرض خدماتها بأسعار رخيصة بحسب الصفحة.
الصفحة ربما أجابت على السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، لماذا يجب عليك الذهاب إليهم بدلًا من الشرطة؟
وكانت الإجابة هي أن هذه البلد لا يوجد بها قانون وهو إدراك مجتمعي حقيقي لما يحدث من تطورات داخل بنية السلطة والنظام، وقد ضربوا أمثلة لما يُعانيه المواطن العادي يوميًا من مواقف تضيع فيها الحقوق بسبب عدم تطبيق القانون، ولذلك قرروا أن يكونوا طرفًا في معادلة القوة بكسر احتكار الدولة للعنف والقوة.
وضعت الصفحة أسعار لكل مهمة مطلوبة، وفعلت عروضًا بمناسبة شهر رمضان في أحد تجليات الظاهرة كوميديًا، وقد شهدت الصفحة تفاعلا غير مسبوق من المواطنين، الأمر الذي لفت انتباه الإعلام، وهو ما جعل الأمر يتعقب الصفحة ومؤسسيها، وردًا على ذلك أعلن مؤسسوا الصفحة أنها ستغلق عما قريب.
بعيدًا عن الصفحة ومدى جديتها فهي تؤكد إدارك المجتمع لما يحدث حوله، ووعيه لبداية فكرة تلاشي الدولة داخل مصر وتفككها إلى كيانات وطوائف متصارعة ويجمعها في النهاية التسلط على المواطنيين، لذا يبدو أننا سنرى قرارًا مجتمعيًا وشيكًا بمواجهة هذه الحالة بأنفسهم، وقد تبدأ بمسألة ضبط الأمن عن طريق إدارة البلطجة بالمال كمنوذج هذه الصفحة التي تقدم خدمات استرجاع الحقوق مقابل المال.
الفكرة ليست بالجديدة
مهنة البلطجي الذي يسترد الحقوق مقابل المال ليست بالجديدة في مصر، بل إن السينما المصرية والدراما عرجت عليها كثيرًا داخل المجتمعات الشعبية بشكل أو بآخر، وكذلك يمكن اعتبار مفهوم “الفتوة” قديمًا مرادفًا لهذه الصورة.
إذ تكون مهمة هذا “الفتوة” حماية منطقة ما مقابل دفع “الإتاوة” كل فترة معينة من الوقت بعيدًا عن الدولة ومؤسساتها الأمنية، وقد اعترفت الدولة حينها ضمنيًا بهذا الشكل بل ونسقت مع هؤلاء الفتوات في كثير من الأحيان، وقد نرى صور هذا الأمر عن قرب في رواية “الحرافيش” للأديب نجيب محفوظ الذي نقلها بصورة عبقرية.