“لندن، قلب أوروبا المالي بات بلا نبض الآن” هذه العبارة هي ملخص التداعيات الاقتصادية المتوقعة على القارة الأوروبية الآن بعد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد ما يقرب من 4 عقود على استفتاء مماثل قضى بالبقاء بمنطقة الاتحاد الأوروبي الدافئة، حيث انضمت بريطانيا في العام 73 للمجموعة الأوروبية في استفتاء شعبي، بأغلبية الثلثين، قبل أن تبرز للسطح الآن ملفات الهجرة والرعاية الاجتماعية، وسيادة بريطانيا، ومنطقة اليورو، لتعيد العلاقة بين الطرفين لنقطة اللاعودة، وأذكت مشكلة هجرة الشرق أوسطيين والهجمات الإرهابية مطالب الانسحاب، وكانت أهم تلك المشكلات هي قضية اللاجئين السوريين.
كارثة سياسية واقتصادية
فجأة تخلت عاصمة التاج عما يقارب الألف عام من آمال أوروبا الموحدة المنهكة من المشكلات الاقتصادية، واتفاقيات اللاجئين التي استغلها اليمين البريطاني المتطرف لدفع مواطنيه للتصويت بنعم على الخروج، الذي يعد كارثة سياسية واقتصادية على الحلفاء الأوروبيين وحتى الأمريكيين، لكن ماذا عن دول الخليج واستثماراتها المقدرة حسب ورقة بحثية قدمتها أستاذة الاقتصاد سوزان سميث خلال مؤتمر متخصص أقيم في لندن قبل سنوات، تقول فيها إن إجمالي الأموال العائدة لصناديق الاستثمار الخليجية والمتداولة في بريطانيا تصل إلى خمسة تريليونات دولار أمريكي، وهذا الرقم يشمل الأصول الثابتة والأموال المنقولة والأسهم والسندات وغير ذلك؟
أصول وسندات عقارية
فبعد أن فرضت الحكومة الأمريكية قيودها الصارمة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، على حركة الأموال الأجنبية وخاصة العربية منها، وقيامها بتجميد كثير من حساباتها في البنوك الأمريكية، وتشديد الإجراءات لحرية السفر ودخول الأفراد إلى الولايات المتحدة، قامت الدول الخليجية بتحويل بوصلة استثمارها إلى دول أوروبا وخاصة بريطانيا، لما اتصفت به من وجود مناخ أفضل وآمن وأكبر عائد، وأكثر ترحيبًا باستثماراتهم.
ووفقًا لكل النشرات الاقتصادية المتداولة فإن الاستثمارات العقارية العملاقة لدول الخليج بلندن تمثل أكثر من 70% من إجمالي مبلغ الاستثمارات الخليجية ببريطانيا، حيث تشكل عقارات وسط لندن واحدة من الوجهات التقليدية للمستثمرين الخليجيين، ويمتلكون بها عقارات عملاقة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، ومن بينها عقارات سكنية وفنادق خمس نجوم ومساحات مكتبية، وتتركز أغلبها في مناطق وسط لندن المحيطة بحديقة “هايد بارك”، وهي أكبر وأشهر حديقة في العالم، ناهيك عن أن صناديق الاستثمارات السيادية لكل من السعودية وقطر والإمارات، تتربع على قوائم المستثمرين في العقارات البريطانية، تستحوذ المملكة العربية السعودية وحدها على 60% من هذه الاستثمارات، و20% منها لدولة قطر، وتتقاسم باقي دول الخليجية الـ20% المتبقية.
تراجع وانهيار
ربما تشهد تلك الاستثمارات هزة قوية بحسم الاستفتاء لصالح المعسكر الرافض للبقاء في “اليورو”، وفقد الجنيه الإسترليني 11% من قيمته، وما سيليه من خسائر، سينعكس سلبًا على هذه قيمة وعوائد هذه الاستثمارات، بالإضافة للأثر النفسي لخروج البريطانيين كون معيار الثقة بالاقتصاد الأوروبي قد يهتز، وقد يجر وراءه تراجعات العملة الأوروبية على الرغم من عدم انضمام لندن إلى نادي اليورو أصلاً، وبالتالي قد تتراجع قيمة العملة الموحدة، ما ينتج عنه مباشرة انخفاض في قيمة الاستثمارات.
حيث أشار تقرير صادر عن شركة “نايت فرانك” العقارية” إلى أن أسعار العقارات في وسط لندن هبطت خلال عام واحد بنسب تتراوح بين 3.5% و7.5%، وذلك بسبب المخاوف من الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن هذه التراجعات مرشحة للتفاقم بعد الخروج، فيما يتوقع بعض المتشائمين أن ينهار القطاع العقاري، وتتراجع الأسعار بصورة حادة.
وقال التقرير إن مناطق مثل “نايتسبريدج” و”ساوث كينزينغتون” و”تشيلسي” في وسط لندن هي الأكثر تأثرًا، وهي المناطق الأغلى في لندن على الإطلاق، كما أنها الوجهات التقليدية للمستثمرين الخليجيين، بل تكاد تكون أحياء خليجية لكثرة ما يقصدها الخليجيون، و20% من مشتريي العقارات لأغراض الاستثمار والتأجير خلال العام 2015 كانوا من دولة الإمارات.
بديل الكومنولث
رؤى أخرى تقول بعكس هذه التوقعات فيما يخص أثرها السلبي على الاقتصاد البريطاني والاستثمارات فيه، ومن ضمنها الاستثمارات الخليجية العقارية، معولة على استفادة بريطانيا من موقعها المالي العالمي القوي، ومن علاقاتها الممتدة مع الولايات المتحدة، وهو ما سيبقي اقتصادها قويًا ومتينًا، حتى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فلندن هي عاصمة العالم المالية، وخروجها من الاتحاد الأوروبي يضره ولا يمسها ، حيث يعتبر البريطانيون استمرار تواجدهم بالاتحاد استنزافًا لهم، معتمدين على واقع أن بريطانيا العظمى وامتدادها لمجالها في مناطق”الكومنولث” يغنيها عن الالتزام بتقليص سيادتها السياسية والاقتصادية، لصالح سيادة الاتحاد الأوروبي الذي يهيمن عليه اتحاد نقدي هي بالأساس ليست عضوًا فيه.
يعول أصحاب هذا الرأي على أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يفتح باب الاجتهاد لدخولها في مفاوضات تجارية جديدة مع دول عربية عديدة، وفى مقدمتها دول الخليج، من أجل الدخول في مشاريع جديدة، بعيدًا عن قيود الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته الشديدة، وبالتالي ستتوفر فرصة جديدة لتعزيز التجارة البريطانية مع دول الخليج التي تربطها علاقات تاريخية قديمة، وستبحث تعزيز التعاون في مختلف المجالات خاصة العقارية منها، خاصة
إن القطاع العقاري في بريطانيا واحد من أهم القطاعات الجاذبة للمستثمرين الأجانب من مختلف أنحاء العالم، وبرز دوره وقوته في أعقاب تماسك أسعار العقارات خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت أواخر العام 2008، وخلال أزمة الديون السيادية الأوروبية التي نشبت في أواخر العام 2010.
توقعات إيجابية
نقطة أخرى تدعم هذا الرأي وهي توقعات الخبراء الاقتصاديين حول العالم، بأن تقوم أوروبا باتخاذ إجراءات متشددة تجاه بريطانيا يمكننا وصفها بالعقابية، ردًا على خروجها من الاتحاد، وأحد أبرز أشكال العقاب المتوقعة هي خفض الواردات الأوروبية من بريطانيا، ما سيدفع الشركات البريطانية للبحث عن أسواق جديدة، مع الوضع في الاعتبار تراجع معدلات النمو في الصين، وبالتالي لن تخرج وجهات هذه الشركات عن الهند وشمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا الأسواق الخليجية، مع الوضع في الاعتبار عدم حدوث تغير حقيقي في نمط أو معدل الصادرات العربية لبريطانيا، وإنما زيادة الواردات العربية من المملكة المتحدة، خاصة إذا قدمت بريطانيا مميزات تجارية للمستوردين العرب والخليجيين، فقيمة الصادرات البريطانية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلغت العام الماضي 20 مليار دولار، أما الواردات فلم تتجاوز 12 مليار دولار، ومن ثم فالميزان التجاري في مصلحة بريطانيا، وربما يزداد إذا ما تعززت علاقتها التجارية مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أما بالنسبة للودائع المالية العربية في المصارف البريطانية، فإنه من غير المتوقع أن يتم سحبها، لأن لندن ستظل – حتى بعد الخروج من الاتحاد – مركزًا ماليًا عالميًا، ولن تفلح حتى العقوبات الأوروبية المتوقعة أن تنال من مكانتها المالية، بل يمكن للودائع العربية في المصارف البريطانية أن ترتفع قيمتها إذا تواكب الانسحاب مع موجة كساد اقتصادي أوروبي متوقعة، أو قيام الأوروبيين بسحب رؤوس أموالهم من بريطانيا، أو تراجع حاد في قيمة الإسترليني، وإذا حدث أي من تلك الاحتمالات أو حدثت جميعًا، فلن يكون أمام بنك إنجلترا “البنك المركزي البريطاني” غير زيادة معدلات الفائدة في المصارف البريطانية، كوسيلة فعالة لجذب المزيد من الودائع المالية للنظام المصرفي البريطاني، وهو ما يدعم ودائع دول الخليج.
القطاع العقاري
وبما أن الجزء الأكبر من الاستثمارات العربية المباشرة في بريطانيا ينصب على القطاع العقاري، سيتوقف الأمر على مقدار التراجع في قيمة العقارات البريطانية، وإذا انخفضت أسعار العقارات بما يراوح بين 1 و4% كما هو متوقع، فإن المستثمرين العرب سيتحملون الخسائر في المديين القصير والمتوسط، على أمل تعويضها في المدى الطويل، وسيشكل الخروج من الاتحاد الأوروبي ارتباكًا للشركات البريطانية، بسبب القوانين المنظمة لعلاقتهم بـ”الاتحاد”، وسيكون عليهم البحث عن مناطق استثمارية جديدة، ومنطقة الخليج العربي ستكون منطقة مثيرة للاهتمام، خاصة في ضوء العلاقات الاقتصادية المميزة بين المملكة المتحدة وبلدان الخليج العربي، خاصة أن التوقعات تصب في صالح تراجع قيمة الإسترليني واليورو بقوة في مواجهة الدولار، ولأن اقتصادات بلدان “مجلس التعاون الخليجي” تعتمد على النفط الذي يقيم في الأسواق الدولية بالدولار، فإنها ستكون في وضع نسبي أفضل، وستستطيع القيام بعملية شراء أصول بريطانية أو الاستثمار في بريطانيا بشكل أفضل، نظرًا لقوة الدولار في مواجهة الإسترليني.
التريث مطلوب
الخلاصة أن قراءة هذا الأمر استثماريًا واقتصاديًا من الخليجيين والسعوديين خصوصًا، وتداعياته المستقبلية، يجبر مستثمريها على التريث قليلاً حتى تتضح آثارها، وقد نرى في النصف الثاني من هذا العام تطورات كبيرة، حيث يرى المحللون أن مكاسب الدول الخليجية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكبر من الخسائر، بشرط أن تستغل دول الخليج هذا الأمر وتستثمر في الشركات في بريطانيا والعقار والمشاريع البريطانية، واستغلال كون الاقتصاد البريطاني في أدنى مستوياته حاليًا، خصوصًا الجنية الإسترليني الذي وصل لأدنى مستوى له منذ 30 عامًا، وبالتالي هذه فرصة لا تسنح دائمًا لاستغلالها.
لكن المثير للقلق أن الشركات البريطانية التي جاءت واستثمرت في الخليج سيصبح من الصعوبة عليها في استثماراتها مع الخليجيين أن تنفذ للأسواق الأوروبية، بعد خروج لندن من اتفاقية التجارة الحرة واتفاقية الاتحاد الجمركي الأوروبية بموجب الاستفتاء، وهذا يعني أن أي محتوى أوروبي في المنتجات المستقبلية سيوضع عليه تعرفة جمركية قد تكون مرتفعة، وبالتالي إذا كانت منتجات بريطانية، أو منتجات بريطانية مشتركة مع خليجية سيكون من الصعوبة نفاذها لأسواق الاتحاد الأوروبي، خصوصًا أن دول الاتحاد الأوروبي الـ27 تجارتها البينية مع بعضها تعادل 70% من تجارتها مع العالم الخارجي، الأمر الذي يختلف عن دول الخليج فالتجارة البينية بينها 11% فقط، لأن النفط هو المورد الأساسي وهو متوفر في دولها.
لكن ما تعانيه دول الخليج اليوم من تراجع إيرادات النفط، قد يعني أن الخروج البريطاني جاء في وقت مناسب للخليجيين، التي يبحث الكثير منها عن البدائل مثل “رؤية السعودية 2030 “، وبرنامج التحول الوطني، وهو دافع لمستثمري تلك الدول للبحث عن فرص بالاقتصاد البريطاني القوي تاريخيًا، في مجالات أخرى قد تشكل العقارات أهما وأوفرها حظًا.