سألت قائلة: كيف أودع والدي المهدد بالاعتقال إن كان سيغيب تمامًا عن عالمي ربما لعدة أعوام؟ لا تعرف إن كانت ستراه من خلف الأسوار قريبًا أو إن كان سيهرب بعمره بعيدًا عن القرية الظالم أهلها، ويقضي ما تبقى له من أجل محرومًا من عائلته.
كان السؤال الذي عجزت عن إجابته، هناك جو جنائزي يسود قلوب الكثيرين في مصر والمهجر، بهجة مقفرة غابت بشراسة مع المواسم منذ أعوام، أسير في شوارع القاهرة القديمة على قدميّ، الجامع الأزهر ومسجد السلطان الغوري وباب زويلة مصر القديمة بسحرها الأسطوري الذي لم يتغير في ليلة رمضانية عابقة، وصوت المساجد يرتل آيات نور من كتاب الله، لازال كل شيء كما هو، بلادنا حارة جدًا، دافئة حد الاشتعال، وهجها يوقد في قلوبنا الظمأ، ما اكتفينا منها ولا شبعنا من شوقنا لها، بائع العرقسوس يصخب بأكوابه، محل قصب أرسل أحد صبيانه بصينية نحاسية كبيرة ملآ بأكياس العصير ربما تشتري السيارات المارة.
شاهدت المصلين يخرجون من صلاة التراويح في الجامع الأزهر، دخلت لفترة وجيزة صورت الحرم ومنظر الشباب الجلوس فيه، هؤلاء لا يعرفون حجم الحظ الذي يعيشونه أو حجم الفاجعة، لازال في الوطن من يلصق رأسه في ترابه ويدس جسده في الطرقات والدروب متعايشًا مع الفقر والظروف المعيشية التي تزداد قسوة منذ الانقلاب العسكري على بلاده، متعايشا مع الفقد وآلامه التي لا تغيب.
هناك خدر يسري في الشوارع، لازلت من نافذتي ألمح ذلك العجوز بمسبحته يتعكز حتى باب المسجد ليصلي الفجر حاضرًا، يحضرني الشوق أن أركض نحوه لأقبل يديه وأسأله الدعاء لي وللوطن، بهؤلاء نستظل في عالمنا الحارق، وبهم تتنزل الرحمات على بلاد ظلمت نفسها ظلمًا كبيرًا وصارت أعيادها موزعة ما بين معتقل ومقبرة، أصوات الصخب في رمضان توقد رغم المحنة في القلب ألف شمعة، صوت الشيخ رفعت في إذاعة القرآن الكريم، طوابير تقف لتحصل على الطعام وقت الإفطار من الجمعية الخيرية المواجهة لبيتي، عمار يا مصر رغم الخراب.
تذكرت تلك الأسرة السورية التي هربت من الدمار ونزحت إلى خيام على الحدود التركية، ثم ما لبث رب الأسرة أن قرر العودة لبيته تحت القصف قائلاً: الفناء أهون من ترك بيتي للموت على حدود باردة في خيمة، أنا عائد للوطن وراضٍ بصنيعه بس، عدد البشر الذين لا يمتلكون ترف الخيار الذي اختاره هذا السوري عاش بعده أو استشهد.
هناك في الخارج رأيت من يريد أن يعيش في بلاده وفي بيته يومًا آخر وليكن ما يكون، فتيات ذهبن للغربة وحدهن بلا عائل ولا معين إلا الله، هربًا من الأحكام الظالمة، أو الاعتقال المحتمل، أو ربما بعد اعتقالهن لفترة في ظروف لا آدمية خرجن بتجربة لا تمحى، أحلام صديقاتي هناك لم تتعد وجه الوطن، عندما تكون الغربة نار والوطن نبتة صبار، كيف يقضي الغريب المواسم والأعياد وكيف تقضيها صديقتي التي يهددون والدها المعتقل السابق بإعادة اعتقاله قبل أن تمر فترة وجيزة على إطلاق سراحه، كيف صار الوطن مهجرًا ونجح ببراعة في جعلنا نشعر فيه بالغربة رغم أنها نفس الأماكن التي صحبناها وصحبتنا منذ الطفولة.
كساد في الأرواح، هذه هي النتيجة التي وصلناها جميعًا، نظرة واحدة لوجوه الناس في الشارع كفيلة برسم صورة واضحة للمأساة التي يحياها الوطن، قلت لصديقتى المهمومة: دعينا نشد المئزر ونهرع للعبادة كأن الساعة ستقوم اليوم، لم يعجبها الحل، مع الأسف نحن وصلنا لمرحلة من اليأس لم يعد يجدي معها شحذ الهمم للطاعة، لكنني أعرف أمهات ما فتئن يصلين لله أن ينقذ البلاد، أعرف آباءً همهم الأول والأخير في الحياة استشراف ساعات الإجابة عل الله يدفع البلاء عن الوطن والعباد.
الهرب من جحيم المواطنة في بلادنا صار حلمًا عامًا، ورغم هذا الحلم لازال الأمل معقودًا في جباه الصالحين الساجدة، انتظار الفرج عبادة، هكذا علمني أبي، أن نقف رغم تلك العاصفة في اتجاه القبلة، أن نرفع أيدينا للسماء الواسعة في انتظار المطر مهما طال الجدب.
قرأت لتلك الأم التي فقدت ولدها الطبيب في إحدى مجازر الانقلاب تقول إنها رأته قادمًا ليبشرها بالفرج وبعودة الحق واستيقظت تبحث عنه كأنه الآن كان معها، هذا العيد الذي تظمأ نفوسنا له منذ عامين، عيد بلادنا في نزوح الطغيان بلا عودة إلى هاوية الجحيم، تلكم الفئة الصامدة في داخل مصر وخارجها تحمل شعلة مضيئة في قلبها، تؤمن بأن الله الحي سيخرج لنا من قلب الموات في بلادنا حياة جديدة، وأن الظلم مهما ساد وارتفع في بلاد المسلمين إلى زوال وهبوط، لهؤلاء فقط تنتظر أعيادنا معلقة في ليلة قدر نورانية لا بد وحتمًا سيعانقها الوطن.