اللغة أمر شديد الأهمية، كبير الخطر، بالغ الأثر في حياة الإنسان، وعلاقة اللغة بإنسانية الإنسان وعقله وفكره ومعرفته وعلمه وحياته وهويته وإنسانيته، علاقة عضوية فطرية لا يمكن تصور حقيقة الإنسانية بدونها (ص 18-19).
وأمتنا العربية المسلمة، لا يمكنها أن تعي ذاتها، وترمم بنيانها، وتعيد بناء وحدتها، وتسترد فاعليتها الفكرية والإبداعية، وتشق طريقها نحو النهوض بدون إحياء روابطها بـ “لسان القرآن”، وربط سائر لغاتها به، سواء أكانت لغة كتابة، أو لغة تشريع وفقه وقانون، أو اقتصاد أو اجتماع، أو سياسة، أو طب ، أو هندسة، فالأمة التي لا تفكر بلغتها، ولا تتعامل مع العلم بلسانها لا يمكنها أن تعالج أزماتها الفكرية والمعرفية والحضارية، أو تتبنى لنفسها مشروعًا حضاريًا، أو تشق طريقها إلى النهوض (ص 16-17).
اللغة ووحدة العرب
“اللغة العربية لسان” كما في الأثر، ولسان القرآن هو مبتدأ تكوين أمة الإسلام، لذلك، فإن الخطوة الوحدوية الأولى بالنسبة للعرب، تبدأ بتوحيد اللغة وتيسير برامجها وتعليمها، والاستفادة بجميع الوسائل المعاصرة لتحقيق ذلك، فاللغة المشتركة، هي حجر الزاوية، في بناء وحدتنا، كما كان “لسان القرآن” حجر الزاوية في تكوين أمتنا، فالانطلاق من اللغة، في عملية بناء الوعي المشترك والثقافة الموحدة هو البداية الصحيحة لأي وحدة مرتقبة ثابتة راسخة بين العرب.
لسان القرآن: محدد منهجي لفهم القرآن
للقرآن الكريم، منهجيته المعرفية التي يجب على المسلمين اكتشافها واتباعها، ونقصد بالمهجية المعرفية القرآنية: المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات القرآن الكريم (تلاوةً وتدبرًا وترتيلاً وتنزيلاً وتفكرًا وتعقلاً وتذكرًا)، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملاً يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، ولسان القرآن أحد هذه المحددات المنهجية.
“لسان القرآن”
لسان القرآن، متميز عن اللغة العربية، حيث استوعب فنونها وآدابها وبلاغتها وسائر مزاياها بمراحل، ولذلك تحدى أهلها كافة أن يأتوا بمثله أو ليبلغوا مستوى نظمه أو أسلوبه أو بلاغته، وثبت عجزهم، وثبت بذلك تجاوز القرآن لهم في ذلك كله.
فـ “لسان القرآن” يخرج اللفظ عن كونه مجرد لفظ، لأنه يحمل اللفظ طاقات دلالية لم يعهدها أحد في تلك الألفاظ قبل نطق القرآن بها، فهو يفرغها ويملؤها، ويمنحها معاني ودلالات جديدة تمامًا (ص 17).
ومن هنا فإن القرآن لا يفسره إلا لسان القرآن ذاته، فلسان القرآن وإن كان عربيًا مبينًا، إلا أنه قد حول تلك المعاني البسيطة الساذجة المعبرة عن مستوى فكر العربي في تلك المرحلة، إلى معانٍ لم تكن معهودة من قبل: فكل الكلمات الشرعية مثل “الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج والكفر والشرك والنفاق…وما إليها” كانت معانيًا بسيطة في الاستعمال العربي الجاهلي، فقام القرآن بتنقيتها وشحنها بالمعاني التي أراد لها أن تحمل وتشتمل عليها.
لسان عربي مبين
لسان القرآن: لسان عربي مبين، وعروبة القرآن إحدى أهم أوصافه. ولكن، يجب أن نتنبه إلى أن الانتساب للعرب، هو أحد معانيه لا معانيه كلها، فهذه اللغة أخرجت بعد نزول القرآن بها من المحيط الواقعي الذي تكونت وتشكلت فيه، ومن إطارها القومي لتصبح لغة: أمة قطب بين الأمم، شاهدة عليهم، وليصبح ذلك اللسان لسانًا ثقافيًا يبني ويؤسس لثقافة عالمية كونية مشتركة ويعبر عنها (ص 29-43)، فالقرآن المجيد قد استوعب محاسن اللسان العربي وتجاوزه.
فرضية خاطئة
هي تلك الفرضية القائمة على اعتبار “الحاكمية على لسان القرآن” للغة العربية من ناحية، ولقراءة الآيات مستقلة لا ارتباط بين كلماتها من ناحية أخرى (إهمال الوحدة البنائية للقرآن)، فالمفردة القرآنية مفهوم متكامل يضم معاني عديدة يستوعب بها لغات عصر التنزيل، وينفتح بعدها على سائر المعاني الأخرى التي يستفيد الفكر الإسلامي والإنساني من استعماله فيها ليستوعبها، فالمفردة القرآنية مفهوم كامل يطوي في مكنوناته كل ما يمكن أن ينفتح المفهوم عليه من معان عبر العصور.
قطيعة غير معلنة
أول المتضررين من تهميش “لسان القرآن”: الإسلام والمسلمون، ومنهم العرب، ذلك أن تهميش “لسان القرآن” قد أحدث قطيعة غير معلنة بين المسلمين وتراثهم، وقد أدى ذلك إلى انعدام “الإبداع”، وتراجع القدرات الفكرية والاجتهادية، وسلوك سبيل التدهور الحضاري، والدخول في دوامة الأزمات الثقافية (ص 15).
لكل متدبر نصيب
لسان القرآن له خصائص متعددة، وهذه الخصائص تتنوع وتتعدد بتعدد وتوع زوايا النظر، وتنوع المتدبرين، وهي غير قابلة للحصر، لأن القرآن مطلق، والإنسان نسبي، وليس من شأن النسبي أن يحيط بالمطلق، أو يحصر صفاته وخصائصه المطلقة، ولكل متدبر لآيات هذا الكتاب الكريم نصيب، فكل متدبر يأخذ بالخصائص التي يقارب القرآن المجيد من زاوية النظر إليها (ص 8).
قاموس قرآني مفاهيمي
من أهم واجبات عصرنا الراهن أن نبحث عن معاني القرآن في القرآن ذاته، ونجعل من التاريخ اللغوي، والتطور الدلالي، ومعرفة الواقع وعلاقة اللغة به مراجع معضدة ساندة، وليست أصولاً ومصادر حاكمة، فذلك المنهج سيجعلنا في مأمن من الانحراف في معاني القرآن، ودلالات ألفاظه، أو الاضطراب في فهم معانيه، أو إسقاط قواعد لغات البشر عليه.
ومن هنا فإن الحاجة ماسة إلى بناء “قاموس قرآني مفاهيمي” يعتد فيه على القرآن المجيد أساسًا، وتجعل لغات العرب فيه مراجع ساندة ومعضدة لا حاكمة، وتكون الحاكمية في ذلك للقرآن المجيد على كل ما عداه من شعر العرب ونثرهم، وسجعهم وسائر فنون كلامهم (ص 77-78)
لسان القرآن ومشاكل الإنسانية
القرآن المجيد، المكنون الكريم، قادر على مخاطبة عالم اليوم في أعلى درجات تقدمه، وفي مستوى سقفه المعرفي، وقادر على الأخذ بيد الإنسان المعاصر لإخراجه من أزماته، وتجاوز مشكلاته، وذلك إذا تمكن حملة القرآن المجيد من أن يكتشفوا خصائص القرآن، ويكشفوا عنها للعالم، ومنها خصائص “لسان القرآن” التي جعلت من هذا القرآن أعظم آية آتاها الله – تبارك وتعالى – هذه البشرية، وأنزلها على خاتم أنبيائه ورسله – صلى الله عليه وسلم -.
خاتمة
لسان القرآن، بما يحمله من خصائص، قادر على منح اللغة العربية طاقات الحياة والخلود، واستيعاب معطيات “العمران والشهود الحضاري والاستخلاف”، ومن هنا، فإن أمانة أهل العلم أن يحكموا القرآن في كل ماعداه، لا أن يحكموا فهم “البدو والأعراب” في بيان المراد بالقرآن.
كما أن، فهم القرآن الكريم في “وحدته البنائية” وقراءته عبر “الجمع بين القراءتين” ومن خلال “لسان القرآن” ذاته، هو وحده القادر على أن يسهم في معالجة مشكلات أمتنا وعالمنا المعاصر، فعندما نستطيع صياغة مشكلاتنا بشكل صحيح وشامل في شكل أسئلة محددة، ونتجه بها إلى القرآن المجيد بهذه المحددات المنهجية، ضارعين مفتقرين، فمن المؤكد أن القرآن سيقودنا إلى الكامن فيه، والمضمر في ثنايا نصه، وقد يقودنا باتجاه التاريخ نستنطقه، وإلى نماذج الأمم السابقة نسألها عن أخبارها، والأشباه والنظائر لنحللها، حتى يعطينا أجوبة شافية وحلولاً لمشاكلنا.