في خطوة اعتبرها البعض نقلة نوعية في السياسة الخارجية لأنقرة، تقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتذار رسمي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط القاذفة الروسية فوق ريف اللاذقية الشمالي في سوريا نوفمبر الماضي، لينهي سبعة أشهر من الشد والجذب والتراشق السياسي والإعلامي بين الجانبين.
يأتي هذا الاعتذار بعد ساعات قليلة من تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وفتح صفحة جديدة من التعاون المشترك بين البلدين، ليسدل الستار عن قطيعة استمرت ما يقرب من ست سنوات تقريبًا، ليؤكد أن هناك أمر ما يحاك داخل المطبخ السياسي التركي ويداعب عقلية أردوغان وإدارته الحاكمة، لاسيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ودق أول مسمار في نعش هذا التحالف الذي طالما سعى لابتزاز تركيا لسنوات طويلة في مقابل الانضمام إليه.
“نون بوست” يسعى في هذه الإطلالة إلى الإجابة عن التساؤل التالي: هل أعادت تركيا النظر في سياستها الخارجية حيال جيرانها بما يضمن لها تحالفًا جديدًا يترجم مقولة رئيس الوزراء بن علي يلدريم: “إن تركيا بحاجة إلى زيادة أصدقائها وتقليل أعدائها؟”.
أنقره – موسكو: تاريخ من البراجماتيكية
شهدت العلاقات الروسية التركية وعلى مدار خمسة قرون تقريبًا مراحل متعددة من الشد والجذب، لاسيما في ظل التنافس الشديد بينهما على السيطرة على منطقة البحر الأسود والقوقاز، فضلاً عن صراعهما العسكري خلال الحرب العالمية الأولى.
وتعود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى عام 1701م، حيث افتتاح السفارة الدائمة للإمبراطورية الروسية بالقسطنطينية، وذلك بعد عدة عقود من العلاقات الجيدة بين إيفان الثالث حاكم روسيا في أواخر القرن الخامس عشر والسلطان العثماني بايزيد الثاني، إلا أن التمثيل الدبلوماسي الرسمي كان بين تركيا وروسيا السوفيتية في 3 يونيو 1920.
واستمرت العلاقات بين البلدين تتأرجح مابين التعاون والقطيعة، في ظل التنافس الشديد على بسط النفوذ على دول المنطقة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي حيث لا حدود مشتركة بين الجانبين، لتدخل العلاقات التركية الروسية مرحلة جديدة من الخصوبة والإيجابية، وعلى الفور كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بروسيا الاتحادية كوريث للاتحاد السوفيتي وذلك عام 1991م.
وقد تمخضت العلاقات بين أنقرة وموسكو عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عن توقيع ما يزيد عن 60 معاهدة واتفاقية بين الجانبين تشمل التعاون في مختلف المجالات، كان من بينها، معاهدة أسس العلاقات 25 مايو 1992، وخطة الأعمال الخاصة بتطوير التعاون بين روسيا وتركيا في القارة الأوراسية 16 نوفمبر 2001، واتفاقية التعاون العسكري 2002، والبيان السياسي المشترك حول تعميق الصداقة والشراكة 6 ديسمبر 2004.
كما شهدت العلاقات بين البلدين تطورًا ملحوظًا خلال ولايتي بوتين، حيث زار الرئيس الروسي تركيا أول مرة في ديسمبر 2004، والتي كانت تعد الزيارة الأولى لرئيس روسي منذ أكثر من ثلاثة عقود، كما شارك في مراسم افتتاح خط أنابيب الغاز “السيل الأزرق” وذلك خلال القمة التاسعة لمنظمة التعاون الاقتصادي بين دول البحر الأسود التي انعقدت في مدينة سامسون التركية في عام 2007، وفي المقابل زار الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار روسيا في 2006، فضلاً عن زيارة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان لروسيا أكثر من مرة، بدأها في 13 أغسطس 2008 حيث تقدم بمبادرة إنشاء “منطقة الاستقرار والتعاون في القوقاز”، وصولاً إلى زيارته الأخيرة في سبتمبر من العام الماضي.
أما على المستوى الاقتصادي فتعود العلاقات التجارية بين روسيا وتركيا إلى القرن السادس عشر حيث تدفقت التجارة بشكل منتظم بين إسطنبول التي كانت تعرف باسم القسطنطينية، وموسكو، ليدخل الجانبان بعدها سلسلة من التعاون الاقتصادي المشترك في شتى المجالات، ففي الطاقة، تستمد تركيا ما يقرب من 20% من استهلاك الطاقة من روسيا وحدها، فضلاً عن قيام شركة آتوم ستروي إكسبورت الروسية بالبدء في بناء أول محطة نووية في تركيا العام المقبل، ضمن مشروع أك كويو النووي الذي تقدر قيمته بأكثر من 22 مليار دولار ويتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات، وهو المشروع الذي يمكن أن توقفه تركيا، كما أن البلدين أيضًا شركاء في خط أنابيب رئيسي جديد للغاز الطبيعي والمعروف باسم السيل التركي (ساوث ستريم)، والذي يعتبر ذا أهمية hستراتيجية بالنسبة للبلدين، وتبلغ قيمته 16 مليار دولار وتبلغ القدرة التمريرية له نحو 63 مليار مترمكعب من الغاز سنويWا.
كما بلغ عدد السياح الروس الذين قصدوا تركيا في عام 2014 نحو 4.38 ملايين شخص، وذلك من أصل 42 مليون سائح، أدخلوا ما يقارب 36 مليار دولار إلى الاقتصاد التركي، وتعد تركيا أكبر خامس شريك تجاري لروسيا بحصة تبلغ 4.6% من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، وذلك بحسب بيانات إدارة الجمارك الروسية، وتقدر قيمة العقود التجارية الموقعة بين البلدين حتى نهاية 2014، بحوالي 44 مليار دولار.
ولم يتوقف حجم التعاون الاقتصادي بين البلدين عند هذا الحد وفقط، بل هناك اتجاه عام لدى الجانبين في تنمية هذا التعاون خلال السنوات القادمة وهو ما عبر عنه أردوغان خلال زيارته الأخيرة لموسكو حين عبر عن رغبته في أن تنمو التجارة البينية بين البلدين لتصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020.
إلا أن هذا التعاون الضخم بين الجانبين لم يخف العداء الدفين والخصومة التاريخية المستعرة بين البلدين، في ظل تباين وجهات النظر في العديد من الملفات الإقليمية المشتركة، كان آخرها الملف السوري، حيث ترى موسكو نظام الأسد هو النظام الشرعي للبلاد، ولا بد أن يكون طرفًا في الحل، بينما ترى أنقرة أن بشار ونظامه جزءًا من الأزمة وليس الحل، ومن ثم لا يمكن التعويل عليه خلال الفترة القادمة، وهو ما أدى إلى اشتعال وتأزم الموقف بين الجانبين، وصل إلى ذروته بإسقاط الجانب التركي للمقاتلة الروسية في ريف اللاذقية نوفمبر الماضي.
إسقاط الطائرة الروسية وشروط الاعتذار
بعد سنوات من التراشق السياسي بين موسكو وأنقرة منذ اندلاع الثورة السورية في 2011، إثر التباين الواضح في وجهتي النظر حيال آليات حلحلة الأزمة، تدخل العلاقات بين الجانبين نفقًا مظلمًا وذلك في أعقاب إسقاط الطيران التركي لمقاتلة روسية من طراز (سوخوي -24) قرب الحدود السورية في نوفمبر 2015، قالت أنقره حينها إنها اخترقت المجال الجوي التركي وهو ما اعتبرته تهديدًا لأمنها القومي.
شنت موسكو حينها حملة شعواء ضد تركيا متوعدة إياها بالرد القاسي، وعلى الفور بادر كل طرف باتخاذ احتياطاته العسكرية ترقبًا لرد فعل الطرف الآخر، والذي كان من الممكن أن يقود المنطقة كلها إلى حرب عالمية ثالثة، إلا أن البراجماتيكية العسكرية والسياسية حينها آثرت أن يكتفي كل طرف بحزمة من العقوبات الاقتصادية ضد الآخر، وهو ما حدث بالفعل، حيث وقع الرئيس الروسي فلاديمر بوتين، مرسومًا رئاسيًا تناول فيه المواد التي يُحظر استيرادها من تركيا، ونشاط الشركات التركية في روسيا، والأتراك الذين يعملون لصالح شركات روسية داخل البلاد، في مقابل وقف تركيا تصدير الغاز الروسي لأوروبا عبر أراضيها.
وبالرغم من محاولات تقريب وجهات النظر بين الجانبين، والتي استمرت قرابة الـ 6 أشهر، إلا أن روسيا فرضت ثلاثة شروط على الحكومة التركية من أجل استئناف وعودة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه، حيث جاءت الشروط الثلاثة على لسان السفير الروسي بأنقرة أندري كارلوف كالتالي: أولاً: بالاعتذار، ثانيًا: محاسبة المسؤولين، ثالثًا: التعويضات.
أنقره تستجيب وموسكو ترحب
بعد أكثر من ستة أشهر من الأزمة بين الجانبين، فوجئ الشارع السياسي – التركي والروسي على حد سواء – بما أعلنه المتحدث الرسمي باسم الكريملين ديمتري بيسكوف، أمس الإثنين، عن قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين معتذرًا عن إسقاط المقاتلة الروسية، داعيًا إلى إصلاح العلاقات بين البلدين خلال الفترة المقبلة.
أردوغان لم يعتذر وفقط، بل عبر عن تعاطفه وتعازيه الحارة لعائلة الطيار الروسي الذي قتل، متعهدًا ببذل كل ما بوسعه لإصلاح العلاقات الودية تقليديًا بين تركيا وروسيا، إضافة إلى التعهد بتقديم المتورطين في هذا الحادث للمحاكمة، وتعويض أهالي الطيار القتيل.
موسكو لم تتردد لحظة واحدة في قبول الاعتذار والترحيب به بصورة كبيرة، حيث اعتبرته انتصارًا دبلوماسيًا يعيد للدب الروسي هيبته مرة أخرى، بينما اعتبره آخرون شجاعة من قبل الرئيس التركي الذي قدّم مصلحة بلاده على مواقفه الشخصية، وعلى الفور قبل وزير الخارجية التركي مولولد جاويش أوغلو دعوة روسيا الرسمية لحضور مؤتمر اقتصادي في مدينة سوتشي الروسية في الأول من الشهر المقبل، كأول خطوة نحو استئناف العلاقات بين البلدين.
رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، والذي لم يمر على تعيينه أكثر من شهر، أكد على أهمية أن تعيد أنقرة حساباتها من جديد فيما يتعلق ببوصلة سياساتها الخارجية، ملفتًا أن تركيا بحاجة ماسة في الفترة القادمة إلى تقليل أعدائها وزيادة حلفائها وأصدقائها، وهو ما يفسر الموقف التركي الأخير من موسكو وتل أبيب.
شاطرته الرأي بريندا شيفر الأستاذة الزائرة بجامعة “جورج تاون” والزميلة بالمجلس الأطلسي، والتي أكدت أنه من الواضح اتجاه تركيا لإعادة تقييم أولويات سياستها الخارجية، قائلة: “في الحالتين تغلبت الواقعية السياسية على الاعتبارات الأيديولوجية، لم تكن هناك أبدأ أي خلافات ثنائية بين تركيا وإسرائيل، على العكس كانت هناك فقط مصالح مشتركة، نفس الشيء مع روسيا.
العلاقات التركية الروسية: إلى أين؟
تغيُر السياسة التركية حيال روسيا وإسرائيل لم يكن وليد الصدفة، أو امتثالاً لعقيدة سياسية أو مذهبية دفعت أردوغان في يوم واحد إلى الاعتذار لبوتين والتطبيع مع تل أبيب، وهو ما لم يتوقعه المقربون من الرئيس التركي نفسه الذي طالما عرف عنه الكبرياء والثبات على الموقف مهما كلفه الأمر، إلا أن تطورات دولية متلاحقة فرضت نفسها على الساحة لتجبر الجميع على إعادة النظر في توجهاتهم الخارجية بما يخدم مصالح بلدانهم بعيدًا عن المواقف الشخصية.
انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومؤشرات انهيار هذا التحالف الذي طالما سعى لابتزاز أنقرة في مقابل انضمامها له طيلة السنوات الماضية، كان له مفعول السحر في تحول السياسة الخارجية التركية، حيث وجدت أنقرة نفسها (وحيدة) حال انهيار هذا الاتحاد، فضلاً عن تأزم الموقف الحدودي في سوريا، والجبهات المفتوحة مع إيران والأكراد، فما كان منها إلا البحث عن حليف جديد – خاصة مع فقدان الثقة في الشريك الأمريكي – يحقق لها مصالحها ويضمن لها أن تكون بمأمن عما يدور حولها من صراعات، ومن ثم كان التوجه إلى روسيا وإسرائيل.
تحسين العلاقات التركية الروسية سيساهم بشكل كبير في الوصول إلى نقاط مشتركة بشأن حل الأزمة السورية، وهو ما ينعكس إيجابًا بالهدوء النسبي على الحدود السورية التركية التي باتت تمثل صداعًا يؤرق الأتراك ليل نهار، فضلاً عن رفع العقوبات الاقتصادية الروسية المفروضة على تركيا بما يسمح لها باستئناف أنشطتها التجارية من جديد وهو ما يصب في نهاية المطاف في صالح الشعب التركي.
كما أن المصالحة التركية الروسية – حال إتمامها – ستعيد التوازن من جديد إلى خريطة التحالفات الدولية لاسيما بعد الكبوة التي تعرض لها الاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل الكثير من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط بأيدي الروس والأتراك بعدما كانت بأيدي الأمريكيين والأوروبيين.
موسكو لديها قناعة تامة بثقل تركيا في منطقة الشرق الأوسط، وعلى يقين أن تحسين العلاقات معها سيعيد للدب الروسي هيبته من جديد، لاسيما مع دخول إسرائيل على خط المصالحة بما يسمح بتكوين تحالف ثلاثي قادر على إعادة رسم خارطة الأزمات في الشرق الأوسط حال التوصل لحلول مشتركة من الجميع.
فهل يقود اعتذار أردوغان لبوتين إلى طي صفحة المقاتلة الروسية وفتح صفحة جديدة بين البلدين تنبئ بتحالف روسي – تركي قادر على التصدي للنفوذ الأمريكي الأوروبي في المنطقة؟ وما ملامح مستقبل سوريا والعراق وفلسطين واليمن حال قيام هذا التحالف؟ هذا ما سيتم التطرق إليه لاحقًا.