أجرى نون بوست حواراً مع الكاتبة التونسية سمية الغنوشي حول قرار حركة النهضة والتي يقودها والدها الشيخ راشد الغنوشي- فصل المجالين الديني والسياسي، وفيما يلي نص الحوار
أثار إعلان حركة النهضة عزمها فصل المجال السياسي عن المجال الدعوي جدلا كثيرا بعد مؤتمرها العاشر الأخير. برأيكم، ما هي دوافع هذا القرار؟
في الحقيقة هذا التوجه للتخصص ليس الأول من نوعه، فقد سبقته تجارب أخرى في العالم العربي نحت نسبيا نحو نوع من الفصل، كما هو الشأن في المغرب مثلا. لكن ما يميز هذه الخطوة هو ان النهضة اتجهت بعملية التمييز ليس بين الحزب السياسي والحركة الأم فحسب، بل ذهبت أبعد من ذلك إذ أعلنت عن نفسها حزباً سياسياً يتفرغ لإدارة الشأن السياسي بمعناه الواسع، ومن ذلك شؤون الحكم، مع إحالة بقية المناشط الاجتماعية والتعاونية والدينية إلى المجتمع المدني في إطار منظمات وهيئات مستقلة عن الأحزاب والدولة في نفس الوقت.
ما لذي تسعى النهضة إلى تحقيقه من خلال هذه الخطوة؟
هذا الاتجاه نحو نوع من التخصص الوظيفي يقوم على رؤية مجتمعية تميز بين ثلاث مجالات رئيسية في المجتمع تندرج ضمنها وظائف مختلفة: الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. تعدد المجالات هذا هو الملمح الأساسي الذي يميز المجتمعات الحديثة التي تتسم بتعقد الوظائف وتنوعها. هذا بدوره يعكس مستوى التطور النسبي الذي بلغته الحياة السياسية التونسية بعد الثورة وبالتابعية تفاعل حركة النهضة مع هذه المتغيرات الحاصلة في إطار رؤية استراتيجية للتركيبة السياسية الاجتماعية التونسية.
ما تسعى إليه النهضة هو إضفاء مزيد من التخصص، مزيد من الفاعلية السياسية ومزيد من النجاعة في عملها الحزبي.
لماذا اختارت النهضة أن تتخذ قرار الفصل الآن بالتحديد؟
تونس كانت تعيش تحت وطأة دولة استبدادية وحزب حاكم شمولي يتحكم في كل شيء، من السياسة إلى الثقافة والفن والرياضة. هذا الوضع أفرز معارضة من جنسه، بما في ذلك حركة النهضة التي كانت تيارا اجتماعيا سياسيا جذريا في مواجهة الدولة. في غياب فضاءات مستقلة تقوم على الوظائف المختلفة الاجتماعية والثقافية والدعوية كان الحزب هو الإطار الوحيد لممارستها.
الحمد لله نحن الآن في وضع سياسي مختلف. التحولات السياسية التي عرفتها تونس منذ الثورة فككت وضع الحزب الحاكم كحزب مهيمن وحدّت كثيرا من قبضة الدولة على الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. هذا أحدث نوعا من الديناميكية السياسية داخل النهضة وحفزها أكثر على مراجعة خياراتها السياسية باتجاه التحول إلى حزب وطني متخصص يعتمد مرجعية إسلامية إصلاحية.
هل هناك اعتبارات داخلية دفعت حركة النهضة نحو هذه الخطوة؟ الكثيرون يتحدثون عن انقسامات داخل الحركة برزت للعيان في مؤتمرها العاشر الأخير
ليس هناك انقسامات داخل النهضة. هناك اختلافات في وجهات النظر وهذا أمر طبيعي في حزب كبير وعريق بحجم النهضة، تتعايش بداخله تيارات مختلفة، وهذا من أهم عوامل قوة الحركة.
تجربة السنوات الماضية بينت تضارب الاولويات بين وجهة نظر السياسيين في الحزب الذين يميلون نحو مزيد من البراجماتية والتفاعل مع منطق الدولة والحكم، وبين الدعويين الذين يحرصون أكثر على خوض معارك الهوية الدينية والأخلاقية. وهذا الأمر برز جليا خلال سن الدستور مثلا.
لكن النهضة حزب ديمقراطي يتميز بمؤسسات وآليات قوية تسمح له بحسم الخلافات من خلال النقاشات المعمقة على كافة المستويات من القاعدية إلى القيادية وتعديل الخيارات وترشيدها ثم التصويت الحر عليها. الخيار الراجح الذي تتبناه الأغلبية هو الذي يقع تبنيه. النسب العالية التي حصلت عليها لائحة التوجه الفكري والتي تجاوزت ال٨٠٪ تؤكد أن الغالبية العظمى داخل النهضة هي مع خيار الفصل الوظيفي. إذن نحن إزاء حركة موحدة حول هذا الخيار الاستراتيجي.
ماذا عن الأنشطة الاجتماعية والدعوية، هل سقطت من دائرة اهتمام النهضة؟
الواقع أن النهضة وتحت ضغوطات الحكم وحركية الحقل السياسي قد سخّرت جل طاقتها بالأمر الواقع نحو المشغل السياسي في السنوات الماضية. هذا يعني ان التجربة الميدانية قد سبقت النظرية في إعطاء الاولوية للسياسي على النشاط الثقافي والاجتماعي والديني.
طبعا هذا أدى إلى تهميش الجوانب الثقافية والاجتماعية التي لم تبق لها السياسة بضغوطها ومشاغلها حيزا يذكر. المطلوب الآن هو ايلاء هذه الوظائف الحيوية الاهتمام الذي تستحقه من خلال إنشاء هيئات ومنظمات تقوم عليها بشكل مختص يمنحها أكثر نجاعة وأكثر فاعلية.
كما أن صعود جماعات العنف مثل القاعدة وداعش وأنصار الشريعة التي تعتمد الغطاء الديني قد فرض على النهضة السعي لإقامة حدود فاصلة وقاطعة مع هذه الجماعات. هذا يتم من خلال التوجه للعمل السياسي التخصصي من جهة، ثم فسح المجال امام نشاط هيئات ثقافية ودينية متخصصة تعمل على إشاعة الثقافة الاسلامية المعتدلة والعقلانية داخل إطار الاسلام السني المالكي لمواجهة ايديولوجيا العنف والارهاب التي تروّج لها هذه الجماعات.
يرى الكثير من المراقبين أن قرار النهضة الفصل بين الديني والسياسي يؤشر لاتجاه نحو العلمانية. ما رأيكم؟
لا، أنا لا أوافق هذه القراءة. هي تستند إلى سردية مهيمنة في الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية مفادها أن العلمانية مشروع حتمي لا فكاك منه. تقديري ان ما يجري هو في الحقيقة هو نوع من الانسجام التدريجي مع روح النظام الديمقراطي الذي ينزع الى تقسيم السلطات وتوزيعها ويفكك مراكز السيطرة والتحكم. هذا يفرض تغييرات نوعية على بنية الحكم وكذلك الأحزاب السياسية والحاكمة والمعارضة على السواء.
الفصل الوظيفي بين النشاط الديني والسياسي لا يعني ان الفاعلين السياسيين ليست لديهم قناعات او حوافز اخلاقية ودينية، كما لا يعني غياب تأثير الدين في الحياة العامة والنسيج المجتمعي. الدين يظل في نهاية المطاف منبثا في الثقافة السياسية وفي بنية المجتمع وهذه المسالة لا تحددها حركة النهضة او غيرها بقدر ما تحددها الصيرورة الاجتماعية عامة. الفصل الوظيفي او الذاتي بين الديني والسياسي لا يعني الفصل المضموني بين السياسة والقيم الدينية والأخلاقية.
ولكن هذا يشير إلى نوع من العلمنة، ألا ترون ذلك؟
كلا، هناك فرق بين العلمنة والعقلنة والخلط بينهما خطأ شائع ينبغي ألا نقع فيه. ما يجري داخل حركة النهضة هو أقرب إلى ما يمكن تسميته بالعقلنة السياسية بفعل تأثير المحيط الديمقراطي.
العلمنة تعني في بعدها الأساسي كما يعرفها عالم الاجتماع ماكس فيبر مثلا the disenchantment of the world أو إفراغ العالم من القيمة والمعنى الديني.
العقلنة من جهة أخرى هي البحث عن الانسجام والفاعلية ويمكن أن يتم ذلك في إطار أخلاقي ديني.
الإسلام يبقى المرجعية القيمية التي تستند إليها النهضة في خطابها وسلوكها السياسي.
ما تسعى إليه النهضة ببساطة هو إضفاء مزيد من الفاعلية والنجاعة على نشاطها السياسي من خلال تكثيف التخصص وترك بقية المجالات لمزيد التخصص ايضا.
وما يجري في تونس ربما يعطي مؤشراً على الاتجاه المستقبلي للعالم العربي نحو عقلنة المجالين السياسي والديني بعيدا عن النموذج الاصولي الديني وكذلك النموذج اللائكي الفرنسي الصلب حيث يتم تطهير السياسة والحقل العام من اي اثر من اثار الدين.
ربما تكون هذه العملية أقرب الى النموذج الامريكي حيث يتم تحييد الدولة عن الصراعات الدينية والمذهبية مع استيعاب الدين في الفضاء العام والسماح له بلعب دور مهم في الحياة العامة.
على أية حال، ما يجري يدل على ان النهضويين هم في نهاية المطاف فاعلون سياسيون عقلانيون يتفاعلون مع المتغيرات الحاصلة وليسوا جماعة من الدغمائيين أو الدراويش الدينيين الذين يعيشون خارج الزمان والمكان.