تترسخ في عقيدة المسلمين أن الديون شيء كبير يستلزم التعامل معه بحذر شديد ويكون اللجوء إليه في أضيق الحدود، فالإسلام يتعامل مع الديون تعامل مختلف وذلك بخلاف الأنظمة الوضعية، وعند النظر إلى الأحاديث النبوية في شأن الديون، يبرز مقدار الحرج الذي يلحق الشخص عند اتخاذ قرار الاستدانة، ونجد أن جملة النصوص النبوية تدور حول التحذير تارة والتضييق تارة أخرى، والوعيد تارة ثالثة.
وما كان هذا التوجه النبوي إلا محاذير وعوائق أمام هذا الطريق من المعاملات الذي وإن كان مباحًا لكنه ينبغي أن يكون في أضيق الحدود، ولعل أكثر الأحاديث التي توقفت أمامها كثيرًا في هذا الشأن، هو ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ) رواه مسلم، إذًا الأمر كبير جدًا والتعامل معه برعونة وتساهل خطأ لا يسمح به ديننا الحنيف مطلقًا، فقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الكفر والدين، حتى سأل رجل الرسول قائلاً: أتعدل الدين بالكفر؟! فقال صلي الله عليه وسلم: “نعم”.
“الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار” هكذا قال صلي الله عليه وسلم، إذًا الأمر عظيم ولا يحتمل التساهل الذي نراه في المجتمعات الحديثة التي لا تلقي بالاً للتحذيرات الإسلامية الواضحة الصارمة، وكما أن الدين على المستوى الفردي طامة كبرى، فهو على مستوى الدولة كارثة أكبر، فالدين العام في رقبة المجتمع كله والجميع يتحمله، لذلك يعتبر التساهل في الديون العامة جريمة كبيرة في رقبة صاحب القرار.
وعلى المستوى المصري يبدو أن المجموعة الاقتصادية لا تدرك مدى خطورة الديون، فالمتابع للأخبار يجد نفسه في الأيام الأخيرة أمام عاصفة من أخبار القروض والديون وطلبات الاقتراض وبيانات بالمبالغ المقترضة محليًا وخارجيًا، هذا الأمر ليس بالجديد بل إنه بات طبيعيًا في السنوات الأربع الأخيرة، ولكن اللافت للنظر أن وتيرة الاقتراض ارتفعت في الآونة الأخيرة بشكل يثير القلق ويدعو للذعر والتساؤل إلى متى ستواصل مصر الاعتماد على حل مشاكلها الاقتصادية فقط عن طريق الاقتراض؟! وما النتائج المترتبة على هذه السياسة؟!
“ديون مصر الخارجية قفزت إلى ما نسبته 100% من الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2.722 تريليون جنيه”
قبل الإجابة على هذه الأسئلة هناك بعض الأرقام يجب عليك كمواطن مصري أن تكون على علم بها، فبحسب وزير المالية عمرو الجارحي فإن الدين العام في مصر قفز إلى 100% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن 292 مليار جنيه من إيرادات الدولة بالموازنة الجديدة ستوجه لسداد فوائد الديون فقط وليس أصل القرض، بالإضافة إلى أن الحكومة المصرية اقترضت نحو 128.2 مليار جنيه ديون داخلية و5.653 مليار دولار في أول 3 أشهر من العام الجاري، بحسب بيانات المركزي، وذلك بواقع 1982 مليون جنيه اقتراض يومي.
كما يجب أن يعلم المواطن المصري أن ديون مصر بلغت نحو 2722 مليار جنيه، وهذه القيمة تحتاج على الأقل نحو 5 عقود تتحملها الموازنة العامة، ومع هذا الوضع الذي لا يمكن وصفه سوى بالكارثي تعجز الحكومة عن الحل والتحرك خارج دائرة الديون الداخلية والخارجية، فالحكومة تقود حاليًا سلسلة من المفاوضات للحصول على حزمة جديدة من الديون، سواء عن طريق النقد الدولي أو طرح سندات دولارية.
وبحسب ما نقلت وكالة “رويترز” للأنباء فقد قال وزير في المجموعة الاقتصادية في مصر إن بلاده بدأت التفاوض مع صندوق النقد الدولي من خلال البنك المركزي لاقتراض 5 مليارات دولار، فيما عقب طارق عامر محافظ المركزي قائلاً: مصر لم تطلب أي برامج مساعدات من صندوق النقد الدولي، مضيفًا: أن المركزي بوسعه الحصول على نحو 10 مليارات دولار إذا أراد ذلك.
التصريحات لم تكن قاصرة على المجموعة الاقتصادية في مصر، بل إن كريس جارفيس رئيس بعثة الصندوق إلى مصر فتح الباب على مصراعيه قائلاً: “لم نتلق أي برنامج أو طلب تمويل لكن في حالة تقديم طلب فإن صندوق النقد مستعد لمساعدة مصر وشعبها”، مضيفًا “سيتوقف حجم أي ترتيب مالي على حاجات مصر التمويلية وقوة برنامجها الاقتصادي”.
“مصر تقترب من اقتراض نحو 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي”
إذًا المعطيات تقول إن مصر تقترب من قرض كبير من صندوق النقد الدولي أو يمكننا تسميته “ورطة كبيرة”، فبالرغم من أن الفرصة سانحة بحسب الحكومة، إلا أن القرض في هذا التوقيت سيكون جلدًا للغلابة، فلن يقبل النقد الدولي سوى بالتقشف، وهو الأمر الذي بات أكبر من طاقة المصريين.
ربما لا يوجد توقيت أفضل من الآن للحصول على القرض، هذه وجهه نظر البعض، لكن النقد الدولي حتمًا سيطلب إصلاحات قاسية هذه المرة لأن الوضع الاقتصادي بالغ السوء، ولعل أبرز هذه الإصلاحات تتعلق بخفض دعم الطاقة وتطبيق ضريبة القيمة المضافة وخفض آخر في قيمة الجنيه المصري، وهذا ما سيكون انعكاساته سلبية جدًا على المواطن البسيط.
تفكير الحكومة في الديون لا يتوقف عند قرض صندوق النقد الدولي فقط، فبحسب وزير المالية المصري عمرو الجارحي فإن مصر تدرس إصدار سندات دولية بقيمة ثلاثة مليارات دولار بين سبتمبر وأكتوبر من العام الجاري.
موجة الديون تلك بات لها في مصر أكثر من طريقة فتارة تكون ديون صريحة كالسندات وقرض النقد الدولي، وتارة أخرى تأخذ شكل الديون الاستثمارية، ولمعلومات إضافية عن هذا النوع تابع مقالي السابق “ديون مصر وأكذوبة الاستثمار“، ولكن إلى متى ستواصل مصر الاعتماد على حل مشاكلها الاقتصادية فقط عن طريق الاقتراض؟! وما النتائج المترتبة على هذه السياسة؟!
يبدو أن حقيبة الحكومة المصرية فارغة من أي حلول اقتصادية حقيقية بعيدة عن الديون وهذا الأمر يعقد الأزمة كثيرًا، فالديون ليست حلاً للمشاكل بل هي مشاكل جديدة وورطة للأجيال القادمة التي ستجد كاهلها مثقل بديون لا تملك فيها قرارًا، شخصيًا، لا أعلم متى ستتوقف الحكومة عن سياسة الاقتراض بدون حدود معقولة على الأقل، الوضع فعلاً صعب والحل يكمن في خطة اقتصادية واضحة لإنعاش كل القطاعات الاقتصادية والديون لن تقوم بهذا الدور.
“تفاقم الديون في مصر أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع الأسعار للاشتعال”
أما عن النتائج المترتبة عن سياسة التوريط تلك سيتحمل أعباءها بالكامل على المدى القصير المواطن البسيط، وعلى المدى البعيد سيكون الأثر كارثي على اقتصاد البلاد ككل، فالديون هي سبب رئيسي في اشتعال الأسعار، وفقد الحكومة قدرتها على إدارة ومراقبة الأسواق، الديون تفاقم عجز الموازنة، وتحرم المصرين من الحصول على مستحقات كالصحة والتعليم والإسكان وغيرها، وهي أيضًا سبب تباطؤ معدل النمو الاقتصادي، وبالتالي زيادة البطالة بين الشباب.
في الحقيقة أنا ضد هذه السياسة الفاشلة التي سندفع ثمنها باهظًا، وللأسف أتصور أن مصر مستمرة في هذا المسلسل حتى إشعار آخر.