لم يتوقف تأثير الخروج البريطاني من عباءة الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء في الاتحاد وفقط، بل داعبت هذه الخطوة طموحات وأحلام بعض الشعوب والدول الأخرى، التي تعاملت مع هذا الحدث الذي من المتوقع أن يعيد رسم الخارطة الجيوسياسية للعالم من جديد على أنه انتصار يحسب للإرادة الشعبية للمواطن البريطاني، ويبدو أن المنطقة العربية لن تكون بعيدة عن عدوى هذا القرار التاريخي لبريطانيا.
وقد جاءت تغريدة وزارة الخارجية العمانية التي وصفت تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي بالقرار التاريخي والشجاع، لتضع العديد من علامات الاستفهام حول دلالات هذه التغريدة، والهدف المقصود منها، فهل تسعى سلطنة عمان لإعطاء النموذج البريطاني صبغة عربية وتغادر مجلس التعاون الخليجي؟
حلم الخروج للعمانيين
لم يكن يتوقع البعض أن يخرج هذا التصريح من وزارة الخارجية العمانية، تعقيبًا على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي يوحي بدلالات إقليمية مفهومة، لاسيما في ظل حالة التوتر التي تشهدها العلاقات بين مسقط وبقية العواصم الخليجية ما بين الحين والآخر.
الخارجية العمانية لم تكتف بمجرد تقديرها لقرار الشعب البريطاني والتي وصفته بـ” الشجاع” بل عاودت العزف على وتر الجدل مرة أخرى بتغريدة جديدة على موقعها الرسمي على “تويتر” لتؤكد احترام السلطنة لإرادة الشعب البريطاني الذي اختار حريته بالتصويت لصالح المغادرة، كما أن بعثت برسالة طمأنة للإدارة البريطانية مؤكدة على عمق علاقات الصداقة التاريخية المتميزة بين البلدين، واستمرار التعاون الثنائي في شتى المجالات، إضافة إلى التعبير عن ثقتها في قيام بريطانيا – منفردة بعيدة عن الاتحاد الأوروبي – بأداء دورها البناء على الساحة الدولية أفضل من ذي قبل.
الشعب البريطاني اتخذ قرارا شجاعا تاريخيا بالخروج من الاتحاد الاوروبي.. يفسره البعض كرد فعل حازم تجاه بعض سياسات المفوضية الأوروبية.
— وزارة الخارجية (@MofaOman) June 24, 2016
البعض تعامل مع هذه التغريدات كونها لا تمثل الموقف الرسمي للسلطنة، مشككُا في جدوى ما جاء فيها، وهو ما نفاه رئيس تحرير صحيفة “الفلق” الإلكترونية العمانية المعتصم البهلاني، والذي أكد أن أي كلمة تصدر من هذا الحساب (وزارة الخارجية) ستعتبر بمثابة تصريح رسمي من الحكومة العمانية، وسيتم التعامل معها بجدية كونها تخرج بعد دراسة وتأني وليست بعشوائية كبقية الحسابات غير الرسمية الأخرى.
وعلى الفور التقطت السنة الحالمين بالخروج من عباءة مجلس التعاون الخليجي هذه التغريدات لتصنع منها حالة سياسية وتخلق رأيًا عامًا يهيئ المناخ لمحاكاة النموذج البريطاني مرة أخرى لكنه بنسخة عربية مختلفة، وهو ما أشار إليه نائب رئيس مجلس الشورى الأسبق في السلطنة إسحاق السيابي، بقوله إنه يتمنى إجراء استفتاء شعبي في دول مجلس التعاون الخليجي كما جرى في بريطانيا.
نائب رئيس مجلس الشورى العماني الأسبق أكد أيضًا في سلسلة تغريدات له تعقيبًا على تغريدة وزارة الخارجية أن فكرة الاستفتاء الذي يطرح للنقاش تتعلق بمدى رؤية الخليجيين لنجاح مجلس التعاون الخليجي في أداء المهام الموكلة إليه أم لا، فضلاً عما حققه من أهدافه التي قام من أجلها، فإذا لم يحقق المجلس أهدافه فلا قيمة لوجوده ولا داعٍ للاستمرار فيه، قائلاً: الفكرة استفتاء لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي جميعًا عن مدى تحقيق المجلس لأهدافه في ظل اختلاف السياسات الاقتصادية والأمنية وغيرها، فإذا لم يحقق المجلس طوال تلك السنوات جميع أهدافه المرجوة (فرضًا) ولم يلمس مواطنيه نتائج مباشرة فليشارك أبناؤه الرأي لمستقبل أفضل.
@MofaOman pic.twitter.com/0PMxC0AAyN
— اسحاق سالم السيابي (@ishaqsiabi) June 24, 2016
من الواضح أن الأمر لم يقتصر على السياسيين والمسؤولين فحسب، فهناك رغبة لدى قطاع عريض من العمانيين في الانفصال عن مجلس التعاون الخليجي، وهو ما تجسد في ردود أفعالهم المؤيدة تمامًا لتصريحات الخارجية العمانية، ومطالبين الشعب العماني بحذو نظيره البريطاني للتحرر من قيود التبعية على حد قولهم.
مغردون عمانيون وضعوا أيديهم على أولى خطوات الانفصال عن مجلس التعاون الخليجي من خلال إطلاق هاشتاج “#Omexit بما يعني “خروج عمان”، على غرار الهاشتاج التي دشنته الحملة التي دعت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي Preexit.
المغردون أرادوا أن يربطوا بين تصريحات الخارجية العمانية المؤيدة للاستفتاء الشعبي البريطاني وبين الحالة الداخلية للعمانيين في علاقتهم بمجلس التعاون الخليجي، وهو ما دفع بعض النشطاء إلى التساؤل: “هل خروج عُمان من منظومة مجلس التعاون بات قريبًا؟”، وفي تساؤل آخر: “هل هو إشارة نية الخروج من مجلس التعاون الخليجي؟”.
وفي المقابل شن عدد من المفكرين والسياسيين والإعلاميين الخليجين هجومًا لاذعًا على الخارجية العمانية وبعض المسؤولين العمانيين جراء تلك التصريحات الأخيرة، مشككين في دور السلطنة في مجلس التعاون الخليجي تارة، ومقللين من قيمة هذه التصريحات التي لا تمثل الموقف الرسمي لمسقط تارة أخرى.
البداية مع الإعلامي الليبرالي السعودي جمال خاشقي رئيس تحرير قناة العرب، ورئيس التحرير الأسبق لجريدة الوطن السعودية، والذي قلل من تصريحات السبابي نائب رئيس مجلس الشورى العماني الأسبق، قائلاً: “هذا نائب رئيس مجلس الشورى العُماني الأسبق! ما الفائدة من كلام كهذا الآن؟”، وشاطره الرأي الناشط العماني، على النداب، بقوله: “إن نائب رئيس مجلس الشورى الأسبق! هو الآن لا يمثل إلا نفسه، ما كان له داعٍ نقل الخبر، إلا إن كان الهدف من ورائه بث التفرقة والشقاق بين دول المجلس”.
كما تساءل رئيس تحرير صحيفة “وجهات نظر العراقية” مصطفى كامل عن الهدف من وراء هذه التصريحات بقوله: “هل هي رسالة من #مسقط لقادة دول مجلس التعاون الخليجي وإشارة لعدم رضا السلطنة؟! أجزم بذلك!”، أما الأكاديمي السعودي، الدكتور صالح الراجحي، فقال “النظام الإيراني والعراقي والحوثي يثمنون عاليًا دعوة السيابي خروج عمان من مجلس التعاون ويطالبون بإنشاء مجلس مع عمان!”.
بينما أختتم الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، ياسر الزعاترة، بسؤال موجه للسلطة الحاكمة في عمان، قال فيه “هل تسعى سلطنة عُمان للانسحاب من مجلس التعاون؟ سؤال مطروح، ومن قبله وبعده أسئلة”.
عُمان والبرجماتيكية الهادئة
أفرزت التحديات التي برزت في منطقة الخليج العربي، ومن بينها الحروب المباشرة وغير المباشرة، مواقف شبه موحدة لدول مجلس التعاون، سعت الدول من خلالها إلى الوقوف صفًا واحدًا ضد كل المخاطر التي هددت أي جزء منها، كما في غزو العراق للكويت، ووقوف التحالف العربي في وجه انقلاب الحوثيين في اليمن، لكن كان لسلطنة عمان رأي آخر، فمنذ تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم بها في 1970، والسلطنة تحاول أن تمسك العصا من المنتصف في مختلف الأحداث التي تواجهها المنطقة، مما جعلها تقف على مسافة واحدة من الجميع، فلا تقف مع أحد ضد أحد أيًا كان حجم الكارثة، وكان ذلك هو الوجهَ البارز الذي شكل سياسة عمان الخارجية وطبيعة علاقاتها مع جيرانها، حسبما أشار مركز صناعة الفكر للدراسات والبحوث في تقريره الأخير والمعنون له بـ “مسار الاختلاف بين عُمان ومجلس التعاون الخليجي، إلى أين؟” والصادر بداية هذا العام.
التقرير أشار إلى بعض سمات السياسة الخارجية العمانية في الآونة الأخيرة مع تصاعد وتيرة الأحداث في المنطقة، في مقدمتها، البراغماتيكية الهادئة تجاه جل الأحداث في المنطقة، فحيثما اتخذ مجلس التعاون موقفًا واضحًا حيال قضايا تهم دول المجلس كانت عمان تلزم الصمت والهدوء في مواقفها، وعدم الخوض سياسيًا فيما يجري، مع الحفاظ على العلاقات مع الدول الأطراف، وهو ما يفسَّر بشكل آخر بالتعاطي البراغماتيكي في علاقاتها الخارجية مع الدول، على خلاف بقية دول المجلس، فما جرى من دعم خليجي للعراق في حربه ضد إيران لم يسمح لعمان أن تكون ممولاً لطرف ضد آخر، فظلت مبقية على وضع علاقاتها مع إيران والعراق في الوقت نفسه، ومحتفظة بخطوط اتصال حتى لو لم تكن لها مصالح مباشرة، وتكرر الحال مع غزو العراق للكويت؛ إذ لم تشأ سلطنة عمان الاصطفاف المباشر ضد العراق، فحالت سياستها الهادئة دون قطع العلاقات مع العراق، ومع تجدد حالات الاضطراب في المنطقة بعد الربيع العربي تمسكت عمان بخيارها السياسي الذي اقتضى ألا تعادي أو تقرب أي طرف على حساب أطراف دولية أخرى.
أما السمة الثانية للسياسة الخارجية العمانية حسبما تناولها التقرير فهي القيام بدور الوساطة، والذي منح السياسة العمانية الفاعلية من جديد، بما يبرهن على سياسة عمان المحايدة، غير أن دور الوساطة العمانية ليس بالدور القديم، فالدبلوماسية المتحركة لعمان في الوساطة بين إيران والغرب فيما يخص الملف النووي والتوصل إلى حل نهائي لم يكن بشكل ظاهر، غير أنه كان محوريًا وغير علني، وهو ما أكده نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية حسين عبد اللهيان، من أن عمان دفعت وأسهمت إيجابًا في المفاوضات النووية البناءة، ومن جديد يبدو دور التقريب العماني بين أطراف النزاع في اليمن، ومع أن دول الخليج تعاملت مع الانقلاب الحوثي بما يقتضيه واجب الدفاع عن أمن المنطقة، إلا أن عمان ظلت من دون موقف واضح، لتحل بعد ذلك مكان الوسيط السياسي ونقطة الوصل بين طرفي الصراع.
نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية حسين عبد اللهيان
العلاقات العمانية – الإيرانية واستفزاز الخليج
لم يتوقف الخلاف الأيديولوجي بين سلطنة عمان ودول الخليج على السلبية والحيادية في التعامل مع الملفات الساخنة في المنطقة فحسب، والتي قد تشكل تهديدًا للأمن القومي الخليجي، إلا أن هناك مسألة أخرى من الممكن أن تكون المسمار الذي يدق في نعش العلاقات العمانية الخليجية ويعجل بخروج السلطنة من مجلس التعاون بصورة رسمية، ألا وهي العلاقات الإيرانية العمانية.
وبالرغم من حساسية الموقف ما بين السلطنة ودول الخليج فيما يتعلق بعلاقاتها مع إيران، إلا أن العلاقات العمانية الإيرانية باتت من الوضوح ما يغنيها عن التوضيح، إذ أضحت معروفة للجميع دون أدنى جهد لإخفائها عن أعين المراقبين، فالدور العماني غير المعلن والمستمر لسنوات في محاولة الوصول إلى اتفاق إيران مع الغرب قد آتى أُكله، حيث شكل مسارًا مخالفًا لما كانت تتوجس منه دول الخليج تجاه إيران وبرنامجها النووي، فإيران لم تكف يدها إلى اليوم عن استفزاز دول الخليج والتدخل في بعض شؤونها الداخلية، فضلاً عن دعمها لحركات الاضطراب في اليمن والبحرين، وهو ما تراه عمان في المقابل محافظة على علاقات مهمة وتاريخية لها مع جارتها إيران مهما كان لإيران من دور سلبي تجاه دول الخليج.
ولم تتوقف مسقط عن دعم طهران في شتى ملفاتها الإقليمية حتى مع الضغوط الخليجية الممارسة عليها، وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول أن السلطنة تعيش بمنأى ومعزل عن دول الخليج، وأنها أكثر تبعية لإيران منها للخليج، وباتت مطالب خروج عمان من مجلس التعاون قضية مطروحة للنقاش على موائد الفكر والنقاش السياسي خلال الآونة الأخيرة.
السلطان قابوس مع المرشد الإيراني
الصدام العماني – الخليجي: سيناريوهات المستقبل
تناول التقرير أيضًا ملامح الصدام العماني – الخليجي المبكر، والذي ظهر جليًا في رفض مسقط لدعوة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قمة الرياض عام 2011 إلى انتقال المجلس من التعاون إلى الاتحاد وضرورة ذلك، حيث قوبلت تلك الدعوة بالرفض العماني الذي جاء على لسان وزير خارجيتها، والتهديد بالانسحاب من المجلس حال المضي نحو هذه الخطوة، ونقلت وكالة رويترز للأنباء عن سيف المسكري، وهو دبلوماسي عماني سابق، قوله: “لا الشعب العماني ولا قيادته سيوافق على الذوبان في كيان أكبر”، وبرز على السطح أيضًا الخلاف العماني الإماراتي مع باقي دول المجلس فيما يتعلق بالعملة الموحدة والسياسة المالية للمجلس، فقد أبدت عمان تحفظاتها على مشروع العملة الموحدة، في حين أكدت وجود فروق وخروقات في تعاملات بعض دول الخليج، وبعد أن استضافت عمان القمة الخليجية عام 2008 لم يحضر السلطان قابوس أيًا من القمم التالية، ما قد يبدو إشارة إلى عدم الرضا العماني عن اتجاه السياسة الخليجية.
ومع تطور الأحداث الراهنة تجد عُمان نفسها في مأزق حقيقي قد لا تحسد عليها، فبينما تقف دول مجلس التعاون موقفًا واحدًا ضد الخطر الإيراني وتسعى لإجهاض مخططات التمدد الشيعي في المنطقة، تقف السلطنة موقف المتفرج دون أن تختار لنفسها مسارًا يشكل سياساتها تجاه تلك الأزمة، فما بين الحفاظ على العلاقات مع إيران وبين تجنب الصدام مع دول الخليج تسير العلاقات العمانية الخليجية في طريق مسدود.
ويبقى الثلاثي الجدلي: الأول: هل تجد مسقط نفسها مرغمة على الخروج من عباءة مجلس التعاون الخليجي للتخلص من الضغوط السياسية الممارسة عليها بصفتها عضوًا في المجلس، لتعيد تشكيل علاقاتها مع طهران كيفما تشاء، مستغلة ما حدث مع بريطانيا كذريعة نحو تطبيقه خليجيًا، لكن قد يكون لهذا القرار تبعاته الخطيرة إذ ستجد السلطنة نفسها وحيدة في مواجهة أي تهديد خارجي؟ الثاني: أم سيضطر المجلس إلى إقصاء عُمان طواعية بعد التيقن من عدم جدوى دورها الإقليمي وغياب فعالية حضورها داخل المجلس بالرغم من الجهود التي تبذلها الرياض لعدم اللجوء إلى هذا القرار؟ الثالث: هل من الممكن أن تعيد مسقط النظر في سياستها الحيادية خليجيًا والداعمة للتوجهات الإيرانية بما يزيد من فرص التقارب بينها وبين دول الخليج؟ بمعنى لمن تنتصر مسقط لعروبتها الخليجية أم لإيرانيتها الشيعية؟