في إحدى ليالي شتاء 2013 الماطرة، جاءني اتصال لدعوتي لحضور لقاء مصغر في غرفة اجتماعات إحدى جامعات إسطنبول، بعد قليل، عندما دلفت إلى الغرفة كان الرجل صاحب الوجه المألوف قد بدأ للتو في الحديث، لم يكن وضاح خنفر شخصًا غير معروف، فقبل عامين فقط كان اسمه قد وُضع على قائمة أهم 100 شخصية مؤثرة في العالم، كما أن صيته كان قد ذاع بعد إدارته لشبكة الجزيرة التي بدأ عمله فيها من أسفل السلم مراسلاً، حتى إدارته تغطية الشبكة للثورة العربية، لكن ما إن جلست حتى أدركت أن الموضوع الذي شرع خنفر في تناوله كان غريبًا عما اعتاد على قوله أو عما اعتدت على سماعه منه.
كان الرجل يتحدث عن التحالفات السياسية التي أقامها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل دخوله مكة فاتحًا في العام الثامن للهجرة، متحدثًا عن زيارة أحد زعماء قريش، أبو سفيان بن حرب، إلى المدينة، أتذكر جيدًا تساؤل خنفر عن السبب في إقامة أبو سفيان أربعة أيام في المدينة لم تذكر عنهم مصادر المسلمين إلا أقل القليل، فما نعرفه أن أبا سفيان خرج إلى المدينة بعد نقض قريش لصلحهم مع النبي في الحديبية، راغبًا تجديد الصلح، وفي سعيه ذلك حاول جهده أن يقنع كبار الصحابة وخلفاء النبي أن يساعدوه في مسعاه، إلا أن أحدًا منهم لم يقبل.
ورغم أن هذه هي الرواية الوحيدة – ربما – أو الأكثر شهرة في أفضل الأحوال، إلا أن خنفر كان يتحدث، بحماس من جالَس أبا سفيان وبابتسامة واثقة كمن أسرّ له أبو سفيان، عن اعتقاده الجازم أن مُقام الرجل في المدينة كان لهدفٍ سياسي، وأن النبي غالبًا ما يكون قد أجرى مع أبي سفيان اتفاقًا، ظهر بعد أشهر في فتح مكة، لم يسترسل خنفر كثيرًا، لكنه ختم كلامه بالقول أنه يعمل على مشروع لرؤية مختلفة للسيرة النبوية، وأن حديثه هذا جزء من ذلك المشروع، إلا أنه كان على من حضروا لقاء إسطنبول أن ينتظروا لقرابة السنوات الثلاث، حتى تظهر بواكير مشروع خنفر.
بهذا الفيديو بدأ خنفر أولى حلقات “السلسلة المصورة” التي أسماها “الربيع الأول”، والتي يقدم فيها “قراءة استراتيجية في السيرة النبوية”، قراءة وضاح للسيرة النبوية تبدو مختلفة منذ اللحظة الأولى، فمثل مستشرق عتيد، يربط خنفر بين أيام الجزيرة العربية وأيام الأمم والمدن في العالم القديم.
يتحدث وضاح عن أنه سيعتمد في بحثه على تواريخ البيزنطيين والفرس والأحباش والمصريين وأهل اليمن وغيرهم بالإضافة إلى المصادر الإسلامية، وهذا يعني أول ما يعني أننا بصدد الاطلاع على تأريخ شديد الاختلاف عما نعرفه للسيرة النبوية، أو التاريخ الإسلامي بشكل عام، فالاعتماد على مصادر غير المسلمين، سيقودنا إلى نزع الكثير من الهيبة عن التجارب محل النظر، ونزع الهيبة عن التاريخ ضروري، فقراءة استراتيجية للسيرة النبوية تستدعي وتتطلب عملية “أنسنة” مكثفة للمسلمين الأوائل، وهو أمر ليس بهين، لأن روايات المسلمين في غالبها تتعامل مع الأمة وتراثها بشيء غير يسير من التقديس، ولإن استطاع وضاح أن يؤنسن المجتمع المسلم الأول، وأن يضعه في إطار عالمي، تتجاذب قادته مصالح الناس وما ينفعهم في معايشهم، بقدر ما تتجاذبهم دوافعهم الدينية ونوازعهم النفسية ورغباتهم الدنيوية، فسيمكنه أن يؤسس لمدرسة جديدة في فهم تاريخ المسلمين.
وإذا ما اعتمدنا هذا النهج في التعامل مع المسلمين الأُول، سنكون بصدد تحدّ خطير، ففي الوقت الذي تعاني فيه “الأمة” من حالة انهزام حضاريّ مربكة ومركبة، يصبح التاريخ هو الملاذ الأوحد للمستضعفين، لا سيما إن كانت الروايات التي يعتمدها هؤلاء المستضعفون تاريخًا ناصعًا لا تشوبه شائبة ولا تصيب فاعِليه الأهواء التي تصيب الناس، إشكالية أخرى ستظهر أمام وضاح، إذ كيف سيعتمد الرجل (كباحث) على المصادر المتضادة والمتناقضة؟ هل سيعتمد نصوص المسلمين (روايات التاريخ، لا النص المقدس)، كمصادر مهيمنة على ما عداها؟ وكيف سيدمج بين النص المقدس قطعيّ الثبوت وروايات الكُفار به، أو حتى كيف سيدمج بين روايات المنتصرين وقصص من انهزموا ليخرج بقراءة “استراتيجية” للسيرة؟
هذه الأسئلة جميعها ستكون حاضرة أمام من يتابع وضاح، لكن في كل الأحوال يبدو ما يفعله الرجل هذه الأيام متسقًا مع المشروع الذي يبشر به، مشروع قراءة جديدة للإنسان وللغيب وللطبيعة، فخنفر هذه الأيام يتحدث عن مفاهيم مختلفة عما اعتاد أن يتناوله.
من يسمع وضاح سواء في اللقاءات الخاصة أو في الندوات الأوسع التي يكثر منها مؤخرًا، يدرك فورًا أن الرجل قد انتقل من الحديث عن الصحافة والإعلام وحتى الجغرافيا السياسية التي يهواها، إلى الحديث عن الطبيعيات وفيزياء الكم، ولم يعد غريبًا هذه الأيام أن تسمع من وضاح أسماء ماكس بلانك وإيروين شرودنغر أو وارنر هايزنبرغ أكثر من أسماء ابن رشد والغزالي أو أبو الحسن الأشعري وواصل بن عطاء.
لكن مشروع “التجديد” ذلك، لن يكون إمراره سهلاً، وكما أدرك خنفر نفسه، فإن الأمة ردت على لحظات الهزيمة الفارقة – مثل اجتياح المغول بغداد، واحتلال الصليبيين للمشرق – بإرجاء مفاهيم التجديد والاجتهاد ووضعها جانبًا “لأن أولويات الصمود والمقاومة اقتضت تغليب المحافظة على التجديد، والتمسك (بالقديم المضمون) بدل المخاطرة بالتغيير”.
وفي حالة مثل التي يعيشها المشرق الآن، تبقى الأسباب التي دفعت الأمة سابقًا لرد التغيير هي ذاتها التي تدفعها الآن لرده، ولا يمكن تصور أن يُتلقى مشروع تجديدي في التعامل مع التاريخ والنص بالقبول، إن مشروعًا تجديديًا “إسلاميًا” لن يستهوي الناس، لأن “المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب”، كما يضعها ابن خلدون، ومع فشل المشاريع التي خلعت على نفسها لقب “إسلامية” في الإجابة على أسئلة الناس الكبرى أو حتى التعامل مع أزماتهم اليومية، يرتبط التجديد في الأذهان بالتحديث أو بالتغريب إن صح القول، وما عدا ذلك سيكون – عند الكثيرين – مشروعًا أصوليًا لا تجديديًا.
وعلى الجانب الآخر، من المتوقع أن يرفض الكثير من التراثيين أطروحات خنفر، خشية منهم على الأرجح لأن تؤدي مرونته في التعامل مع النص أو ضمه مرويات المسلمين مع مرويات أعدائهم في قراءة واحدة إلى إثارة أسئلة أعمق حول متون النصوص وأسانيدها ودلالات الثابت منها.
من سمع وضاح خنفر يعرف أنه – على الأرجح – سيثير من الأسئلة أكثر مما سيجيب عنه، لكن المؤكد أن الكثيرين لن يروا فيما يفعله خيرًا، وهذا ربما يكون التحدي الأخطر أمام وضاح، إذ كيف سيمكنه تقديم قراءة “جديدة” للسيرة وللتاريخ، في نمط يسمح بفهم “عمليّ” للنص، بلا تعزيز للفكرة القائلة بتاريخانية النص أصلاً.