“وحين سافرت اكتشفت نفسي!” كنت أقرأ تلك الجملة كثيرًا ودائمًا ما أسأل نفسي عند قراءتها: “أعلم أنها ليست هراءً ولكن كيف يكتشف المرء منا نفسه بسفره؟” لقد آمنت ليس فقط بمتعة السفر بل وبفوائده لذا حاولت قدر المستطاع أن أسافر كلما أتيحت لي الفرصة، إلا أنه وبالرغم من كل الفوائد المكتسبة، والحكايات المطوية فى أوراق سفري، لم أتذوق بعد تلك الغاية الغامضة “اكتشاف الذات”.
دارت فى نفسي خاطرات، عندما يسافر المرء وحيدًا فإنه يصبح حرًا كالطير، لا يخشى فعل أي شيء حتى وإن لم يعتد من قبل على فعله لأنه يعلم أنه غير مُراقب، يحب المغامرة لأنه لا يمتلك شيئًا يخسره، يتصرف كما يشاء لأن لا أحد يعرفه، لا يهتم بآراء الناس لأن الناس أيضًا لن تهتم به فى الغالب، لدى اقتباس مفضل من الكاتب أحمد خالد توفيق، على الرغم من قسوته فإنني أجد فيه أحيانًا الكثير من الراحة “الخجل ينبع من توهمك لأهمية مبالغ فيها لنفسك، أنت لست مهمًا كما تعتقد، لست مهمًا على الإطلاق وليس هناك شخصًا متفرغًا لمراقبة خلجاتك وأخطاءك، لو أنك أخرجت كسرولة ووضعتها على رأسك فلن يهتم أحد أكثر من ثلاث دقائق”.
ولهذا أرى أن المرء يكتسب قدرًا أكبر من الجرأة لفعل ما أراد ولم يستطع فعله من قبل في بلاد غريبة عنه، فرغم أنها غريبة إلا أنها تقربه من نفسه أكثر، وكلما زادت غربتها، كلما زاد اقترابه من نفسه الحقيقية أكثر، أليس هذا كله اكتشافًا للذات؟ أن ترى ذاتك الحقيقية، أن تعرف تفكر الأنا الداخلية، أن تحدث نفسك في وحدتك وتستمع لها بعد هجر قد يكون دام لسنوات عديدة، أن تعرف ما الذي تريد فعله حقًا وتخشي ممن حولك، كل هذا قد يعتبر فعلاً جزءًا من اكتشاف النفس ولكنني ما زلت أحس بأن هنالك شيء ناقص، لم ترض هذه الإجابة طموحي ولا فضولى، الموضوع أكبر من ذلك كما أظن! تلك الأجوبة كانت مجرد حبات بخيط ينقصها واسطة العقد، لذا علمت أنني لن أجد جوابي إلا باستكمال سفري مجددًا بعد انقطاع، ليس فقط لإرضاء فضولى بالبحث عن الجواب وإنما أيضًا لأبدأ رحلة البحث عن نفسي.
لا شك أن السفر يغير فينا شيئًا حتى وإن لم نحسه، كم من أشياء فعلناها ولم يكن ليخطر على بالنا ليس فعلها فقط بل وحتى التفكير فيها، كم من خصلة اكتسبناها ولم تكن فينا، هذا الأفق الذي بدأ في الاتساع، هذا العقل الذي بدأ أكثر بالنضج، تلك الثقافات والشعوب والمعارف الجديدة التي تجد نفسك وسطها لتعلم أن بلدك ليست هي كل الدنيا، بل هي جزء بسيط منها، وأن بدون السير في الأرض، ستظل عينك معلقة بباب الدنيا المغلق الذي لا تعرف جيدًا ما خلفه إلا مما تسمع أو تشاهد، وشتان يا صديقي الفارق بين السماع والتجربة.
سمع أهل الواحة البعيدة المعزولة في الصحراء عن قرية جديدة، بها حياة أكثر رغدًا ورفاهًا، فتشاور القوم في إمكانية الانتقال لإلى تلك القرية والتعايش مع النمط الجديد للحياة بدلاً من الموت فى الصحراء فى العزلة، لكن الغريب أن ما ورد إليهم من أقوال كانت متناقضة ومتضاربة للغاية، فسمعوا أن بالقرية أناسًا متدينون يخشون الله ويصلون ليل نهار، وسمع البعض الآخر أن بالقرية أناس ماجنون يشربون الخمر لا أخلاق لهم، وأن تلك القرية غير مؤهلة لعيش رجال صحراء مثلهم.
اختلف القوم فلجأوا إلى حكيم الواحة الذي قرر بحكمته أن يرسل برجلين إلى الواحة لمدة شهر ليستكشفوا الأوضاع ثم يعودوا ليخبروا بما وجدوا، غاب الرجلين، وعند اكتمال العدة رجع الأول إلى الواحة قائلاً بأن ما سمعه القوم كان صحيحًا، وأن تلك القرية ماجنة، ممتلئة بالحانات، رجالها لا يفيقون من السُكر، خطرة على أبرياء مثل قومه، وعاد الرجل الآخر قائلاً، لقد أخطأت، فالقرية متدينة، رجالها يصلون ليل نهار، آمنة علينا، وأنه يجب علينا الذهاب للمعيشة هناك، جُن جنون القوم، كيف يمكن لرجلين ذهبا لنفس المكان أن يريا أشياءً مختلفة كتلك، فذهبوا مجددًا لحكيم الواحة الذي أخبرهم بأن كلا الرجلين محق، فقد ذهب الأول إلى حانات القرية فور وصوله، بينما ذهب الثاني إلى مساجدها! كل يذهب إلى حيث تشتهي نفسه!
ما أردت قوله أن السفر ليس مجرد تلك الأقاويل السطحية التي نسمعها عن الانحلال الأخلاقي وخلافه، بل هو مجرد جزء من كل، وفوائد السفر لمن عقلها أكثر بكثير من تلك الأقاويل الرائجة، والغريب أن من يروجها في الغالب لم يخبرها أصلاً بالأساس، وهذا لا ينفي أنه على المسافر أن يحزم أمتعته قبل سفره جيدًا سواءً على الجانب المادي أو النفسي بل إن الجانب النفسي أهم وأخطر، ويجب في رأيي على المسافر أن يتوسط تأقلمه مع متغيرات المجتمع الجديد، فلا هو مصدوم حضاريًا ينخرط به، ولا هو رافض ساخط تمامًا منعزلاً عنه.
من حسن حظي أن تركيا دولة غنية بثقافاتها، متعددة الأعراق المنتشرة على خريطتها، لكل مدينة فيها طابعها الخاص المميز، على مدار رحلاتي لما يقرب من العشرين مدينة لم أشعر أن هناك مدينة تشبه الأخرى، بل كل منها فريدة بذاتها، وبعد انقطاع طويل قررت استكمال رحلاتي بهدف اكتشاف ذاتي واخترت أن تكون وجهتى القادمة منطقة البحر الأسود في أقصى شمال تركيا بإذن الله، وإذا سألتني لماذا هي تحديدًا؟ فسأخبرك بجوابي بالمقال القادم بإذن الله.