كنت من أكثر الناس تفاؤلًا بالثورات العربية، خاصة تجاه الثورة المصرية، لما عكسته من تلاحم شعبي وقوة وطنية حقيقية، لم يكن وراؤها إلا ذلك الانتماء العميق لهذا البلد العزيز، ترقبت من لحظتها أن أرى بعضًا مما كنت أحلم به لبلدي ولأمتي العربية، ورحت أتابع تطورات الأحداث بكل شغف، أملًا في الإمساك بأول أطراف التغيير الذي أنتظره منذ سنين، ويوم بعد يوم، ومع تواتر الأحداث، بدأت أحلام التغيير المنشودة تتململ، وراحت بواعث تفاؤلي تتسرب.
لقد فجرت الثورات العربية كل عوامل الخلافات الداخلية، وراحت شظاياها تطال كل العرب، أعرف بالطبع أن البيئة العربية مليئة بالتناقضات، كما هو الحال في بيئات العالم كافة، لكن ما لم أكن أتصوره هو تحَوَّل تلك التناقضات إلى عوامل دافعة للتناحر والاقتتال، على الرغم من إمكانية التعايش بسلام في بيئات مليئة بالتناقضات، والتي مهما صنعت من خلافات يمكن حلها بالحوار والنقاش، وباستخدام آليات مقننة ومنضبطة، تحول دون وصول الخلافات إلى صراعات، غير أن الواقع العربي بعد الثورات شهد تحولًا دراماتيكيًا في طبيعة الصراعات الداخلية، لا سيما بعد تخلي الأطراف المتصارعة عن بوصلتها السلمية، وتحَوَّلت إلى مسارات إجبارية، انزلقت في منحدر دموي، مليء بموجات متواصلة من القتل والعنف وسفك الدماء، لتصبح تلك الصراعات أكثر مأساوية.
ومع أن الصراعات ظاهرة طبيعية في حياة الإنسان وفي حياة الأمم والشعوب، حيث تدلنا نظرية الصراع على أن المجتمعات تعمل من خلال صراع أفرادها الذين يسعون بصورة مستمرة في الحصول على منافع أكثر، مما يسهم في التغير الاجتماعي، كما هي حالة الثورات السلمية أو التغييرات السياسية، إلا أن تطور الصراع ينشأ عند تعارض المصالح، أو رغبة أحد في القيام بأعمال متعارضة مع الآخر، وهذا وفق المنطق البسيط للصراع، لكننا تفاجأنا بمفهوم جديد للصراع، مفهوم جاءت به الثورات العربية، جعلته معبرًا عن أسلوب حياتنا.
ومع الإقرار بأن هناك أسباب مركبة ومتداخلة لنشأة الصراعات الداخلية العربية لاسيما بعد تلك الثورات، إلى أن تصبح تلك الصراعات هي القاعدة، ويصبح الاستقرار هو الاستثناء، ذلك ما لم يكن في الحسبان، نعم، هناك أجندات خارجية ومؤامرات دولية تحاول دائمًا إبقاءنا تحت السيطرة، (فماذا نتوقع من الشيطان؟!)؛ من الطبيعي أن يسعى الأعداء لتدميرنا، وهذا ليس بجديد، لكن الغريب ما أصاب الجسد العربي بكل تلك الأمراض التي جعلته معتلاً في ذاته، يفتقد أقل درجات المناعة لمواجهة أضعف الأخطار، ولطالما حمل الجسم بداخله كل الآفات، لن يقوى على مواجهة علاته، فما بالنا بمواجهة أعدائه!
إن من أخطر أمراضنا المزمنة، هي تلك الخلافات التي أقسمنا على الزود عنها بأروحنا، حتى تحولت صفة متلازمة لنا، وصورة معبرة عنا، إلا أن الزمن أبى إلا أن ترتقي تلك الخلافات لمراتب الصراعات، مدفوعًا بعدد من الأسباب، من أهمها:
– الثورات الشعبية التي اندلعت في عدد من الدول العربية بنهاية عام 2010، والتي يراها البعض مشعلة لكل الصراعات في المنطقة.
– سعي بعض الجماعات للسيطرة على الحكم، خاصة تلك التي تكون خارج سلطة الدولة ويتوافر لديها عناصر القوة، والتي تسعي إلى فرض أيدلوجيتها على الجميع لتكون هي الحاكمة أو المسيطرة حتى ولو بالقوة.
– وجود جماعات عرقية، ودينية، ومذهبية وسياسية، تمتلك قدرات تمكنها من ممارسة القوة والإكراه والإرهاب، ولها انتماءات ممتدة خارج حدود الدولة، في الوقت ذاته أثبتت وقائع التاريخ أن العرب لا يحسنون التعامل مع قضايا الأقليات العرقية والدينية والمذهبية ولا حتى السياسية، وهو ما يزيد من عوامل الصراعات.
– معاناة الشعوب العربية من تدهور حضاري، وتجريف مادي ومعنوي، وإهدار للموارد والطاقات، وما امتلكته من إمكانيات في مختلف المجالات، إضافة إلى زيادة معدلات الفقر وتهميش دور الأقليات وتراجع برامج الإصلاح على المستويات كافة.
– الاختراق الثقافي الذي ساعد في انهيار عناصر كثيرة من منظومة القيم العربية والأخلاقيات الإسلامية، ما أضعف الولاءات والانتماءات القومية والوطنية وساهم في زيادة حدة الاغتراب الثقافي لدى نسبة كبيرة من الناس عمومًا، والشباب خصوصًا .
– الممارسات الخاطئة للأنظمة السياسية الحاكمة، وما قامت به من إجراءات لاحتكار السلطات وسلب الحريات وانتزاع الحقوق المشروعة للأفراد والجماعات.
– وجود أطرافًا متعددة – داخلية وخارجية – تغذى عوامل الصراع، وتجعله أكثر استعصاءً على التسوية، بل وتدفع به إلى أعلى درجات الصدام الذي يمكن أن يصل إلى حد الإفناء.
كل هذه العوامل وغيرها ساهم في دخول الدول العربية وبوتيرة متسارعة في صدامات هددت أمنها واستقرارها وأدخلتها في فوضى سياسية وعسكرية وأمنية لا حصر لها، والتي يمكن أن تفضي إلى انهيار جغرافيتها في ظل تلك الأوضاع الصراعية، والتي يتعرض فيها القانون ونظم الحكم إلى تفكك عناصرها البنيوية.
من هنا يتضح الخلل بجلاء، الخلل الذي أصاب العقل الجمعي العربي، وجعله يتمحور حول فكرة برجماتية، ترى المصلحة العليا بعيدة عن القومية والقطرية، ومحصورة في الحزبية أو المذهبية أو الطائفية، أو حتى في المصلحة الفردية، وبلا شك لم تكن تلك الفكرة وليدة الثورات العربية، ولكنها تبلورت وتشكلت عبر عقود من الفساد والانهزامية والانغلاق على الذات، لم يكن مسموح خلالها بأن يحلم أو يفكر الإنسان العربي بأن يكون له ذات.
وبالتالي أعطتنا الثورات العربية الفرصة لاكتشاف نوع آخر للصراعات، نوع متحول ذاتيًا يفضي حتمًا إلى الإفناء، وهو نوع لا يحتاج تدخلاً مباشرًا من الأعداء! فكل الأجواء مهيأة لاستمراره حتى يؤتي أكله وثماره دون عناء، لكن ينقصنا أن نعرف كيف نتعايش مع مثل تلك الأنواع من الصراعات مثلما تعايشنا من قبل مع الخلافات، والتي كانت بلا شك تعكس أسلوب حياتنا، ولذا على الدول العربية أن تفكر في كيفية استثمار صراعاتها، مثلما اجتهدت من قبل في استثمار خلافاتها!! على الدول العربية أن تجمد برامجها التنموية والإسراع في تحديد أولوياتها الصراعية، فلن يحدث شيء إذا تأخرت عمليات الإصلاح المنتظرة، والمجمدة منذ عقود، ومن الأفضل للشعوب العربية أن تربي الأطفال على كيفية إدارة الصراعات، وتؤجل التفكير في كيفية تحقيق الأحلام، وكيفية بناء الأوطان!
إن ما تؤكده الوقائع والأحداث، أننا دائمًا الخاسرون، وأعداؤنا دائمًا الفائزون؛ فقط لأننا اخترنا أن يكون الصراع أسلوب حياتنا؛ فهل يقبل العقلاء باستمرار ذلك الصراع؟!