أقام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الدوحة دورة عن نظام الحكم الرشيد في الإسلام قدمها الدكتور سيف عبدالفتاح، وكانت محاور الدورة تتحدث عن نظام الحكم الرشيد، وكيف أن الإسلام يحتوي على مبادئ وأُسس قابلة لأن تؤسس نظامًا سياسيًا جديدًا قد يكون بديلًا للنظام العالمي، ولكن المشكلة في تحويل هذه المبادئ والأسس لقوانين ونظام عملي قابل للتطبيق على الواقع، وفي هذا نقص وشح شديد.
أثناء الدورة خرج علينا أحد قيادات الإخوان المسلمين وكان حاضرًا ليناقش الدكتور سيف عبدالفتاح، معتقدًا أن النظام التركي بقيادة الرئيس أردوغان يُعد تطبيقًا عمليًا لهذه المبادئ والأسس، وأن نظام أردوغان يُعد مثالًا حيًا على النظام الإسلامي الجديد.
أجاب الدكتور سيف عبدالفتاح بأن النظام التركي أخذ بعضًا من هذه المبادئ والأسس، ولكن لا يمكن اعتبار نظام أردوغان هو النظام الإسلامي الذي نتمناه، والذي نسعي لأن يكون بديلًا للنظام العالمي الحالي، وذكر أسباب كثيرة من ضمنها أن النظام التركي يلعب طبقًا للقواعد العالمية، وأن له حيزًا يتحرك فيه وإذا تجاوز هذا الحيز سيعاقب وتنتهي صولاته.
مشكلة نظام العدالة والتنمية التركي أو التجربة الأردوغانية كما يُطلق عليها البعض أنها محط أنظار ومبتغى آمال كثير من القوى السياسية المتنافرة والمختلفة خصوصًا في عالمنا العربي، كل تيار يريد من التجربة التركية أن تفعل له ما يريده هو لا ما تريده التجربة.
فالليبرالي العربي يريد منهم أن يعلِموا الإسلاميين العرب الحريات العامة والتسامح مع المختلفين والانفتاح السياسي، يريدون منهم أن يعلِموا الإسلاميين العرب ما يطلقون عليه الإسلام الليبرالي، والإسلاميون العرب باختلاف مشاربهم يريدون من التجربة التركية أن تسير في ركابهم وتدعمهم وتقوي ظهرهم، طبقًا لمصالح الإسلاميين العرب وليس طبقًا لمصالح التجربة نفسها.
فمع كل تصرف من تصرفات هذه التجربة يُقابل بموافقة من طرف وغضب من طرف آخر وتطرف في المواجهة من طرف ثالث، فكلٌ يُغني على ليلاه ومطلوب من الأتراك أن يُغنوا معه هو لا مع ليلى التركية.
الدولة التركية لها مصالح تبحث عنها، تحاول أن تلعب دورًا سياسيًا في النظام العالمي يخدم هذه المصالح ولا يضر بها، الملمح الرئيسي في نجاح التجربة التركية هو الاقتصاد، وإذا فشلوا فيه سيفشلون في إكمال التجربة وتحقيق ما يرمون إليه من الأهداف.
قامت السياسة التركية ونظرية أحمد داوود أوغلو علي تصفير المشاكل مع المحيط الإقليمي، وعندما وقع الربيع العربي كانت ثورات الشعوب هي الحصان الجامح الفائز، والرهان عليه هو الرهان المنطقي، بعدها جرى كثير من الماء في النهر وأُفشلت أو تعطل قطار الثورات العربية، واستمرار دعم هذا القطار الثوري العربي المتعطل – خصوصًا مع ضعف واختلاف قادته – لا يجلب على داعميه سوى المشاكل السياسية والاقتصادية، ومع اختلاط أوراق اللعبة في المحيط التركي والسيولة الشديدة بالمنطقة وجب علي الساسة الأتراك أن يبحثوا عن مصالحهم ومصالح شعبهم.
أنا لا أبرر تغيرات وتقلبات السياسة التركية بل أحاول أن أفهم منطلقات هذا التغيير وأسبابه، وإذا عُرف السبب بطُل العجب، من حقنا أن نعترض علي هذه التصرفات ولكن في ذات الوقت يجب أن نحترم خياراتهم، وأن يكون اعتراضنا عليهم ليس من باب الكيد في الإخوان لأنهم يبالغون في دعم التجربة التركية ويضعونها في مكانة لا يُطالِب الأتراك أصلًا بها.
فالحقيقة أن أردوغان لم يُنصب نفسه خليفة للمسلمين، بل هو حاكم لدولة قومية قطرية يسعى لمصالحها، ويلعب دورًا خارجيًا مستغلًا قواه الناعمة التي يعمل على تقويتها يومًا بعد يوم لتعود على هذه التجربة بالنجاح الاقتصادي والسياسي.
تصريحات عمر فاروق قوقماز مستشار رئيس الوزاء التركي السابق أحمد داوود أوغلو الذي انتقد فيها ما أسماه الأصدقاء العرب ومبالغتهم في شعارات أكبر بكثير من حجم تركيا، كانت رسالة واضحة لهؤلاء الأصدقاء أننا نعرف محيطنا جيدًا ونعرف حيز الحركة المتاح لنا، ولا يطالبون لأنفسهم بالكثير، بل إن هؤلاء الأصدقاء هم من يبحثون عن أحد ما ليلتصقوا به وينفخوا من قدره لا لشيء سوى افتقادهم لبديل لديهم قريب من هذا النموذج.
قد يكون للرئيس أردوغان بعض الشطحات التعبيرية أو الغزوات الكلامية لكنها في المجمل لا تقول ما يقوله هؤلاء الأصدقاء، فالرجل قالها عندما زار مصر في 2011 بعد ثورة يناير إنه رئيس لدولة علمانية، وإنه نصح هؤلاء الأصدقاء بهذا النموذج التركي العلماني.
ومن بعض الغاضبين على تصرفات أردوغان وخصوصًا التصالح الأخير مع إسرائيل والاعتذار لروسيا تشعر أنه ليس غضب من سياسات أو اعتراض على قرارات ولكنه كيدًا في الإخوان، ويخرج هذا الكلام من بعض من كانوا من الإخوان سابقًا.
يقول أحدهم: الخليفة أردوغان يتصالح مع إسرائيل ويعتذر لروسيا هنيئًا للإخوان بخليفتهم، انتقاد سياسات أردوغان التي نظن أنها خاطئة ليس فيه مشكلة، لكن من منطلقات واضحة وليس من باب المكايدة، فالدولة التركية لها مصالحها التي تبحث عنها، ولا تُحاسب بمن يلتصقون بها بحثًا عن مصالحهم.
المنطقة المحيطة بالدولة التركية شديدة الديناميكية وبالتالي يجب على القيادة السياسية التركية أن تكون على قدر سرعة الأحداث، تركيا محاصرة من أكثر من اتجاه، ولذلك رأى ساستها أن الحل هو اختراق ما في السياسة الخارجية، وإعادة العلاقات مع حليف قوي قد يكون له دور بارز في إصلاح بعض الاضطرابات المحيطة بالدولة التركية.
ولا يجب أن ننسى أن العلاقات بين إسرائيل وتركيا علاقات قديمة، فتركيا أول دولة إسلامية اعترفت بإسرائيل عام 1949، فلفظ إعادة التطبيع هنا غير منطقي لأن العلاقات قديمة وانقطعت لفترة، أما لفظ التطبيع فأُطلق بعد مبادرة السلام المصرية الإسرائيلية في عهد الرئيس السادات، ردًا على محاولات البعض القبول بالسلام مع إسرائيل كأمر واقع والتواصل معها ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، هذا غير موجود مع تركيا فهي أصلًا لديها تطبيع من البدايات.
ثم جاءت أخبار احتمالية بداية طريق التصالح مع مصر لتزيد حالة الغضب والهجوم على السياسة التركية، على الرغم من وجود بوادر على هذا الأمر منذ فترة، واتهام أردوغان بالتخلي عن القضية المصرية بحثًا عن المصالح، وهناك من سماها البراغماتية الأردوغانية.
مشكلة البعض أنه ظن أن السياسات الخارجية للدولة التركية في فترة حكم العدالة والتنمية تقوم علي المبادئ المطلقة، والسياسة في هذا النظام العالمي لا تعرف لغة المبادئ مطلقًا، ما يحركها هو لغة المصالح ولعبة المكسب والخسارة، وللأسف إذا أردت أن يكون لك موضع قدم في هذا النظام عليك أن تبحث عن مصالحك القُطرية والتي قد تتعارض بل وتضر قُطر آخر.
نظام عالمي بُني على قواعد الأنانية السياسية القطرية، واحترام حقوق الإنسان بطريقة انتقائية، وعلى رجل السياسة أن توحل قدماه في هذا المستنقع العفن إذا أراد النجاة لسفينته في بحر ظلمات النظام العالمي، وعلى المفكر أن يظل محافظًا على المبادئ المجردة وينتقد أي زيغ عنها، ولا يقبل التفريط فيها، ليظل دائمًا حائط سد أمام شطحات السياسي الذي لا يعرف سوى لغة المصالح وفقط، ولكن في ذات الوقت عليه أن يقدر الوضع العالمي جيدًا، ويقرأ خرائط القوى والتأثيرات والتوازنات، وفي نفس الوقت يجب على السياسي أن يعلم أن مخالفته للمبادئ هي مخالفة اضطرار وغصب، وألا تصل به الحالة إلى استمراء واستحسان هذا الأمر.
ويجب أن يعلم القادة السياسيون للإسلاميين أن هذه هي المعادلة التي يسير عليها العالم، صراع طاحن بين المبادئ والمصالح، غالبًا ما تنتصر المصالح، فإذا أردت أن تدخل الملعب فالتزم بقواعد اللعبة وقوي فريقك واستعد لجولة تكون أنت واضع القواعد لتطبق سياسة مبنية على المبادئ والأسس الإسلامية، وهذا يحتاج لمجهودات جبارة في ميادين الفكر والعمل والإبداع والسياسة والاقتصاد، وللأسف هم أبعد ما يكونوا عن هذا.
أظن أن أردوغان ورفاقه فهموا اللعبة جيدًا، وساروا على قواعدها، وعندما حاولوا أن يخرجوا بقطارهم – نوعًا ما – عن قضبان النظام العالمي تم قرص أذنهم ليعودوا إلى رشدهم، وهذا ما كان.
ولذا كلما تكلم أردوغان – السلطان كما يُطلق عليه مريديه العرب – هذه الأيام أغضب وسيغضب الكثيرين، وقد يكون المتكلم أحد الوزراء بالنيابة عنه، فهم يمشون على حقول ألغام المنطقة، فيجب علينا أن نتفهم منطلقاتهم، مع احتفاظنا بحق الرفض والاعتراض، فكما الأتراك لهم مصالح يبحثون عنها فمن المفترض أن يكون للإسلاميين العرب مصالح يبحثون عنها تتقاطع أو تتوازى مع المصالح التركية.