قبل عدّة أيّام، وبينما الشارع الرياضيّ العالميّ منشغلٌ بمتابعة أحداث بطولة أمم أوروبا لكرة القدم التي تجري في فرنسا، والتي تشهد مشاركة 3 منتخباتٍ بريطانيّةٍ للمرّة الأولى في التاريخ، هي: إنجلترا، ويلز، وإيرلندا الشّماليّة، فوجئ العالم بخبر انسحاب بريطانيا من عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ، بعد أن أسفرت نتائج استفتاء (بريكسيت) عن تصويت 52% من الناخبين البريطانيين للخروج من الاتّحاد الأوروبيّ، مقابل تصويت 48% للبقاء فيه، لتعلن بريطانيا رسميًّا انفصالها عن الاتّحاد الأوروبيّ بعد عضويّةٍ دامت 43 عامًا، كانت خلالها جزءًا من اتّفاقيّات التعاون الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المشترك بين 28 دولةً أوروبيّة.
وفيما يُنتظر أن يترتّب على هذا الانفصال العديد من التأثيرات والتداعيات المختلفة، التي قد تمتدّ لتهدّد كيان الاتّحاد الأوروبيّ، سنختصّ في موضوعنا هذا بدراسة أبرز التأثيرات والتبعات المتوقّعة من الناحية الرياضيّة، ولا سيّما فيما يتعلّق بلعبة كرة القدم، التي يمثّل الدّوري الانجليزيّ الممتاز (البريمير ليغ) أحد أكبر منافساتها على مستوى أوروبا والعالم، فما هي التأثيرات والتغيّرات التي ستلقي بظلالها على البريمير ليغ إثر هذا القرار؟ وهل ستعود بالنفع أم بالضرر على الكرة الإنجليزيّة والأوروبيّة عمومًا؟
شعار البريمير ليغ
أوّلى التّبعات المؤكّدة وأهمّها تتمثّل في وضعيّة اللاعبين الأوروبيين في البريمير ليغ، حيث سيعامل جميع اللاعبين الذين لا يحملون الجنسيّة البريطانيّة معاملة الأجانب، بعدما كان أيّ لاعبٍ يمتلك جواز سفر إحدى دول الاتّحاد الأوروبيّ يُعامل معاملة المواطن، الذي لا يحتاج إلى تصريحٍ خاصٍّ للعمل في بريطانيا، وذلك استنادًا إلى قانون حرّية تنقّل القوى العاملة ضمن دول الاتّحاد الأوروبيّ، وهكذا سيتمّ تطبيق القوانين البريطانيّة للعمال الأجانب على أولئك اللاعبين الذين يشكّلون حوالي ثلثي لاعبي أندية الدّوري الإنجليزي الممتاز، حيث سيحتاج كلٌّ منهم إلى تصريح عملٍ قبل أن يستطيع اللعب لأيّ نادٍ ضمن بريطانيا، مع العلم بأن هذا التصريح يخضع لشروطٍ صارمةٍ تتعلّق بنسبة خوض اللاعب لمباريات منتخب بلاده الدّوليّة خلال العامين الأخيرين، حيث يشترط خوض اللاعب ما نسبته 30% على الأقل من مباريات منتخب بلاده إذا كان تصنيف المنتخب بين 1و10 في ترتيب منتخبات الفيفا الشهري، وترتفع النسبة بانخفاض تصنيف المنتخب، حيث تبلغ 45% إذا كان تصنيف المنتخب بين 11و20، وإلى 60% إذا كان تصنيف المنتخب بين 21 و30، وإلى 75% إذا كان تصنيف المنتخب بين 31 و50، وعلى هذا، فقد يجد كثيرٌ من اللاعبين الأوروبّيين أنفسهم خارج البريمير ليغ، بسبب عدم استيفائهم شروط تصريح العمل الصارمة المتعلّقة بنسبة المباريات الدّوليّة!
كما يُتوقّع أن تُصدر رابطة الدّوري الإنجليزيّ الممتاز تعليماتٍ جديدةً، تُحدّد فيها عدد اللاعبين الأوروبيين المسموح بتواجدهم في كلّ نادٍ، باعتبارهم لاعبين أجانب، وذلك بعد أن كان العدد مفتوحًا سابقًا، وبالتالي فقد تجد الأندية الإنجليزيّة نفسها مضطّرةً للتخلّص من أغلب لاعبيها الأوروبيين، علمًا بأن أولئك اللاعبين يشكّلون حجر الثقل لدى أغلب أندية البريمير ليغ!
الإسباني سيسك فابريغاس عندما كان ناشئًا في صفوف أرسنال
ثانية التّبعات المؤكّدة تتعلّق باللاعبين الناشئين، حيث لم يعد بمقدور الأندية الإنجليزيّة استقدام المواهب الأوروبيّة التي تقلّ أعمارها عن 18 عامًا، وذلك بسبب حظر القانون البريطانيّ والأوروبيّ لذلك، علمًا بأن الوضعيّة القديمة كانت تسمح لهم بذلك باعتبار بريطانيا جزءًا من الوطن الأوروبيّ الموحّد، وبذلك لم يعد بإمكان عشّاق البريمير ليغ مشاهدة مواهب أوروبيّةً شابّةً من طينة سيسك فابريغاس مثلًا، والذي لعب لأرسنال في البريمير ليغ وعمره لم يتجاوز ال18 عامًا!
أمّا ثالث التبعات المؤكّدة –حاليًّا على الأقل- فيتمثّل بزيادة نسبة نفقات الأندية الإنجليزيّة، وذلك بسبب انخفاض قيمة صرف الجنيه الاسترليني أمام العملات العالميّة إلى أدنى مستوياته منذ عام 1985، وعليه فإن لاعبًا تبلغ قيمة انتقاله 60 مليون دولارًا مثلًا، كان يكلّف النادي حوالي 40 مليون جنيهًا استرلينيًا قبل الانفصال، فأصبح يكلّف حوالي 45 مليون استرليني حسب سعر الصرف الجديد.
وبالنّظر إلى نصف الكأس الممتلئ، نجد أن القرار لاقى ارتياحًا لدى بعض المسؤولين الرياضيين في إنجلترا، الذين وجدوا في التغيير المقبل فرصةً لظهور عدد المواهب الإنجليزيّة التي تدعم صفوف منتخب الأسود الثلاثة، وعن ذلك عبّر جوردون تايلور رئيس اتّحاد اللاعبين المحترفين في إنجلترا بقوله: (أرى أن ذلك سيكون في صالح المواهب الإنجليزيّة الشّابّة، فمن بين 600 لاعبٍ إنجليزيٍّ ناشئٍ لا يحصل سوى 100 لاعبٍ على فرصةٍ للظهور في البريمير ليغ، دون أن يكون لهم أدوار كبيرة، وهذا الأمر سيتغيّر بمجرّد اعتبار اللاعبين الأوروبيين كأجانب وفق قانون العمل البريطاني).
وبالمناسبة، فلن يكون لقرار الانفصال الأخير أيّ تأثيرٍ على مشاركة الدّول ال4 المنضوية تحت لواء التّاج البريطاني، وهي: إنجلترا، ويلز، اسكتلندا، وإيرلندا الشّماليّة، أو الأندية التابعة لها، في المسابقات القارّية المختلفة، سواءً على صعيد المنتخبات الوطنيّة أو الأندية، حيث تُعتبر المشاركة في تلك المسابقات متاحةً لجميع دول القارّة الأوروبيّة، وليست حكرًا على الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّي.
نجم ريال مدريد الويلزي غاريث بيل: أبرز اللاعبين البريطانيين خارج بريطانيا
وبالانتقال إلى تأثير قرار الانفصال خارج حدود المملكة المتّحدة، نجد أن الخاسر الأكبر في هذه المعمعة هم اللاعبون البريطانيّون الناشطون في الدّوريّات الأوروبيّة خارج بريطانيا، حيث سيعاملون من الآن فصاعدًا كلاعبين أجانب ضمن الدّوريّات الأوروبيّة، ممّا سيحدّ كثيرًا من مسألة احترافهم خارج حدود بريطانيا، كما سيؤثّر القرار على بعض الأندية التي تعتمد في صفوفها على لاعبين بريطانيين، كنادي ريال مدريد الإسباني مثلًا، والذي سيجد مدرّبه نفسه مضطرًّا لاستبعاد أحد لاعبي تشكيلته الأساسيّة الأجانب ال3: كيلور نافاس، كاسيميرو، أو خاميس رودريغيز، ليفسح لنجمه الويلزي غاريث بيل مكانًا أساسيًّا، ذلك أن قانون الدّوريّ الإسبانيّ لا يسمح بتواجد أكثر من 3 لاعبين أجانب –من خارج الاتّحاد الأوروبيّ- ضمن التشكيلة الأساسيّة لكلّ نادٍ، وكذلك الأمر في إيطاليا.
ومن ناحيةٍ أخرى، وعلى مبدأ: مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد، فمن المتوقّع تعود أزمة اللاعبين الأجانب في الأندية الإنجليزيّة بالنفع على بقيّة أندية الدوريّات الأوروبيّة الكبرى، التي ستحظى بفرصةٍ ذهبيّةٍ لاصطياد المواهب الأوروبيّة الشّابّة، إضافةً إلى احتضان النجوم الهاربين من جحيم تصاريح العمل في إنجلترا، مما سينعكس إيجابًا على قوّة تلك الدوريّات، ولا سيّما الدوريين الإسباني والألماني، الذين سيزدادان شهرةً وتنافسيّةً بازدياد قدرتهما على جذب النجوم، ممّا سيهيئ لهما الفرصة لسحب بساط أرباح البثّ التلفزيونيّ الطائلة من تحت أقدام الدّوريّ الإنجليزيّ الممتاز مستقبلًا.
لافتةٌ تدعو لانفصال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا خلال إحدى مباريات برشلونة
وما دمنا في الحديث عن الانفصالات وتأثيرها على كرة القدم، فلابدّ من التطرّق لقضيّة انفصال إقليم كاتالونيا عن إسبانيا، والذي شغل الرأي العامّ العالميّ قبل حوالي العامين، عندما فتحت سلطات الإقليم -الذي يحظى بالحكم الذّاتي- الباب أمام انفصاله التّام عن المملكة الإسبانيّة، فما كان من القائمين على قطّاع كرة القدم في إسبانيا إلّا أن هدّدوا الإقليم باستبعاد أنديته من المشاركة في منافسات الدّوري والكأس في إسبانيا، بما يترتّب على ذلك من حرمان النّادي الكاتالوني العملاق برشلونة من المشاركة في المسابقات الأوروبيّة تحت لواء إسبانيا، وقد آتت تلك التهديدات أكلها، ونجحت في تعديل المزاج الشعبيّ لسكّان الإقليم المطالب بالانفصال، وخاصّة فيما يتعلّق بكبرى مدنه برشلونة، التي لم يتحمّل جلّ سكّانها العاشقين للبلوغرانا، رؤية ناديهم العملاق بعيدًا عن مجد البطولات وشهرة الألقاب.
ومع أنّ الوضع في الدّاخل البريطانيّ يشبه -إلى حدٍّ ما- نظيره في إسبانيا، إلّا أن السلطات الرياضيّة البريطانيّة نحت منحىً مغايرًا، فأعطت الدويلات ال3: اسكتلندا، ويلز، وإيرلندا الشّماليّة، الحقّ في تشكيل منتخباتٍ وطنيّةٍ خاصّةٍ بها، والمشاركة في المسابقات الدّوليّة والقارّية أسوةً بمنتخب إنجلترا، مع السّماح للاعبي تلك الدّويلات بالمشاركة ضمن الدّوري الإنجليزيّ كلاعبين محلّيين، رغم وجود بطولتي دوريّ منفصلتين في كلٍّ من اسكتلندا وإيرلندا الشّماليّة.
وأخيرًا، بقي أن ننوّه إلى أن نتائج انفصال بريطانيا عن الاتّحاد الأوروبيّ قد لا تظهر على المدى القريب، إذ تستغرق إجراءات الانسحاب مدّةً قد تصل إلى عامين، يبقى خلالهما الطرفان ملتزمين بجميع اتّفاقياتهما وتعهداتهما المشتركة حتّى يتمّ استكمال الانسحاب.