مثَّل الاتفاق الذي توصلت إليه تركيا مؤخرًا مع إسرائيل حلقة ارتباك واضحة بالنسبة لأطراف عدة داخل الحركة الإسلامية، والجمهور العام في العالم العربي والإسلامي.
يأتي هذا الارتباك من طبيعة التشدد الكبير الذي أبدته الحكومة التركية سلفًا إزاء ملفات وأزمات المنطقة بشكل عام، وخصوصًا فيما يتعلق بأمرَيْن، الأول هو الموقف من الديكتاتوريات الحاكمة في المنطقة، ولاسيما في سوريا، وفي مصر، والثاني الموقف من الموضوع الإسرائيلي.
وزاد من حماسة الجمهور العربي والإسلامي، مواقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان ذاته، والذي ألهب حماسة مئات الملايين – بالفعل – على مستوى الأمة بالكامل، في ظل ما أبداه من ممانعة، كان لها الكثير من الأدوار في بعث الأمل في أوساط المسلمين، بأنه قد ظهر حاكمٌ مسلم يعبر عما يجول في خواطرهم وضمائرهم.
ولذلك حصد أردوغان تأييد نسبة من الجمهور العام خارج بلاده أكثر من تأييد الجمهور التركي نفسه على المستوى النسبي، ولذلك تغاضى الجمهور العام المؤيد للنموذج الإسلامي التركي، ولأردوغان، عن الكثير من السلبيات التي وقعت في المرحلة الماضية، وخصوصًا في ملف حقوق الإنسان، بمنطق أن تثبيت السلطان ونموذج الحكم هذا؛ يتطلب الكثير من التضحيات.
بدأت هذه الصورة في التزعزع قليلاً بعد التحركات الأخيرة التي بدأت الحكومة التركية في أخذها للتحرك خارج إطار العزلة التي قادتها إليها سياساتها الداخلية والإقليمية، وبدأت بإيران، التي يتناقض أي تعاون اقتصادي وأمني معها، مع المواقف الحاسمة والباتة التي أبدتها تركيا أردوغان إزاء الأوضاع في سوريا؛ حيث إيران هي من أكابر مجرمي الحرب في سوريا.
وقتها برر البعض ذلك، بأنه ضروري لصيانة الأمن القومي التركي من خلال ضمان وحدة الأراضي السورية، لتفادي قيام إقليم كردي مستقل في شمال سوريا، يتواصل جغرافيًّا وجيوسياسيًّا مع الإقليم الجنوبي الشرقي لتركيا، والذي يسيطر عليه الأكراد، ويسعى إلى الانفصال عن تركيا.
صيانة الدولة النموذج، كان على رأس المبررات التي سيقت في صدد المواقف التركية التي نأت عن السعودية باتجاه إيران، باعتبار أن السعودية كذلك من أهم داعمي الانقلاب ونظامه في مصر.
وحتى لا نستطرد كثيرًا، ويخرج الموضوع عن سياقه ويبدو وكأنه نقدٌ للسياسات التركية، وتعريض بمواقف الرئيس التركي، فإننا نقول إنه بناءً على المواقف التركية المتشددة في الأعوام الماضية، وحتى قبل ثورات الربيع العربي، وإزاء الملف الإسرائيلي بالذات؛ بدأت الكثير من الأطراف داخل الحركة الإسلامية، ومن بينها حركة “حماس”، في بناء سياسات معينة في المجالات السياسية والأمنية، اعتمادًا على الإسناد التركي.
الإسناد التركي كان – بالفعل – يزيد على مستوى الموقف، إلى مستوى الدعم المادي والسياسي، بما في ذلك استضافة قادة للجناح العسكري للحركة، من المطلوبين إسرائيليًّا، وعلى رأسهم صالح العاروري الذي كان مجال محادثات مطولة بين أنقرة وكلٍّ من إسرائيل وحركة “حماس”.
كما كانت تركيا أحد أهم داعي قطاع غزة المحاصَر، وبالتالي؛ فقد مثَّل ارتباط حركة “حماس” بتركيا كحليف رئيسي لها، وهو التحالف الذي أخذ مساحة إعلامية كبرى من أجل تعضيد الموقف السياسي والمجتمعي الآخذ في التراجع بالفعل داخل قطاع غزة، تجاه حركة “حماس” ومخططاتها طويلة وبعيدة الأمد.
وظَّفت حركة “حماس” الدعم والإسناد التركي من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من تماسك جبهتها الداخلية، بجانب إسناد “انتفاضة القدس” الحالية، في مواجهة مشكلات بدأت تأخذ أبعادًا موضوعية، بخلاف المؤامرات التي ترتب لها خصومات فلسطينية وعربية لـ”حماس”، داخل القطاع.
سياقات سياسية فرضت الاتفاق
لم يمثل الاتفاق التركي الأخير لتطبيع العلاقات مع دولة الكيان الصهيوني مفاجأة لبعض المتابعين عن كثب لتطورات الشأن التركي؛ حيث إن هناك العديد من الأمور التي جرت وأطَّرت له خلال الأشهر الأخيرة، بعضها يرتبط بالأوضاع التركية، وبعضها يرتبط بالعلاقات التركية مع “حماس”.
لكل من نتنياهو وأردوغان مصالح كبرى في تطبيع العلاقات
من نافلة القول، الإشارة إلى سلسلة الأزمات التي ضربت المصالح التركية في العامَيْن الأخيرَيْن، وقادت إلى تهديد الأمن القومي التركي في أكثر من اتجاه، بما في ذلك وحدة الأراضي التركية، في ظل السلوك الأمريكي في الملف السوري، والذي يدعم الأكراد مباشرة، بالإضافة إلى انتقال ريح الإرهاب إلى داخل الأراضي التركية، بسبب سياسات أردوغان بالتحديد، وليس حزبه أو حكومته.
ومن مكرور الكلام، ولكن من الضروري ذكره، أن سلسلة الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي تكالبت على الدولة التركية بعد الأزمة مع موسكو في نوفمبر الماضي، عقب إسقاط السوخوي الروسية فوق الأجواء السورية، قادت إلى إعادة تفكير كاملة من جانب الحزب الحاكم في تركيا، ومؤسسات الدولة السيادية، وخصوصًا المؤسسة العسكرية، في السياسات المتبعة من جانب أردوغان.
أدت العزلة الإقليمية والدولية لتركيا بسبب سياسات أردوغان، إلى إضعاف أردوغان نفسه في الداخل، وهو الذي في الأصل، يواجه الكثير من التحديات الداخلية، والتي تستهدفه هو ذاته، مثل ما يعرف بـ”التنظيم الموازي”، الذي يحركه عبد الله جولن، من منفاه الاختياري في الولايات المتحدة، وله وجود كبير في مؤسسات الدولة، وخصوصًا الشرطة والقضاء.
أضف لذلك ممانعة الكثير من الأطراف المعارضة له، لسياساته، وتصعيدها لهذه الممانعة في الإعلام والشارع، مما اضطره إلى أخذ قرارات وسياسات كان لها ثمنها، مثل اعتقال صحفيين ونشطاء حقوقيين، وإغلاق صحف، وغير ذلك.
وزاد من حدة هذه المعارضة، أن ربطت نشاطها برغبة أردوغان في تحويل النظام البرلماني المعمول به دستوريًّا في بلاده، وهو ما اعتبر محاولة من أردوغان للانقلاب على التجربة الديمقراطية التركية، ودعم من الهجمة عليه، تصريحاته العلنية حول “عثمنة” الدولة، أو “أسلمتها” بمعنىً أدق.
وكانت خطوة “استقالة” أحمد داوود أوغلو، من منصبه في رئاسة الوزراء، ومن رئاسة الحزب، وتنحيه عن الحياة السياسية بالكامل – قيل في البداية إنه سوف يؤسس حزبًا جديدًا؛ لكن هذا لم يحدث ولن يحدث في المستقبل القريب – مزعزعة للكثير من القناعات حول أردوغان، على المستوى الجماهيري، نظرًا لما كان لأوغلو من رمزية وقيمة لدى الجمهور الإسلامي الحركي العام، في ظل الطريقة التي استخدمها معه أردوغان قبيل وبعد استقالته، وعرَّضت بأوغلو وذمته السياسية.
هذا كله قاد إلى إضعاف أردوغان في الداخل أمام أركانه السياسية والحزبية والحكومية، ولكن ينبغي التأكيد على أمر مهم، أن المعارضة الداخلية أمام أردوغان ليست وليدة هذه الفترة، بل هي قائمة منذ فترة.
إلا أنها أخذت مجالها بعد الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية الأخيرة، التي هددت الدولة التركية، فكان رد الفعل داخل القوات المسلحة التركية، والتي أنذرت أردوغان علنًا في أكثر من موقف بخطورة سياساتهـ من بينها رفض وزير الدفاع عصمت يلماز، علنًا قبل أشهر، أمام البرلمان التركي، فكرة التدخل العسكري البري المباشر في سوريا بشكل منفرد.
كما أنها هددت إنجازات تجربة العدالة والتنمية، فكان أن عبرت المعارضة المكتومة داخل الحزب عن نفسها علنًا، بعد أن كانت عبارة عن همسات داخلية، كان أردوغان – وقت قوته – قادرًا على كتمها مهما كان مصدرها، حتى ولو كان عبد الله جول نفسه، رفيق دربه، والرئيس السابق للدولة، في ظل كون أردوغان مستندًا إلى إنجازاته.
وهو ما دعا لينا الخطيب، رئيسة برنامج الشرق الأوسط في المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية، ومديرة مركز كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت، إلى أن تكتب مقالاً لشبكة “سي. إن. إن بالعربية”، بعنوان: “بعد هجوم إسطنبول وتطبيع العلاقات مع روسيا وإسرائيل.. لماذا يبدو أردوغان أضعف من أي وقت مضى؟“.
وفي الواقع هي عبارة موفقة للغاية، وبدأته ببراعة استهلال قبل أن تتداول أسبابه، وكان بعضها مما تناولناه فيما مضى من موضوعات في الشأن التركي، فنجدها تقول: “سلط هجوم مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول زيادة ضعف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهو ضعف نتيجة تصرفات حلفاء تركيا ومعارضيها على حد سواء، ولكنه يعود جزئيا إلى أعمال أردوغان نفسه”.
ولسنا هنا في معرض تناول تحولات الموقف التركي المتسارعة من روسيا، بل ومن سوريا ومصر، ولكن من المهم الإشارة إليها، للوقوف على الصورة الكاملة لما يجري في السياسة التركية.
فوفق تصريحات مؤكدة لرئيس الحكومة بن علي يلدرِم، فإن تركيا سوف تغير من سياساتها إزاء الإقليم، بما في ذلك مصر وسوريا، بل وأشار إلى إمكانية تطبيع العلاقات بين تركيا ومصر من خلال تبادل الزيارات الوزارية، وإعادة تفعيل التعاون الاقتصادي بين البلدَيْن أولاً قبل التطرق للموقف من العلاقات السياسية!
“حماس” والاتفاق
قبل فترة، وبعدما بدأت الأزمات في تطويق تركيا وأردوغان، فكر الرئيس التركي وحكومته في بدائل للخروج من هذه الحالة، وكان الصلح مع إسرائيل، يحقق الكثير في هذا الاتجاه.
فهو من ناحية يضمن بديلاً قويًّا في المجال الاقتصادي، ولاسيما الغاز الطبيعي، كما أنه من ناحية أخرى، يضمن أن تنصلح أحوال بلاده مع الغرب من خلال الممر الإسرائيلي المضمون في مثل هذه الأحوال، كما أن هناك الكثير من الأمور المتعلقة بالتعاون العسكري بين الطرفَيْن، ولاسيما في مجال التبادل التقني.
ولذلك، جرت في الأشهر الأخيرة الكثير من اللقاءات بين أردوغان وحركة “حماس” على مستوى قيادة الحركة بشكل مباشر، ممثلة في رئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل.
وحاولت الحكومة التركية في هذه اللقاءات، إقناع قيادة “حماس” بقبول بعض المطالب التي من شأنها تحسين الموقف التركي في المفاوضات مع إسرائيل، وكذلك ضمان موطئ قدم لتركيا في قطاع غزة، يكون نقلةً نوعية مهمة لأردوغان في مواقفه الممانعة للنظام الحالي في مصر.
وكان أردوغان يرغب في إقناع مشعل بقبول مقترح وافقت إسرائيل عليه، وهو هدنة طويلة الأمد بينها وبين “حماس”، في مقابل رفع الحصار عن قطاع غزة، واستكمال مشروع الميناء والمطار، وضمان حرية الحركة عبرهما، بوجود أو بمراقبة إسرائيلية، مباشرة وغير مباشرة.
وبطبيعة الحال، رفض مشعل ذلك، وقال إنه ليس بمقدوره في الأصل أن يفرض هكذا قرار يعني عمليًّا بكل بساطة نزع سلاح المقاومة، على كتائب الشهيد عز الدين القسَّام، الذراع العسكري للحركة.
ولا يعود ذلك إلى طبيعة تأهيل القسام ومقاتليها؛ بل إلى نظام خاص لها داخل “حماس”، موضوع لها منذ البداية؛ حيث هي مستقلة عن قيادة الحركة السياسية، عدا رئيس مكتبها السياسي، وحتى هذا المنصب لا يملك فرض قرارات تخالف ميثاق الحركة، بمعنى أن قرارات مشعل لو خالفت ميثاق “حماس” التأسيسي؛ فإن القسَّام غير ملزمة بها.
كما أن ذلك الطرح التركي يعني قبول الحركة بأوسلو جديدة وإن كانت من بوابة خلفية، أو بظاهرٍ مختلف، وهو ما سوف يقود حتمًا إلى فقدان الحركة لمصداقية خطابها، وبالتالي تراجع شرعيتها الجماهيرية إلى درجة أدنى؛ حيث لن تصبح هي “حماس” التي أيدها الجمهور في القطاع وخارجه، بكل ما تعنيه “حماس” من برامج وخطاب.
الموضوع الثاني الذي طرحته إسرائيل في صدد “حماس”، هو وجودها في تركيا، وخصوصًا رموزها الحركيين والعسكريين، ومن بينهم العاروري، المسؤول عن عملية خطف وقتل ثلاثة مستوطنين يهود في الضفة الغربية، في يونيو 2014م، وهي الحادثة التي قادت إلى عدوان إسرائيل المُوسَّع على القطاع في يوليو وأغسطس من ذلك العام، وراح ضحيته أكثر من 2550 شهيدًا فلسطينيًّا، وتدمير عشرات الآلاف من المنازل لا تزال مهدومة للآن، بسبب منع إسرائيل دخول مواد البناء اللازمة إلى القطاع، ضمن الحصار الممتد عليه منذ أكثر من عشر سنوات.
هذا الأمر، لا توجد معلومات مؤكدة في صدد الموقف التركي فيه؛ حيث إن الحكومة التركية وحركة “حماس” على وجه الخصوص، لم تذكر أي شيء في صدده في بياناتهما الرسمية حول الاتفاق، ولكن هناك تصريحات رسمية من الطرفَيْن تشير إلى أن اتفاق تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل لم يتضمن أي شيء يتعلق بعلاقات تركيا بـ”حماس”، والتي أكد رئيس الوزراء التركي الجديد بن علي يلدرِم، على أنها علاقات أساسية بالنسبة لتركيا، وأن بلاده تسعى لتوظيفها لتحقيق السلام في المنطقة.
لم تخفِ حركة “حماس” موقفها الفاتر من الاتفاق، ولئن كان البيان الرسمي للحركة قد اكتفى بالتعبير عن شكره لتركيا على مواقفها الداعمة للشعب الفلسطيني وقضاياه؛ فإن تصريحات قادة الحركة، ومن بينهم أسامة حمدان، مسؤول العلاقات الخارجية فيها، قد عبرت عن ضيقها إزاء الاتفاق، ونفت تمامًا أن تكون قد أيدته وما جاء فيه في صدد تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل.
الأزمة الكبيرة بالنسبة لـ”حماس” في الاتفاق، هو أنه أعطى إسرائيل قبل أن يأخذ منها، ولاسيما فيما يتعلق بتبادل السفراء وتطبيع العلاقات وتبادل التعاون التجاري والاقتصادي والعسكري، ولاسيما في مجال الغاز الطبيعي والتقنيات العسكرية.
وذلك أمر واقع، مهما قيل عن اعتذار إسرائيل لتركيا عن الغارة البحرية على السفينة “مافي مرمرة” وأسطول الحرية الأول، في 31 مايو 2010م، وقاد إلى مقتل عشرة من النشطاء الأتراك، من بينهم تركي يحمل الجنسية الأمريكية، وأن إسرائيل بصدد دفع تعويضات في هذا الصدد.
فالاتفاق أولاً لم يتضمن أي شيء ملزم لإسرائيل في خصوص موضوع الحصار، بل إنه كرَّسه؛ حيث إنه وضع بصمة أصبع تركيا الرسمي على ترتيباته التي حددتها إسرائيل، فتركيا الآن بموجب أنها وافقت على أن أية مساعدات سوف ترسلها إلى القطاع المحاصر، سوف تمر أولاً على السلطات الإسرائيلية، من خلال ميناء أشدود، فإنها الآن تُعتبر موافقة رسميًّا على سياسة الحصار الإسرائيلي على القطاع.
كما أن تعهدات إسرائيل في صدد بناء مستشفى ومحطة للكهرباء في قطاع غزة بالتعاون مع الحكومة الألمانية، كلها تدخل في إطار التعهدات وليس فيما رشح عن بنود الاتفاق إعلاميًّا أي شيء يتعلق بالجدول الزمني التنفيذي لذلك.
وهذه الرؤية ليست تحليلاً خاصًّا، ولكنها وجهة نظر حتى مؤسسات الإغاثة التركية المعنية، ومن بينها منظمة “IHH” التي كانت مسؤولة عن تسيير أسطول الحرية الأول، منظمة رحلة السفينة “مافي مرمرة”.
فمن بين 12 نقطة ذكرتها المنظمة عن أسباب اعتراضها على الاتفاق، ونشرتها على موقعها الرسمي أن مسألة المساعدات الإنسانية في قطاع غزة ليست سوى جزء من الأزمة؛ حيث أساس الأزمة – والكلام للمنظمة حرفًا – هو سلب الحريات ومنع ممارستها، بحيث يجب أن يتمتع سكان القطاع بحرية التنقل والتجارة كسائر شعوب العالم، وكان لابد من طرح هذه المسائل.
كذلك تقول المنظمة إنه كان من الواجب ألا يرد أي ذكر خلال المفاوضات لإغلاق الدعاوى القضائية التي رفعها ضحايا “مافي مرمرة” ضد إسرائيل، وهو أمر مستغرب بالفعل أن يتم قبل أن تفي إسرائيل بالتزاماتها في الأمر.
وهنا لم يحفظ التاريخ السياسي للإسرائيليين ثوابتَ بقدر ما حفظ لهم أنهم لم يلتزموا بأي تعهد أو اتفاق يخل بمصالحهم، والسلطة الفلسطينية وعملية أوسلو خير شاهد على ذلك، وعندما التزموا مع المصريين كمرة وحيدة، كان ذلك لمصالح سياسية وأمنية استراتيجية هائلة حققتها إسرائيل من معاهدة السلام الموقعة مع مصر، في سيناء، وبشكل عام من خلال الصلح مع مصر.
نضيف إلى ذلك أن إسرائيل وضعت هيئة أو منظمة “IHH“، والمشاركين في “مافي مرمرة” على قائمة الإرهاب، وهو ما يعني عجزًا قانونيًّا لهذه المؤسسات عن العمل حتى من خلال مسار “تركيا/ أسدود/ غزة”، فما ذلك، فإن السلطات التركية امتنعت عن إرسال قرارات الاعتقال الصادرة من المحاكم التركية بخصوص مجرمي الحرب الإسرائيليين المتهمين في جريمة مايو 2010م، إلى الإنتربول.
أردوغان بالمناسبة شنَّ هجومًا حادًّا على بيان المنظمة السابق الذكر، واتهمهم بالمزايدة، وقال ما معناه تنصله من رحلة السفينة أصلاً (!!)؛ حيث قال: “عندما ذهبتم بالمساعدات إلى غزة، هل استأذنتم رئيس الوزراء في حينها (كان هو رئيس الوزراء)؟؟، ولكن نحن كحكومة قدمنا دائمًا المساعدات لغزة وفلسطين وما زلنا، لكننا لا نقوم بها كاستعراض عضلات ضد اطراف معينة بل ضمن أصول الدبلوماسية الدولية، ووفق آدابها وأساليبها المعروفة، وليس بالطبل والزمر”، وفق ترجمة للباحث الفلسطيني المقيم في تركيا، الدكتور سعيد الحاج.
البعض يتساءل عن مصداقية خطاب أردوغان في المستقبل عن الحقوق الفلسطينية
هذه الصورة مثَّلت مصدر حرج كبير بالنسبة لحركة “حماس”، وهو ما بدا واضحًا في تحرك الحركة بشكل عاجل “إعلامي وسياسي” في ملف “انتفاضة القدس”؛ حيث شهدت الفترة الماضية أكثر من عملية نوعية، شملت الضفة الغربية المحتلة، والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948م، مثل عملية ناتانيا الأخيرة.
كما بدأت الحركة في حملة علاقات عامة واسعة، شملت “الجزيرة” بالرغم من احتجاج الحركة على بعض تغطياتها خلال العدوان الأخير، وتغطية الجزيرة الإنجليزية على وجه الخصوص لبعض الملفات الخاصة بالانتفاضة، وذلك لاستعادة الصورة الذهنية للحركة كحركة مقاومة، مثل تصوير بعض الأفلام حول جهود القسام في حماية حدود غزة، وإعادة ملف الجنود الإسرائيليين الذين تحتجزهم “حماس” أو تحتجز جثامينهم، وأن الاتفاق التركي الإسرائيلي سيكون له بعض المردودات الإيجابية فيما يتعلق بموضوع تبادل الأسرى.
إلا أن “حماس” لا تعاني من موضوع تكريس الاتفاق للحصار فحسب كمصدر حرج؛ حيث إن هناك أكثر من مصدر آخر لهذا، وهو ما سوف يفت بالتأكيد في عضد “حماس” في الداخل، وهو موضوع الغاز الإسرائيلي المصدَّر لتركيا.
هذا الغاز، أولاً، وبحسب مصادر إعلامية وسياسية تنتمي للحركة الإسلامية؛ فإنه خلال فترة الأزمة بين تركيا وإسرائيل، كان الحديث المعلن أن إسرائيل تسرق غاز الفلسطينيين من قبالة شواطئ قطاع غزة المحاصَر.
تركيا بالمناسبة، لن تدفع ثمن هذا الغاز الآن فقط، بل هي ظلت طيلة الأعوام الماضية تدفعه، وفي وقت العدوان الصهيوني على قطاع غزة قبل عامَيْن؛ سددت تركيا مليار ونصف المليار دولار، ذهبت – بحسب نشرات اقتصادية إسرائيلية رسمية – إلى ميزانية جيش الدفاع الإسرائيلي.
الآن، لا أحد يعرف كيف سوف يتصرف هؤلاء مع ما سبق أن قيل في صدد الغاز الفلسطيني المسروق، ولا كيف سوف يتم تكييف الموضوع إعلاميًّا.
وفي الختام، فإنه، وبعيدًا عن كل الاعتبارات القيمية في الموضوع، والمتعلقة بأن إسرائيل عدو، ومحتل غاصب مجرم؛ فإنه، وبالمقاييس الموضوعية المجرَّدة، فإن الاتفاق يغبُن الفلسطينيين بالفعل، ووضع حركة “حماس” في موقف حرج أمام الرأي العام الداخلي.
كما أنه على المستوى الزمني القريب؛ فإن تركيا لن تستطيع أن تضع أي إسناد للحركة إعلاميًّا أو سياسيًّا.
فإعلاميًا؛ سوف يكون الأمر أقرب إلى خطاب الاستهلاك الإعلامي كما تفعل الديكتاتوريات العربية، أما سياسيًّا؛ فإن الأمر لن يمر بسهولة من جانب إسرائيل، وسوف يكون فرصة ذهبية لها للتنصل من التزاماتها في الاتفاق، بحجة أن تركيا قامت بما يخل بالتزاماتها، والمتعلقة بمصالح إسرائيل السياسية والأمنية فيما يخص موضوع حماس.
أما كيف سوف تتعامل “حماس” في المستقبل مع الموضوع؛ فهذا غير واضح، ليس لغياب المعلومات بشأنه، ولكن لأنه من الواضح – في ظل الإجراءات السريعة التي اتخذتها الحركة كما تقدم لتحسين صورتها الإعلامية والتأكيد على تمسكها بخيار المقاومة أيًّا كانت موقف الحلفاء أو الأعداء على حد سواء – أن “حماس” قد فوجئت بالقرار التركي في هذه النقطة الزمنية، لأنه بالفعل جاء على عجل من جانب الحكومة التركية.
وبالتالي، فإن الحركة لا تملك رؤية واضحة أو متكاملة للتعامل مع تبعات الحدث في الوقت الراهن، ولكن مما علمناه عن “حماس”؛ فإنها لن تعدم في أن تجد حلاًّ!