قبل أسابيع قلائل كان تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق يحكم قبضته على مدينة الفلوجة العراقية التي تبعد عن العاصمة بغداد مسافة لا تتجاوز 65 كيلو مترًا، ولكن هذه السيطرة بدأت تتفلت مع نشوب المعارك مع الجيش العراقي والمليشيات العشائرية والحشد الشعبي.
إلى أن أعلن الجيش العراقي استعادته مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار غربي البلاد بعد سيطرته على آخر معقل لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في المدينة، هذه المعركة التي خاضتها القوات الحكومية العراقية لاستعادة المدينة بدعم جوي من الولايات المتحدة، هذا الأسبوع، تعد واحدة من أهم الانتصارات في الحرب ضد التنظيم في العراق حتى الآن، بعد حملتين سابقتين على المدينة فشلت فيهما القوات العراقية والمليشيات المساندة لها في طرد عناصر التنظيم من المدينة.
في حين تعد الفلوجة أولى مدن العراق التي سقطت مطلع العام 2014 بيد مسلحي تنظيم الدولة الذين شنوا في شهر يونيو من ذلك العام هجومًا واسع النطاق سيطروا خلاله على مناطق أخرى في شمال البلاد وغربها، ولاسيما مدينة الموصل شمال العراق.
تتوجه الأنظار إلى الموصل أحد أكبر معاقل التنظيم في العراق وسوريا ولكن في البداية يتحتم على القوات الحكومية أن تثبت قدرتها على الاحتفاظ بالمناطق المحررة من قبضة التنظيم، وذلك بعد أن أعلنت مصادر أمنية بقيادة عمليات الأنبار إن أكثر من 20 من القوات العراقية والحشد العشائري قتلوا بهجوم واسع لتنظيم الدولة الإسلامية على مناطق كانت القوات العراقية قد استعادتها بجنوب غرب الفلوجة.
هذا بالإضافة إلى تحدي الإعمار وتجنب الصراع الطائفي الذي يواجه الحكومة العراقية في ظل تواصل مظاهر الاستفزاز الطائفي التي تقوم بها المليشيات الشيعية في مدينة الفلوجة، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان الحكومة العراقية استعادة السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تستعد فيه الحكومة العراقية مدعومة بالمليشيات الشيعية وبعض القوات العشائرية لفتح معارك جديدة ضد التنظيم في نينوى مستعينة بقوات البشمركة الكردية لاستعادة المدينة من قبضة داعش، يجب معرفة أن استعادة الفلوجة على هذه الصورة لم يكن بدفع ثمن رخيص على كافة الأصعدة.
ثمن تحرير الفلوجة
التكلفة الإنسانية لتحرير المدينة كانت باهظة للغاية ولا تزال، حيث أسفرت المعارك الأخيرة في الفلوجة عن نزوح آلاف العائلات العراقية إلى مخيمات شيدتها الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية، وسط أوضاع إنسانية متدهورة، وفي هذا السياق قال برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إنه يتابع الظروف القاسية التي يعيشها أكثر من 85 ألف شخص نازح من الفلوجة بقلق شديد.
ناهيك عن تعرض الآلاف غيرهم من سكان الفلوجة للعديد من الانتهاكات الطائفية على أيدي المليشيات، في الوقت الذي تقول فيه القوات العراقية إنها احتجزت نحو 20 ألفًا من سكان الفلوجة للتحقق مما إذا كان بينهم من ينتسبون إلى تنظيم الدولة.
التكلفة العسكرية أيضًا لم تكن سهلة أبدًا بعدما ظهرت شراسة قتال تنظيم الدولة على أكثر من محور حاولت القوات العراقية اختراقه خلال المعارك، وهو ما أوقع خسائر فادحة في صفوف القوات العراقية والمليشيات الداعمة لها، حاولت بعض المصادر الأمنية إنكارها.
وهو الأمر الذي أيضًا أكدته مصادر أمنية خاصة بموقع “ميدل إيست آي” أشارت إلى وقوع مئات القتلى من الجنود العراقيين المشاركين في الحملة على الفلوجة، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 3 آلاف آخرين خلال معارك استمرت لأكثر من 5 أسابيع متواصلة، لكن القيادات الأمنية العراقية لم ترد الإفصاح بهذه المعلومات أبدًا تحت ذريعة الحفاظ على الروح المعنوية للجنود.
في حين ذكرت بعض المصادر الطبية الأخرى للموقع البريطاني أن 900 من جنود الجيش العراقي قتلوا خلال المعركة في أسبوع واحد، ولا تشمل هذه الأرقام أعضاء المليشيات المشاركة في القتال بجوار الجيش العراقي الذين سقط منهم العشرات، في حملة شارك فيها أكثر من 35 ألف جندي عراقي مدعومين بقوات عشائرية ومليشيات شيعية بالإضافة إلى الإسناد الجوي من التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة.
المفخخات السلاح السحري لداعش
كان القتال على أشده في جبهات الفلوجة، وقد أحكمت القوات العراقية الحكومية الحصار على المدينة، وازداد القصف الأمريكي بالطائرات وزادت حدة خسائر التنظيم معه، لكنه اعتمد للاستمرار في القتال كل هذه المدة على سلاح السيارات المفخخة، وهو السبب الرئيسي في وصول أعداد الخسائر في الأرواح بين جنود الجيش العراقي إلى هذا الرقم الكبير.
وقد اشتكى جهاز الشرطة الاتحادية من هذا الأمر، حيث لم يكن جنود الجهاز المشاركين في المعركة مدربين على مواجهة هذه الأخطار كالجيش أو وحدات مكافحة الإرهاب، لذا وقعت الخسائر في صفوف الشرطة الاتحادية أكثر من غيرها.
فيما يعتبر البعض جبهة الفلوجة أضعف نسبيًا بالنسبة للتنظيم من جبهات أخرى كثيرة داخل العراق يتمتع فيها بثقل أكبر، وهو ما يعني أن المعارك القادمة ستكون أكثر دموية من ذلك، ولن تكون بسهولة معركة الفلوجة التي أوقعت كل هذا الكم من الضحايا في صفوف القوات العراقية.
وعلى صعيد خسائر تنظيم الدولة الإسلامية تفيد المصادر بأن مقاتليه في المدينة لم يكونوا بالعدد الكبير إلا أنهم صمدوا أمام الحملة العراقية لمدة كبيرة نسبيًا، لكن المصادر العراقية تشير إلى مقتل أكثر من 2500 عنصر داعشي بالمعارك، بالإضافة إلى إلقاء القبض على أكثر من 2000 عنصر بحسب الأرقام العراقية الرسمية، هذا إلى جانب آلاف المعتقلين الآخرين من سكان المدينة الذين يخضعون للتحقيقات.
يوجه خبراء عسكريون انتقادات إلى طريقة إدارة القوات العراقية لمثل هذه المعارك، حيث يعتبر البعض أن القوات العراقية تقوم بتدمير المدن بالكامل ثم تتجه للإعلان عن تحريرها بالكامل بعد أن تصبح خاوية على عروشها.
وكذلك ينتقد البعض الآخر غياب الحلول السياسية التي تعالج هذه الأزمات من جذورها بعد المعارك، إلا أن استمرار العنف الطائفي ضد سكان المدن المحررة يُشير إلى عدم وجود أي عقلية سياسية تدير الأمر بما يمنع ظهور “داعش” مرة أخرى، وسيبقى السؤال ماذا سيحدث بعد ذلك هل نرى ظاهرة مسلحة أخرى كداعش تتغذى على الصراع الطائفي في العراق؟