ينتابك شعور بألم لا يخلو من الامتعاض لدى تجوالك في أحياء بغداد القديمة، وأنت ترى التراث والمعالم التاريخية التي تهتم بها المراكز البحثية والجامعات في أقصى بقاع الأرض، وقد أصبحت اليوم عرضة للاندثار والانهيار في أية لحظة، دون أن تولي الجهات ذات العلاقة لذلك أدنى أهمية، سوى قوانين بالية تنقصها المتابعة والتطبيق، وإهمال لا أحد يعرف من يتحمل مسؤوليته، دوائر تتنصل من مسؤوليتها، وأخرى تشكو ضعف التمويل، وخلافات على مرجعية المؤسسات ذات العلاقة.
وفي الجانب الآخر هناك ثروة في طريقها إلى الزوال لا تحتمل المزيد من الإهمال، بعد أن بدأت تفقد هويتها شيئا فشيء وتتحول إلى أماكن خربة لا يمكن إعادة الحياة إليها من جديد، وآخرها كان جامع مرجان الذي لم يسلم من هذا الإهمال، قد لا تكون صدفة ويقال دائمًا إن الإنسان قبل قدوم منيته وانتقاله إلى العالم الآخر بأشهر أو بأيام ينتابه إحساس الموت وهكذا كانت ميادة العسكري الكاتبة والصحفية العراقية حفيدة الشخصية السياسية العراقية المعروفة المرحوم جعفر العسكري، فقبل أشهر من وفاتها العام الماضي كتبت عن بغداد كتاب بعنوان “في حديقة الملك” ولتعلق قلبها بأزقة بغداد القديمة التي أمضت فيها طفولتها فكان لجامع مرجان النصيب الأكبر لتبحر في تاريخ هذا المسجد بمعلومات مهمة لم يسبقها أحد في طرحها لهذه المعلومات التي حصلت عليها من كتب ومذكرات مكتبة العائلة حيث تحدثت العسكري عن تاريخ مرجان وترى من هو مرجان هذا؟
واللافت في جامع مرجان أنه كبير جدًا ليس فيه سوى باب واحد يتزاحم فيه الداخلون والخارجون، وقبر مرجان (مستو بالأرض على شكل مرمرة كبيرة) يقع بالقرب من دكة الباب بحيث يدوس على رأسه الداخلون والخارجون.
الغريب في الأمر أن مرجان رجل إيطالي واسمه هو السنيور موركان، فتحولت موركان مع السنين إلى مرجان، ويقال إنه كان مثقفًا فًيلسوفًا يتكلم العربية والفارسية على الرغم من أنه لم يذهب إلى الجامعات والمدارس، وكان مرجان غير محظوظ، اضطرته الأزمات إلى أن يعمل جنديًا مرتزقًا، وفي أحد الحروب أسره المغول وباعوه، ثم باعوه واشتروه أربع مرات حتى وصل إلى بغداد، فباعه تاجر لقصر السلطان أويس، وهو ابن حفيد هولاكو المغولي.
ولفظة خان تعني بالفارسية “باشا” وقد عمل مرجان خادمًا وعينه رئيس الخدم طباخًا وكلما يقدم إلى السلطان طبقًا يسمعه شعرًا وفلسفة، حتى أعجب به السلطان فعينه وزيًرا ثم رئيسًا للوزراء وقد جمع ثروة كبيرة.
وفي تلك الأثناء جاءت رسالة إلى السلطان من ملك (الأيلخانية) آسيا الوسطى يقول فيها: ساعدونا! لقد ثار علينا التركمان بجيش كبير يزحف علينا.
فقال السلطان لمرجان: “اجلس في عرشي واحكم باسمي حتى أعود”، فأخذ السلطان المغول واتجه بهم شمالاً حتى التحم مع جيش التركمان في حرب دامت شهورًا عدة وقتلوهم جميعًا حتى الأسرى، وقتل من المغول عدد كبير، وخان مرجان العهد! لكن مع الأسف مرجان هذا لم يعرف المغول الذين حاربهم بالأمس، أنهم لطيفون مؤدبون دائمو الابتسام، لكنهم في الحروب أشداء مجرمون، لقد خطب بالعراقيين وبشرهم بنهاية الدولة (الأليخانية) وبداية الدولة (المرجانية) وبداية الحياة الكريمة، والعراقيون صدقوه فجمع منهم جيشًا كبيرًا وجاء بالراجمات والمنجنيقات العملاقة من روما، وعندما عاد السلطان بجيشه حاملاً معه جرحاه وعلم بالخبر تألم كثيرًا، وعندما وصل جيشه إلى بعقوبة حدث فيضان رهيب لنهر دجلة وصلت مياهه إلى حد 10 كيلومترًا، من دجله إلى الشماعية.
ووصل السلطان (أويس) إلى ساحل الماء وأمامه 10 كيلومترات للساحل الآخر، فأمر كل واحد من جنوده يقطع شجرة ويصنع بلم صغير يركب به ويأخذ جريحًا، ولما وصلت الأبلام قرب الساحل انهالت عليها قذائف المنجنيق فقتل الكثير وما إن التقى الجيشان حتى صارت معركة عظيمة بينهما وقتل معظم جيش مرجان، ووصل السلطان إلى قصره ودخل القصر وشاهد مرجان وهو جالس ويرتعد وخصوصًا عندما شاهد سيف السلطان يقطر دمًا، قال السلطان لمرجان مد عنقك لأقطعها، ففعل مرجان فرفع السيف لكنه لم يقطع عنقه قال لمرجان لخاطر الصداقة والزاد والملح الذي بيننا لن أقتلك لكن أغرب عن وجهي، وهو يمشي في الطرقات ويرى الرؤوس والدماء وهو يبكي ويقول: “ليت السلطان قتلني وما رأيت هذا”.
فجمع كل أمواله وبنى جامعًا كبيرًا وبنى 100 دكان وهي سوق الشورجه وجعل إيجار الدكاكين للجامع ولإطعام الفقراء والمساكين، وبقي في داخل الجامع يعمل خادمًا يكنس وينظف ويطبخ ويعطي الطعام للمصلين والفقراء، وكان يتعشى مع الفقراء ليلاً، ومرت السنين وهو ساكن في المسجد ومبتعد عن ملذات الحياة ولا يرى النور حتى مرض وعلم بقرب منيته فحفر لنفسه قبرًا بالقرب من الباب، فقالوا له: “يامرجان لماذا جعلت رأسك قرب دكة الباب؟”.
قال: لست مطمئنًا إلى أن ربي غفر لي، وأتأمل بالمستقبل عسى أن يدخل الجامع شخص يحبه الله تعالى فعسى أن يغفر الله تعالى لي لخاطر قدمه التي يضعها على رأسي!
لا أدري مدى دقة معلومات هذه الرواية، لكنها أعجبتني لأسباب كثيرة، فهي الأولى والوحيدة التي حصلت عليها فيما يخص أصل جامع مرجان الذي نراه اليوم مهملاً بعد سنوات كثيرة من سقوط نظام البعث في العراق 2003، حيث يبكي القلب من منظر القمامة الورقية والمياه الآسنة التي ملأت أروقة الجامع لأسباب أجهلها تمامًا.
أعلم أنني قد أسهبت في الحديث عن تاريخ الجامع بالتفصيل وقد يكون عند البعض تفصيل ممل، ولكن أردت استعراض تاريخ إنشاء هذا المعلم التراثي صاحب المكانة التاريخية والمعمارية الكبيرة، حيث شغل باحثو العرب والغرب لتحديد قصته ودراسة زوايا هذا المعلم الذي لا يقل أهمية عن المدرسة المستنصرية في بغداد، كما أحمل المسؤولية للجهة المسؤولة عن حماية هذه المواقع التراثية والمتمثلة بمحافظة بغداد والمسؤول عن إدرة شؤون المحافظة محافظ بغداد الأستاذ علي التميمي، وأمينتها الأستاذة ذكرى علوش لأنهم هم المسؤولون عن بغداد وإشراقها بين العواصم العربية.