لا يحول دون تطبيق العدالة الاجتماعية بمعناها الواسع اختلاف البشر في أعراقهم وأنسابهم وأديانهم وأصولهم، أو في ولاءاتهم وانتماءاتهم، وهذه إحدى ركائز العقد الاجتماعي الذي بموجبه يتساوى أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، وشكل غياب العدالة الاجتماعية معضلة رئيسية في الدول والمجتمعات التي لا تحتكم إلى دستور أو نظام كما لا يضبط نسق حياتها عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الأفراد والدولة، وحتى لو كانت غالبية المجتمعات متجانسة إلى حد كبير تبقى المعضلة قائمة متمثلة بغياب العدالة الاجتماعية طالما غاب النظام الضابط لتوزيع الثروة والممتلكات في الدولة.
وفي ظل غيابه يبقى الولاء للسلطان والانتماء للطبقة الحاكمة وأصحاب الولاءات والنفوذ السياسي والاقتصادي والمالي هو الناظم لإدارة وتوزيع الثروات في البلاد، في مجتمع تتغلغل فيه أجهزة الأمن في الدولة بشكل عميق جدًا، وفي مثل تلك مجتمعات ينحرف ميزان العدالة الاجتماعية بل لا توجد أصلاً، وقد أدى ذلك بمجمله إلى وجود مجتمعات غير مستقرة لانتفاء العدالة الاجتماعية التي هي أهم مقومات استقرار المجتمع والدولة.
لقد أوجدت الطبقة الحاكمة وبطانتها والمتغلغلون في أجهزتها في البلاد المتأخرة قانونًا خاصًا يحكم العلاقات الإنسانية في مجتمعاتها، ذلك هو قانون الواسطة وسلطة القوي وهو ما ليس له علاقة بأي من القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية، وبات من الجزم ألا سبيل إلى الوظيفة العمومية كأبرز تطبيقات ذلك القانون أو غيرها من الحقوق الاجتماعية إلا من خلال ذلك القانون.
أضعف ذلك القانون الذي يطبق بحرفية عالية جدًا في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة وفي كل ركن من أركانها، شعور الفرد بالانتماء للوطن الذي أصبح يعني في تشكيلاته الاجتماعية وجود طبقة واسعة وممتدة في المجتمع كادحة وفقيرة ولا تمتلك الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية مقابل طبقة قليلة تمتاز بمستوى اجتماعي معين له خصائصه ونمط حياته اليومية الذي لا يمت بصلة إلى ذلك المجتمع الكادح الواسع.
كما أصبح ذلك الوطن يعني في تكوينه السياسي طبقة حاكمة ودونها رعية بل وفي بعض الدول دون مستوى الطبقة، أي يقتصر الموضوع على عائلة حاكمة فقط أعطت لنفسها صك البقاء في الحكم دون الاستناد إلى أي من شرعياته المعروفة لدى ديمقراطيات العالم، وتحت هذه العائلة رعية عريضة لا تعرف عن المشاركة السياسية وتداول السلطة وممارسة الحكم سوى في المدونات والدراسات النظرية، كما لا تعرف عن الدولة ومقدراتها وإمكاناتها وسياساتها وواردتها وعلاقاتها الخارجية وهمومها وطموحاتها وخططها الاقتصادية وبرامجها التعليمية إلا من خلال ما يتاح ويتفق مع سياسة الجهة الحاكمة ولا يرتقي هذا المعلوم المسموح به إلى التأثير أو المشاركة في تفاعلات الحياة المشار إليها.
وبين هذه الفئة الحاكمة والرعية الواسعة الفاقدة لأي من أدوات التأثير، بطانة محدودة مستفيدة يعنيها الحفاظ على رضى السلطان والحاكم للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها، كما يعني السلطان رضاها طالما أنها تحول بين الجماهير وبين سلطته وحكمه، وقد تجلى ذلك بوضوح في الثورات العربية حين وقفت الشرائح المستفيدة ضد إرادة الشعوب وهي التي تغلغلت في أجهزة الدولة عبر سنوات طويلة خاصة الأمنية والإعلامية وقادت من خلالها الثورات المضادة، وعملت على إنتاج أنظمة جديدة لا تختلف في بنيتها وفلسفتها عن الأنظمة البائدة بل أشد قسوةً واستبدادًا وأكثر هيمنة على مفاصل الدولة ومقدراتها وثرواتها ولعل ما يجري في مصر يوضح ذلك بجلاء.
ومن إفرازات ذلك القانون أيضًا وهو قانون الواسطة والقوي، وصول طبقة انتهازية وصولية إلى مراتب متقدمة في الدولة، ما يعني أن الفساد الأخلاقي الذي يتمثل في الانتهازية والأنانية والتملق والنفاق السياسي الذي أوصل أولئك إلى مواقع حساسة في الدولة، أوجد في طريقه فسادًا إداريًا.
فلا مكان لذوي الاختصاص والخبرة والمؤهلات في تلك المؤسسات، لذلك ترتفع نسب الهجرة في تلك البلاد والمجتمعات وأكثرها العربية حيث أصبحت تلك الدول بيئة طاردة لأصحاب العقول والكفاءات والخبرات والتخصصات الفريدة لاسيما في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية التي يعتقد الحاكم أن وجودها خطر على كيانه إذا ما اتجهت نحو توعية الجماهير والشعوب، وجدت تلك الفئات المهاجرة إلى بلاد الغرب مكانًا لهم وكانوا ثروة غنية أحسنت الدول المقصودة توظيفها والاستفادة منها.
نتج عن ذلك كله ضياع وتلاشي مفهوم أو قيمة المصلحة العامة لأن العام أصبح يعني فئة خاصة سخرت كل خيرات وثروات الدولة لمشاريعها الخاصة، فذهبت مسألة الانتماء التي تربط الفرد بالكيان العام والإطار الجامع الذي يعيش في كنفه، وقد حلت مفاهيم الاحتكار والاستحواذ والمحسوبية والفردية والمصلحة الخاصة محل المصلحة العامة المشتركة والتوزيع العادل للثروات.
كل ذلك أوجد بيئة اجتماعية محتقنة، أسباب الاحتقان فيها ليس اختلاف الأعراق أو الأديان أو الأصول والمنابت لأن القانون الناظم للحياة لم يوضع بناءً على أسس دينية أو عرقية أو مذهبية، إنما وضع على أساس الولاء للحاكم وللسلطة وربط من خلاله بين إرادة الحاكم وكل مفاصل الدولة وثرواتها، فأوجد ذلك القانون خللاً كبيرًا في توزيع الثروات والفقر والحرمان وبؤس العيش الناتج عن الاستبداد والتسلط واستغلال المال العام، فنجد في كثير من البيئات الاجتماعية جَمْعٌ كبير من الشرائح والفئات المختلفة في أصولها وأعراقها قد نالها قدر كبير من الظلم الاجتماعي لأنها لم تدر في فلك ذلك القانون وخرجت عن دائرة الولاء لعرش السلطان.
لا يمكن للنهضة أن تجد طريقًا لها في مثل تلك مجتمعات لمَّا قُتلت فيها روح الانتماء وانعدمت دافعية الإبداع والابتكار نتيجة انعدام العدالة الاجتماعية وشيوع الإحباط واليأس والفقر وضيق الأفق، لذلك كان العمل على توفير أسباب وأسس استقرار المجتمع من أهم مقومات وعوامل النهضة التي تفترض المساواة في الحقوق والواجبات، وتقوم فيها العلاقات الإنسانية على أسس أخلاقية وقيم اجتماعية تحافظ على النسيج الوطني والمصلحة العامة المشتركة وتفرز هذه البيئة نخبة قيادية مؤهلة تخرج من رحم المجتمع المتفاعل الذي يخلو من الأمراض الاجتماعية الفتاكة.
ولا بد من الإشارة إلى بعض التداعيات الخطيرة التي يخلفها ذلك النظام القائم على قانون الولاء والواسطة وهي قضايا الانتماء والهم الوطني والوجدان العاطفي تجاه الدولة، وكيانها، وعلمها، وحدودها، ولغتها، وتاريخها، ومستقبلها، وتلك جميعًا التي تراق لها الدماء على مدار التاريخ وفي مختلف الأزمنة والعصور، يفتقد الوطن معناه في مثل تلك المجتمعات الذي أصبح يعني في كل مكوناته السلطان والبطانة والمستفيدون والانتهازيون والمتسلقون، حينها تختفي قيم نبيلة مرتبطة بالوطن، الوطن البيت والمدرسة والحي والتراب، تلك التي تميل النفس البشرية لحبها ذاتيًا وفطريًا.
لذلك يحدث تصدع كبير وتأزم وتناقض داخلي بذلك الفرد الذي تعلق وجدانيًا بكل تلك المكونات ولذلك الوطن وذلك التراب، حينما يرى ظلمًا اجتماعيًا وفسادًا إداريًا في تلك الوزارة ويرى إجحافًا إنسانيًا في ذلك المشفى ويرى تشوهًا فكريًا قد شيد به صرح الجامعة، وحينما يسمع في الصباح والمساء النشيد الوطني الذي يعني فداء الملك والموت من أجل الرئيس.
في مثل هكذا ظروف تسكن النفس الإنسانية نزعات الانتقام ويتعاظم حب الذات ويزداد الحرص على نهب ثروات البلاد، وتستفحل في المجتمع صفات الأنانية والمصلحة الخاصة والعنصرية، ويكون ذلك كله على حساب تكريس الروح الوطنية وقيم الفداء والتضحية والإخلاص والعمل الجماعي، وتتلاشى معاني الأمة والجماعة الواحدة وتصبح ترفًا تثير استخفاف وسخرية أكثر ما تعني قيم نبيلة يتسابق أفراد المجتمع في التفاني من أجلها.
وقد أظهرت الأزمات الأخيرة التي يمر بها العالم العربي مشاهدًا كثيرةً مشوهةً عن نمطية النظم الحاكمة التي استفحل فيها الفساد السياسي والأخلاقي والاقتصادي حتى أوجدت كثيرًا من الأمراض الاجتماعية في مجتمعاتها، كما أظهرت عدوانًا شرسًا على مكونات الأمة والدولة في سبيل الحفاظ على ذلك النسق من النظم الاستبدادية التي كانت مؤسساتها ودوائرها ورجالاتها وإعلامها وأجهزتها الأمنية ليست أكثر من مستودعات تنتج مزيدًا من الأمراض الاجتماعية والأزمات الأخلاقية.