لم يكن قرار التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي أمرًا سهلاً على البريطانيين، لكنه قرار وصف بـ “التاريخي” لاسيما وهو يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية للقارة الأوروبية برمتها، وبالرغم من الجدل الذي أثير حول هذه الخطوة ما بين مؤيد ومعارض، إلا أن الأمر بات واقعًا ملموسًا، حتى وإن شكك البعض في إتمام إجراءات الخروج.
ولا شك أن تجييش البريطانيين لمثل هذه الخطوة عملية معقدة للغاية، وتحتاج إلى منظومة متكاملة من العمل الدؤوب القادر على إقناع الملايين من أكثر شعوب العالم ثقافةً ووعيًا بعدم جدوى بقاء مملكتهم داخل هذا التحالف، ومن ثم الاستفتاء على الخروج.
“أندريا ليدسوم” وزيرة الطاقة والمناخ في الحكومة البريطانية، هذا الاسم الذي برز عقب الإعلان عن نتيجة الاستفتاء بوصفه المحرك الأساسي والعضو الأكثر نشاطًا في خلية الخروج الكبير، بات الآن المرشح الأول لخلافة كاميرون في المرحلة المقبلة، فهل تصبح ليدسوم “المرأة الحديدية” الجديدة للمملكة المتحدة؟
“أندريا ليدسوم” المرأة الحديدية
ولدت أندريا ليدسوم في مدينة باكينجهام في 13مايو 1963م، وحصلت على شهادة البكالورويوس في العلوم السياسية، من جامعة وارويك، ثم التحقت – بعد تخرجها مباشرة – بالعمل في قطاع البنوك وصناعة المصارف وقضت به مايقرب من 25 عامًا، منهم عشر سنوات في بنك ((BZW وباركليز، حيث تخصصت في إدارات تمويل المشروعات وإعادة الهيكلة وحققت خلال هذه السنوات نجاحًا مبهرًا ساهم بشكل كبير في تحقيق أرباح طائلة للبنوك التي عملت بها.
كان لأندريا دور كبير في نهوض بريطانيا من كبوتها الاقتصادية في 1995، بما قدمته لرئيس البنك المركزي البريطاني حينها من أفكار ساهمت بشكل كبير في استعادة سوق المال البريطاني لعافيته من جديد، كما أنها تقلدت منصب العضو المنتدب في شركة إدارة الصناديق بلندن، ثم قضت عشر سنوات أيضًا رئيسًا لحوكمة الشركات وكبير استشاري الاستثمار بشركة أنفيسكو أحد أكبر صناديق الاستثمار في بريطانيا.
لم يتوقف نشاط خبيرة البنوك البريطانية على الاستشارات المالية فحسب، بل كانت للأنشطة الخيرية نصيب كبير في حياتها اليومية، حيث تقلدت – ولمدة 9 سنوات تقريبًا – منصب رئيس مجلس إدارة لإحدى الجمعيات الخيرية الشهيرة بلندن والمعنية بالأطفال وتحسين أسلوب تعامل أسرهم معهم، فضلاً عن مساهماتها في إنشاء عدد كبير من الجمعيات الخيرية في لندن وخارجها.
بدأت ليدسوم نشاطها السياسي منذ 2003، حيث اختيرت كعضو بحزب المحافظين، ثم تم تعيينها مستشارًا للحزب في مقاطعة نورث هامبتون، إلى أن تم اختيارها عضوًا بمجلس العموم البريطاني عام 2010 ، لتصبح أحد أبرز أعضاء لجنة الخزانة والموازنة لما تمتلكه من خبرات هائلة في مجال البنوك والمصارف، وفي أبريل 2014 اُختيرت السكرتير الاقتصادي للخزينة العامة للدولة عقب استقالة ماريا ميلر من مجلس الوزراء.
كان للنائبة المحنكة سياسيًا مواقف لا تنسى داخل البرلمان البريطاني، إذ تعد واحدة من خمسة نواب فقط امتنعوا عن التصويت على مشروع قانون يبيح زواج المثليين والشواذ، حيث اعترضت على تشريع هذه السلوكيات التي قالت عنها حينها: قلبي ممزق حين امتنع عن تشريع يعيق مثل هذه العلاقات إلا أن عدم التوقيع الأفضل لمجتمع بريطانيا بأكمله، والمصلحة العامة مقدمة على مصالح فئة بعينها، وفي 11 مايو 2015 اختيرت أندريا وزيرة للطاقة والمناخ، ومن هنا كانت البداية الحقيقية لليدسوم نحو الوصول إلى دائرة صناع القرار داخل المملكة المتحدة.
ليدسوم وربع قرن من الخبرة المصرفية
ليدسوم والخروج من الأوروبي
تعد وزيرة الطاقة البريطانية أندريا ليدسوم واحدة من أكثر الأصوات التي دعت إلى إعادة النظر في التواجد البريطاني داخل الاتحاد الأوروبي، حيث قادت حملة جابت جميع مدن وشوارع المملكة المتحدة، فضلاً عن تجييش وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، للضغط على الاتحاد الأوروبي لتغيير سياساته فيما يتعلق ببريطانيا، وضرورة إعطاءها قيمتها الحقيقية داخل هذا الكيان الذي تقدم له أكثر مما تأخذ منه، وهو ما قوبل حينها بالرفض من الاتحاد الأوروبي، ومن ثم كانت الحملة ضد الاستفتاء للخروج من هذا التحالف.
ليدسوم ترى أن غالبية البريطانيين لديهم قناعة أن خروجهم من الاتحاد لن يؤثر مطلقًا على قيمة ومكانة بلدهم الإقليمية أو الدولية، قائلة إن خامس أكبر اقتصاد في العالم ومميزات اللغة الإنجليزية العالمية وتوقيت المملكة المتحدة المحلي وسيادة القانون بها وتاريخ ريادة الأعمال ومناخ الإبداع وعلاقات لندن مع بلدان العالم، كل ذلك لن يهتز بمغادرة الاتحاد الأوروبي المتصلب.
ظلت الوزيرة الجريئة كما يلقبونها داخل مجلس العموم البريطاني على مدار عامين كاملين تعزف على وتر الخسارة التي تواجهها لندن منذ انضاممها للاتحاد الأوروبي، وأن خيرها يوجه لغيرها، ومن ثم فلا بد من إعادة هيكلة للائحة الداخلية للاتحاد بما يعطي كل دولة قيمتها الحقيقية، مؤكدة أن ما تعرضت له المملكة المتحدة خلال الفترة السابقة من هزات سياسية أو اقتصادية لاسيما المالية، كانت بسبب تجاوزات بعض الدول الأعضاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما انعكس بصورة سلبية على المواطن البريطاني الذي تراجع دخله بصورة ملحوظة فضلاً عن تخلي الدولة عن بعض واجباتها تجاه مواطنيها إعلاءً لمصالح الاتحاد المشتركة، وهو ما تسبب في نهاية المطاف في تزايد حالة السخط لدى قطاع كبير من البريطانيين تجاه الاتحاد، ومن ثم كان لا بد من وقفة حقيقية قبل فوات الأوان.
نجحت أندريا من خلال جولاتها المكوكية هنا وهناك في كسب دعم وتأييد الملايين من البريطانيين في التوجه لاستفتاء عام على البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من أن القرار لم يكن سهلاً إلا أن الخطاب السياسي العقلاني والمنطقي الذي استخدمته الوزيرة البريطانية كان له مفعول السحر في إقناع قطاع كبير من الشعب البريطاني، وهو ما تمخض في نهاية المطاف في التصويت لصالح الانسحاب والخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي.
الاستفتاء البريطاني للخروج من الأوروبي
قيادة مرحلة ما بعد الخروج
بعد ست سنوات قضاها، جاء إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن عزمه تقديم استقالته إثر قرار التصويت على الخروج الأوروبي، ليفتح الباب أمام بورصة الترشيحات لخلافته خلال الفترة المقبلة، حيث تصدرت ستة أسماء المشهد السياسي برمته، يتقدمهم جورج أوزبرون وزير المالية في الحكومة الحالي، وبوريس جونسون عمدة لندن السابق، وروث ديفيدسون زعيم حزب المحافظين الإسكتلندي، وليم فوكس السياسي البريطاني المخضرم، وتريزا ماي وزيرة الداخلية الحالية، وستيفن كراب وزير التأمينات والمعاشات.
وبالرغم من الانتقادات التي وجهت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أن هناك قطاع كبير داخل المطبخ السياسي البريطاني يؤيد هذا القرار بشدة، ويصفه بـ “التاريخي” الذي يعيد المملكة المتحدة إلى سابق عزها من جديد، ويحررها من قيود الاتحاد المكبلة بأزمات بعض الأعضاء.
التأييد لم يصل إلى حد الموافقة على هذا القرار فحسب، بل هناك بعض الأصوات التي طالبت بقيادة أندريا ليدسوم للمرحلة المقبلة، بصفتها القائد الأول في هذه المعركة التي كللت بالخروج التاريخي من عباءة الاتحاد، وإيمانها المطلق بهذا القرار، ورؤيتها الشاملة لسيناريو ما بعد الخروج، ساعدها في ذلك خبراتها الطويلة في العمل المصرفي وبناء المشروعات وإعادة الهيكلة، وهذا ما أشارت إليه أوين باترسون، وزير البيئة البريطاني السابق، في مقالمنشور لها بصحيفة “تليجراف” تحت عنوان “أندريا ليدسوم: إمرأة قادت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي إلى مستقبل مشرق”.
وزيرة البيئة البريطانية السابقة دافعت عن اختيار ليدسوم للمرحلة القادمة باستماتة شديدة، قائلة: “إنني أدعم أندريا ليدسوم وزيرة الطاقة البريطانية لتولي منصب رئيس الوزراء المقبل”، وأضافت: “وفي تقديري أن ثمة شخص واحد هو من يستطيع أن ينجز هذا التفويض، امرأة واحدة هي من تفهم أن الخروج هو الخروج، امرأة واحدة لديها رؤية طموحة لمستقبل بلدنا، امرأة ستكون أول رئيسية وزراء بريطانية في 26 عامًا وتتمتع بفهم حقيقي للأسس الاقتصادية اللازمة لدفع عجلة اقتصادنا المتباطئة وتعزيز قدرته التنافسية، وتمتلك هذه المرأة خلال عملها كسيدة أعمال وأيضا كأم وعضوة محلية في البرلمان، فهمًا حقيقيًا لاحتياجات وتطلعات الشعب”.
باترسون أشارت في مقالها إلى تفوق ليدسوم عن بقية المرشحين لخلافة كاميرون، بقولها: لقد أدارت ليدسوم، متفوقة على المرشحين الباقين، أنظف حملة لمستقبل بلادنا وأكثرها شفافية على أساس من الحجج المقنعة، واتسمت تصرفاتها بالصدق والنزاهة، فلقد تحدثت ليسدوم خلال حملتها بوصفها أمًا تريد توفير أفضل الفرص لأطفالها الذين تتمنى أن يحيوا في دولة ذات سيادة تسيطر على حدودها وقوانينها وأموالها.
وأضافت: بعكس مرشحين آخرين، تجهز ليدسوم لنتيجة هذا التصويت التاريخي منذ سنوات، فبعد عام من دخولها البرلمان البريطاني، أنشأت وزيرة الطاقة أول مشروع لفحص واستكشاف الخيارات المتعلقة بالعلاقة الجديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ونشرت ورقة بحثية توضح فيها الإصلاحات الواجب على الاتحاد الأوروبي إدخالها لتشجيع البريطانيين على البقاء داخل أروقة الاتحاد، ولكن وللأسف رفضها الأخير من منطلق العناد.
واختتمت وزيرة البيئة البريطانية السابقة مقالها بالتأكيد على أن قرار الخروج من الأوروبي لم يكن تراجعًا لعصور التخلف والظلام، والقطيعة التامة مع أوروبا كما يزعم البعض، حيث قالت: “في غضون ذلك، تعي ليدسوم أن بريطانيا لم تصوت على هدم جسر التواصل بينها وبين الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى خمسينات القرن الماضي ، فهي تعلم علم اليقين أن التصويت كان لتغيير الأوضاع – العودة بالمملكة المتحدة إلى الحظيرة العالمية مع المحافظة على مقاعدنا في الهيئات التجارية العالمية -“.
فبعد نجاح أندريا ليدسوم في حشد البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي، هل تنجح في قيادة المملكة المتحدة في استعادة مكانتها الإقليمية والدولية من جديد؟ وهل بالفعل باتت ليدسوم هي “امرأة المرحلة” القادمة لتصبح أول “امراة” رئيسة للوزراء منذ 26 عامًا؟