في مثل هذا اليوم، انتقل إلى جوار ربه الدكتور عبد الوهاب المسيري (3/7/2008م)، عن عمر يناهز السبعين عامًا، تاركًا وراءه ذخيرة معرفية كبيرة، ممتلئة بالأفكار الصالحة لزماننا، والتي لم يتم التعامل اللائق معها حق التعامل، واستخدامها في فهم مجتمعاتنا المعاصرة، وحل كثير من مشاكلها حتى الآن، ومن أهم ثمرات مشروع المسيري الفكري، كتاباته عن التحيز في المناهج، والتي أثمرت عن وضع أولى لبنات “فقه التحيز”.
فقد أدرك المسيري، بعد رحلة طويلة مع الفكر الغربي المادي، أن هناك حاجة – ترقى إلى مرتبة الضرورة – لتطوير نماذج تحليلية للتعامل مع النموذج الحضاري الحداثي الغربي، ومفاهيمه المتحيزة النابعة من نموذجه المادي، وحتمية تطوير علم جديد أطلق عليه “فقه التحيز” يتعامل مع قضية التحيز في المفاهيم والمصطلحات عامة، والمفاهيم والمصطلحات الغربية بشكل خاص.
ما التحيز في العلوم الاجتماعية؟
مفهوم “التحيز” في العلوم الاجتماعية يشير إلى أن مناهج وأدوات هذه العلوم ليست مطلقة أو عامة، كما أن النتائج التي يتم التوصل إليها باستخدام تلك المناهج والأدوات ليست صالحة لكل زمان ومكان، ولكنها متحيزة – من حيث الصلاحية – في إطار اجتماعي، وسياق زماني محددين، فلا توجد مناهج “مجردة بريئة”، بل هي آليات وإجراءات تتضمن تحيزات محددة وأعباء أيدلوجية.
رحلة المسيري مع التحيز
طرحت مسألة التحيز المعرفي، نفسها علي الدكتور المسيري، بعد انتقاله من دمنهور إلى الإسكندرية للدراسة الجامعية، إذ لاحظ التباين في العادات والتقاليد (والنماذج الإدراكية) بين المدينة/ القرية المصرية من ناحية، ومن ناحية أخرى المدينة الكوزموبوليتانية المصرية، ومع تعمق قراءاته وأفكاره، صار التحيز في قلب شواغله البحثية، وكان انتقاله إلى الولايات المتحدة، حاسمًا في تأكيد ضرورة فهم التحيز، وفي ضرورة التنبه لخطورة هذه الإشكالية، خاصة مع تبني كثيرين من المثقفين المصريين والعرب للتغريب الكامل.
ومن خلال مداولاته مع كثيرين من أهل الفكر والثقافة في مصر والعالم العربي خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، تبلورت رؤيته الفكرية لإشكالية التحيز، عبر مؤتمرين الأول في بداية التسعينات، والثاني قبل وفاته بعام واحد في عام2007م، بالإضافة لكتاب العالم من منظور غربي الذي طور فيه رؤيته لإشكالية التحيز، هذا بخلاف ما نجده متناثرًا في كتاباته المتعددة.
من التحيز للآخر إلى التحيز ضد الذات
يرى الدكتور المسيري أن “محاولة الإنسان الغربي فرض نماذجه على الشعوب غير الأوروبية، أو محاولة النخب في الشعوب غير الأوروبية التبني الكامل لهذا النموذج المعرفي بتحيزاته بوعي أو بدون وعي، يوقع هذه الشعوب والمجتمعات في مشاكل لا حصر لها، تنبع من عدم قدرة هذا النموذج”على التفاعل مع هذا الواقع أو الإسهام في تفسيره أو تغييره، بل يؤدي تبنيها أحيانًا إلى تدميره”.
وتبني هذه النماذج بمفاهيمها كما هي دون تعديل أو نقد أو حتى وعي بتحيزها، يخلق ترابطًا اختياريًا بين الباحث وهذه الأفكار، أو تربة خصبة يمكن لهذه الأفكار أن تنمو فيها وتترعرع، لذا يجد الباحث نفسه متحيزًا لبعض الظواهر والأفكار، ويهمل أو يستبعد تمامًا البعض الآخر مما يقع خارج نطاق الاستعارات والنماذج الكامنة.
وتتعقد الأمور أكثر في حالة تبني بعض المجتمعات والنخب “تحيزات الآخر ضدهم”، وليس فقط تحيزاته العائدة لطبيعة نموذجه المعرفي وسياقه الحضاري، ليبدأ في النظر لذاته عبر مرآة هذا الآخر ونموذجه المعرفي، ليقع في التبعية الكاملة، ليبدأوا في ترديد ما يقولون، ويتبنون ما يستحدث هذا الآخر من علوم، فيقعون في التحيز ضد “ذاتهم الحضارية”.
العالم من منظور عربي
مع تبلور رؤية المسيري للتحيز، وتعمق إدراكه لمدى تركيبته، وأن التحيزات المعرفية أمر كامن في نماذجنا الإدراكية، وهو ما أدى إلى استبطان النموذج الإدراكي المتحيز للغرب دون وعي، كان ولا بد أن يرى العالم من منظور عربي، لا من منظور غربي.
وقد انطلق المسيري من الإحساس الغامر لديه، بأن المناهج التي يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تمامًا، لكنها تعبر عن مجموعة من القيم، التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وتقرر مسبقًا كثيرًا من النتائج، ليؤكد ضرورة بناء وتأسيس علم جديد لدراسة التحيز.
فلكل مجتمع رؤيته المتميزة للكون والتحيزات الناجمة عنها، ونحن كعرب مسلمين لنا رؤيتنا الكونية المتميزة وتحيزاتنا النابعة من واقعنا التاريخي والإنساني والوجودي، وتخلينا عن رؤيتنا وتحيزاتنا بوعي أو بغير وعي لصالح الرؤية والتحيزات الغربية، جعلنا ننظر لأنفسنا من وجهة نظر الغرب، وهو الأمر الذي أدى لتبعيتنا المعرفية والعملية له، وجعلنا أسلس قيادًا معرفيًا وعمليًا.
علم جديد لدراسة التحيز
لم يكن الأمر عند المسيري مجرد تفكيك لمقولات النموذج المعرفي الغربي وكشف تحيزاته، لكن كان الطموح هو تأسيس مشروع بناء علم جديد للتعامل مع مفهوم التحيز، علم جديد، له آلياته ومناهجه ومرجعيته، يتعامل مع قضايا التحيز، ويفتح باب الاجتهاد بخصوصها.
فالعرب المحدثون لم يضعوا أسس أي علوم على الإطلاق، ونحن نردد وراء الغربيين ما يقولون، ونتبنى ما يستحدثون من علوم، أما أن نؤسس علومًا جديدة كي تتعامل مع الإشكاليات الخاصة بنا، فهذا ما لم يحدث في تاريخ الحضارة العربية الحديثة، كما أن الإحساس بالتهديد الواقع على هوية الأمة – سواء كانت قومية أو دينية – بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الآخر، دون إدراك عميق أحيانًا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج، يجعل القيام بهذه المهمة فرض الوقت.
فقه التحيز
لهذا اقترح المسيري تأسيس علم جديد، أطلق عليه “فقه التحيز”، يركز على قضية التحيز في النماذج المعرفية، الناتجة عن مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية، والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب التخلص منها، والتي تسلب الباحث كثيرًا من حريته وتحد من حركته ومجال رؤيته.
نقطة الانطلاق
ينطلق فقه التحيز من نقطة ذاتية، تتعلق بإفصاح الباحث عن تحيزاته الناتجة عن النموذج المعرفي الذي يتبناه بشكل أكثر وضوحًا وتحديدًا، وتجميعها، للتعرف على جوانب التحيز في المنهج وأدواته ومفاهيمه ومصطلحاته، ليصل إلى تعريف إشكالية التحيز في المنهج، واكتشاف بعض سماته وآلياته، وتطوير حلول قد تؤدي إلى ظهور نموذج معرفي بديل، أو ما يسميه المسيري “فقه التحيز”.
فقه، لا علم التحيز
والمسيري يستخدم كلمة “فقه” بدلاً من “علم”، مؤكدًا أن الكلمة الأولى تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، على عكس كلمة “علم” التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية.
وهذا الفقه هو محاولة لفتح باب الاجتهاد بخصوص الحضارة الغربية ونماذجها المعرفية، وليس هذا وحسب وإنما سيعبر عن تحيزاتنا العربية الإسلامية، لتطوير وسائل أكثر تركيبًا لدراسة المجتمعات العربية الإسلامية والظواهر الخاصة بنماذج المنطقة العربية الإسلامية، وإثراء النماذج السائدة وتوسيع حدودها والامتزاج بها، بحيث تتحول من نماذج غربية تستند إلى معطيات المجتمع الغربي الحديث، إلى نماذج عالمية إنسانية تستند إلى معرفة وثيقة مركبة بكل التشكيلات الحضارية، وبكل خصوصياتها وتعرجاتها ونتوءاتها، وتحاول أن تصل إلى أعلى درجات التجريد وأدق درجات التخصيص.
بعض الآفاق التي يفتحها فقه التحيز
1- فقه التحيز، سيسهم في عملية بعث الثقة في نفوس الباحثين العرب المسلمين، وإعادة تكوين العقل المسلم على أسس راسخة، فعبر تحويل الغرب من مركز مطلق إلى مجرد تشكيل حضاري ضمن تشكيلات أخرى كثيرة، سننظر إليه بدون قلق، إذ ليس علينا قبوله بخيره وشره، وإنما يمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات، وسيمكننا الانفتاح الحقيقي عليه بطريقة نقدية إبداعية، تمامًا مثل انفتاحنا على الحضارات الأخرى، نأخذ ثمرات العلم الإنساني، بما في ذلك العلم الغربي، فنفصل العنصر أو الآلية التي تم نقلها عن المنظومة التي تنتمي إليها ثم نستوعبها في منظومتنا بعد أن نكيفها مع قيمنا ورؤيتنا للكون.
2- فقه التحيز، يفتح أفقًا جديدًا، ليس فقط في التعامل مع المصطلحات التي نستوردها، وتم سكها في العالم الغربي بعناية بالغة، ولكن أيضًا لنصطلح مع أنفسنا، ونتبنى مصطلحاتنا ومفاهيمنا، وسيفتح آفاقًا جديدة متجددة فيما يتعلق بحالة توليد مفاهيم ومصطلحات جديدة، عبر إعادة وصف الظواهر الأساسية ثم إعادة تسميتها من خلال خطوات هذا الفقه.
3- فقه التحيز، يفيدنا في فهم تحيزاتنا ضد بعضنا البعض كجماعة بحثية، وحكومات ومعارضات سياسية، وجماعات عرقية أو طائفية أو ملل دينية، وكل هذا سيأتي بنتائج جديدة تمامًا في البحث والعمل.
4- فقه التحيز سيؤدي إلى مناهج جديدة للبحث، ولتناول تاريخ الأمة واجتماعها وسياستها واقتصادها وفنونها، وعلاقاتها الخارجية مع الحضارات والمجتمعات الأخرى، والعلاقات البينية بين دولها ومجتمعاتها وأديانها وأعراقها وطبقاتها، من منطلقات جديدة تنفي التحيز ضد الذات، أو التحيز للآخر دون نقد أو تقويم.
5- فقه التحيز، سيسهم في تأسيس علوم إنسانية (وهيكل مصطلحي) نابع من حضارتنا، تكون مقدرتها التفسيرية أكبر من العلوم الإنسانية الغربية المتحيزة لسياقاتها ومشكلاتها الغربية.
6- فقه التحيز سيؤدي لنمو الدراسات العلمية والعملية التي تتناول قضية التحيز في جميع المجالات العلمية والعملية، مما سيؤدي إلى تنقية دراساتنا وتطبيقاتنا من تحيزاتها للذات أو ضدها.
7- فقه التحيز، سيسهم في جعل منهج كشف آليات التحيز، ممارسة مرئية للباحث والإنسان العربي المسلم، عبر خطواته التي تمكنه من رؤية عملية كشف التحيز وبناء النموذج البديل، فيكتسب رؤية حضارية نابعة من ذاته، مدركة لتحيزات الآخر، في ذات الوقت الذي يمتلك فيه منهجًا، يمده بالقواعد التي تكشف وتعري التحيز في المناهج والأدوات البحثية التي يستخدمها، والقيم التي يتبناها، والممارسات اليومية التي يعيشها، والمظاهر الحضارية التي تحيط به، والسياسات العامة التي تنهال عليه خططًا وبرامجًا وتطبيقات تمس مختلف جوانب حياته.
8- فقه التحيز (رغم توجهه الإسلامي الواضح) هو فقه لكل أبناء هذه الأمة بأديانهم واتجاهاتهم، أي لكل من يدافع عن هويتنا الحضارية، ويرى أنها تستحق الحفاظ عليها، مما يجعله إسهامًا حقيقيًا في تشبيك أبناء الأمة في نسيج اجتماعي ثقافي علمي متناغم، يطلق طاقات كل أبنائها في البحث والإبداع، دون إقصاء أو تهميش.
خاتمة
أن نتذكر عبد الوهاب المسيري اليوم، في ذكرى وفاته، يعني، كما دعوت منذ عام مضى وسأظل أدعو إلى:
استكمال العمل الذي بدأه، وأن نبدأ من حيث انتهى، لا أن نتوقف عنده، وأعتقد أن أفضل ما نهديه إلى روحه الطاهرة في ميلاده أن تصدر أعماله الكاملة في طبعات شعبية عن إحدى دور النشر التابعة للدولة، وأن تخصص جائزة قيمة للبحوث التي تناقش عطاءه الفكري، ومعالم المشروع الحضاري المستقل في أعماله، وأن تدرس جزء من نصوصه ـ خاصة المتعلقة بالصهيونية أو النماذج التحليلية أو فقه التحيز ـ لطلبة المدارس الثانوية والجامعات، وأن يهتم العارفون بفضله، وقيمة أفكاره بدراسة أعماله، وتعريف الأجيال الجديدة بها، لا باعتبارها سيرة فرد ـ على الرغم من أهمية ذلك وقيمته ـ لكن من زاوية تاريخ مجتمع وحضارة تسعى للنهوض، رحم الله المسيري رحمة واسعة.