يُعتَبر هذا السؤال أحد أهم الأسئلة المفصلية في الحياة السياسية المصرية من دون أي مراء أو مبالغة، ويكفي في هذا الصدد القول أنه في الإجابة عليه الكثير من الأمور المفتاحية التي يمكنها أن ترسم حركة القوى الثورية التي لا تزال ثابتة على مبدأها، حتى ولو كانت غير قادرة على الفعل في الوقت الراهن.
ولعل المواقف التي طرحتها الكثير من الشخصيات والقوى التي أيدت 30 يونيو، ثم 3 يوليو من بعد ذلك، والتي أعلنت فيها، وفق ما وصفته بعض الأطراف بـ”توبتها” عن تأييدها لـ 30 يونيو، ثم الانقلاب الذي تلاها، قد دفعت الكثيرين إلى إبداء بعض التفاؤل الحَذِر الذي وصل بها إلى التعبير عن أن ما يتم تداوله من مواقف، مثلما فعل ممدوح حمزة، ويسري فودة، وحازم عبد العظيم، وغيرهم، يعبر عن “صحوة”، وأن ذلك هو ظاهرة إيجابية ينبغي التعاطي معها بعقلية أكثر انفتاحًا.
بل ووصل الحال بالبعض إلى الدعوة إلى إعادة الأواصر مع بعض هؤلاء، والبدء في تكتيل جبهة جديدة تضم هذه الوجوه وهذه القوى، تعمل ضد النظام الحالي، وتعمل على إحياء مشروع قديم مات منذ فترة، وهو تأسيس منصة وطنية تضم “المخلصين” من أبناء هذا الوطن، ضمن مشروع اصطفاف واسع يستعيد صورة الاصطفاف الذي كان أهم واجهات ومعالم ثورة يناير وعوامل نجاحها.
دعم من ذلك التضعضع الواضح والظاهر للتحالف السياسي والاجتماعي الذي شارك في أحداث 30 يونيو 2013م، والتي أسست بعد ذلك لانقلاب الثالث من يوليو، مع الصراع الواضح بين نظام العسكريتاريا الحاكم حاليًا في مصر، وبين رموز وقوى النظامَيْن السابقَيْن بالكامل، نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك ونظام الإخوان الذي مثله الدكتور محمد مرسي.
ولئن كان من المفهوم أن يكون ذلك الصراع قائمًا مع أنصار الإخوان ومرسي، فإنه قد يكون مفهومًا لدى البعض أن يدخله النظام الحالي مع نظام مبارك الذي من المفترض أن الجيش قد تدخل لحمايته خلال أحداث ثورة يناير وما تلاها من أحداث.
إلا أن تفسير ذلك، وبكل وضوح، يكمن في عبارة واحدة، وهي: “اختلاف المصالح والأهداف”، والتي قادت إلى طلاق بائن فعلاً بين ما تبقى من نظام مبارك، ممثلاً في رجال أعماله، وأصحاب النفوذ الاجتماعي والسياسي المغولين في مفاصل المجتمع بالفعل، منذ عهد الحزب الوطني الحاكم، الذي كان يمنح عضويته ومزاياها لكل شخص في موضع مسؤولية في أي مكان ذي تأثير، في المجتمع المصري وفي الجهاز البيروقراطي، ومؤسسات الدولة بشكل عام.
تتلخص الأحداث المطوَّلة التي جرت في السنوات الأخيرة في أن أذرع نظام مبارك بشخوصه ومراكز القوى الخاصة به، دعمت الانقلاب، من أجل أن تستعيد الأوضاع التي كانت سائدة في مصر قبل ثورة يناير، بينما الجيش والصفوة المسيطرة على الدولة في هذا الوقت، كانت تهدف، ومنذ البداية، حتى من قبل ثورة يناير، إلى استعادة الدولة من الأصل من منظومة الحزب الوطني وإسقاط مخطط التوريث.
ولذلك كان إسناد ثورة يناير من جانب الجيش، باعتبار أن الثورة من الأصل كانت في جانب منها عبارة عن تفاعلات مدروسة قامت بها مؤسسات القلب الصلب للنظام الرافضة للتوريث، حتى من خارج القوات المسلحة، مثل المخابرات العامة، من أجل إسقاط نظام مبارك وتقويض مراكز القوى فيه، وعلى رأسها وزارة الداخلية وجهاز مباحث أمن الدولة، والحزب الوطني المنحل من خلال ثورة شعبية شاملة.
وكان من المفترض ألا يتعاون هؤلاء مع أولئك، لأن الجيش هو الذي عمل على إسقاط نظام مبارك، ولكن نكوص جماعة الإخوان المسلمين على الاتفاق الذي عرضته الدولة واستمر معروضًا منذ ما قبل ثورة يناير وحتى قبل الانقلاب بيومَيْن، بحسب كلام الدكتور محمد محسوب، والذي يعطي الجماعة مكانة سياسية واجتماعية متمايزة و”كوتة” في الحكومة ومجلس الشعب، وبدء الجماعة في مشروع تمكين واسع، يتجاوز حدود مصر إلى آفاق الخليج العربي والشرق الأوسط، استغلالاً لظروف الربيع العربي، قاد إلى مصالحة مؤقتة بين المؤسسة العسكرية ونظام مبارك.
ومن المهم في هذه النقطة التأكيد على أن نظام مبارك لم يفقد قوته الكاملة، فقد استمر طيلة السنوات الماضية محافظًا على أهم ما يمكن، وهو هيراركية منظومته القديمة، والتي تعتمد على تقسيمات وأجنحة يختص كلٌّ منها بمفردة معينة من مفردات القوة والسلطان، وتتكامل فيما بينها لتصنع نظامًا كاملاً ظل حيًّا حتى بعد رحيله عن السلطة.
فظل مؤيدو مبارك ونجله جمال، مسيطرين على مفاصل مهمة من مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات الأمنية السيادية، ومحتفظين في الوقت ذاته بأهم عوامل الحركة وهي الوقود الاقتصادي، حيث ظل رجال أعمال عصر مبارك مسيطرين على حجم أموال ضخم يُقدَّر بعشرات إن لم يكن بمئات المليارات من الدولارات، نسبة كبيرة منها لا تزال مُسالة في أقبية ومخازن سرية – معلومات حقيقية – تستخدم في تمويل مختلف الأنشطة الهدامة في مصر بعد الثورة، سواء في عهد مرسي أو في عهد النظام الحالي.
وبعد انقضاء فترة الخطر الأساسي التي تلت الفض الدموي العنيف لاعتصامَيْ رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس 2013م، بدأت مرحلة الحساب وتقسيم الغنائم، وهنا بدت بوادر الشقاق بين الطرفَيْن.
فتحالف 30 يونيو من أصحاب المصالح ومن أيتام نظام مبارك، كان يرغب في تلك المرحلة في البدء في عملية إعادة السلطة والعملية السياسية في مصر، إلى سابق عهدها، بل إن البعض “بالغ” في مطالبه، لدرجة أنه دعا للإفراج عن مبارك ونجليه ورموز عهده، وإعادة الفريق أحمد شفيق من منفاه في الأراضي الإماراتية المقدسة، باعتبار أنه يؤدي العمرة هناك، وإلغاء الحظر عن الحزب الوطني.
بطبيعة الحال، وهذا تقييم موضوعي استندت له المؤسسة العسكرية، كان لتلك الإجراءات “المتسرعة” أن تؤدي إلى ثورة جديدة في مصر، باعتبار أن الانقلاب لم يتم كما ادعى من قاموا به، أنه لاستعادة ثورة يناير “ممن سرقوها”، ولكنه تم للقضاء على ثورة يناير ومكتسباتها.
وكانت الحالة الثورية لا تزال حية في الشارع المصري، وكانت جريمة الفض وما أدت إليه من إثقال كاهل ضمائر الكثيرين، سواء من المنتمين سياسيًّا أو غير المنتمين من الجمهور العادي، كما أنه كانت الحالة السياسية في مصر لا تزال – وإلى الآن – متشككة في أن الأمر في يونيو ويوليو 2013م، لم يكن من أجل ثورة يناير ولا حماية الوطن من الإرهاب المحتمل، ولكنه بالفعل تم لاستعادة النظام القديم.
بعد فترة، بهتت هذه الحجج من جانب مروِّجيها، بعد انكسار شوكة الاحتجاجات الاجتماعية في الشارع، واستتباب الأوضاع للنظام الجديد في مصر، وبات من الواضح أمام الحرس القديم لعهد مبارك، ومن دعموا أحداث 30 يونيو والانقلاب في مصر، أن الأمر لم يكن يحمل لهم أية وعود مستقبلية.
يتدخل هنا عامل المصلحة لدى الكثيرين من رموز السياسة والإعلام الذين أيدوا 30 يونيو، ودعموا الانقلاب، فكثيرٌ منهم كانت لديه طموحات في أن يكون في منصب رسمي دسم، يوازي ما قدمه من “خدمات”.
ومن بين هؤلاء على وجه الخصوص، يسري فودة، الذي ربما لم يتصور أن ينتهي به الحال كذلك، ممنوعا من الحديث، إلا أن فودة والكثيرين غيره، فاتهم أن العسكر – عبر التاريخ – لا يقبلون شركاء في المغانم.
وبالتالي فإن هذه المجموعة تم استبعادها بهدوء عندما لم يعُد لها نفعٌ، ولكن منهم مَن لم يقبل أن يبتعد بهدوء، فقام بالكثير من الضجيج، مثلما فعل حازم عبد العظيم عندما تحدث عن دور أجهزة المخابرات المصرية المدنية والحربية في رسم وتشكيل البرلمان الجديد وأحزابه وتكتلاته، مسقطًا المشروعية الجماهيرية لمؤسسات دولة العسكرتاريا الجديدة في مصر.
ثم جاء العامل الاقتصادي ليزيد من مساحة التباعد بين السيسي ونظامه وتحالف 30 يونيو، عندما أسند تقريبًا كل ما يتم في مجال البنية التحتية لمؤسسات الخدمة العامة التابعة للقوات المسلحة، وخصوصًا الهيئة الهندسية، مما حرم الكثير من رجال الأعمال من مورد مهم من موارد الدخل، من الخزينة العامة.
هؤلاء هم من تبقوا في احتفالات 30 يونيو بعد 3 سنوات منها!
أضف لذلك عامل فشل النظام في المجالات الاقتصادية والمعيشية، ووضوح مظالمه في المجال الحقوقي والمجتمعي، ووضوح ممارساته التي تقول بمنتهى الصراحة إنها دولة عسكرية لنخبة عسكرية ولا مجال فيها إلا لمن يختاره النظام لكي يلعب الأدوار المطلوبة منه، مع احتمال كبير أن يتم في النهاية حرقه بالشكل الذي قد يقضي على مستقبله تمامًا.
ربما كانت الكنيسة المصرية، والمؤسسات السياسية والدعوية الخاصة بالسلفيين، استثناءً، ولكنه استثناء يؤكد القاعدة.
فالكنيسة المصرية، لا يمكن بحال من الأحوال الانقلاب عليها من جانب النظام، ليس لأنه في حاجة لها فحسب، بل إنه لا يمكنه بحال لاعتبارات تخص بقاؤه، على المستويَيْن الداخلي والخارجي، فيما السلفيون لا يزال لهم دور مهم في تكريس حالة من الاستقرار في الشارع الإسلامي، وتحسين صورة النظام باعتبار أنه لا يحارب الإسلام السياسي ولا الإسلاميين، وإنما هو صراعه مع “الأشرار” و”خصوم الوطن”.
يمكن القول أن النظام يحقق الكثير من النجاحات في صدد احتواء خصومه، وأنه الآن في وضعية أفضل من السابق، مع إحكام قبضته على اقتصاد الدولة، وبدئه في تصفية نفوذ رجال أعمال نظام مبارك وامتصاص سيولتهم المالية التي تمكنهم من الممانعة ضده، كما ذكرنا في موضوعات سابقة.
إلا أنه يبقى أمامه تحدٍّ رئيسي، وهو أن الكثير من الذين كانوا في تحالف يونيو، لا يمكن التعامل معهم بنفس وسائل الإقصاء والسيطرة التي تضمن عدم خروجهم عن النص، فمن بينهم إعلاميون لهم حضور دولي مثل يسري فودة وعمرو حمزاوي، ومن بينهم رجال أعمال من حملة الجنسية الأمريكية مثل صلاح دياب وأحمد بهجت، وهؤلاء من الصعب جدًّا المساس بهم، كما بدا في أزمة صلاح دياب الأخيرة مع القضاء المصري، واضطر النظام في النهاية إلى الرضوخ لاعتبارات العلاقات مع الأمريكيين، واعتبارات الصورة!
ينضم هذا التحدي إلى واقع مهم في الشارع المصري الآن، وهو إحساس الجمهور العام بفشل النظام في السيطرة على ملفات الاقتصاد والسياسة والأمن، وأن الذي يدفع ثمن ذلك هو المواطن، مما ينذر بعواقب انفلات غير معروفة النتائج!