يشيع طيلة أيام شهر رمضان المبارك بين بعض “المثقفين” من الأشقاء العرب المقيمين بإسطنبول منشورات هزلية على مواقع التواصل الاجتماعي تستخف “بتدين الأتراك”، فثلة منهم في الحقيقة لا يصومون كما نصوم أو يصلون كما نفعل، بل يفعل بعضهم ما لا يتجرأ المسلمون الصالحون”عليه في هذا الشهر المعظم، تكرر هذا النمط من التدوينات مرات عديدة، لذا فلا تُعبر في رأيي مثل هذه المشورات عن موقف شخصي عابر وإنما ترتقي لتعكس ظاهرة معينة تستحق الدراسة أو على الأقل تسجيل موقف عابر كموقفي هذا.
تعكس مثل هذه المنشورات – في رأيي – عقدة نقص لا شعورية تعتري النفسية العربية تجاه الأتراك في هذا الزمان، أولم يقل سيغموند فرويد إن النكت تعبر عن مواقف لا شعورية تعتري نفس الإنسان؟ وكأن هؤلاء الذين يعتبرون أن تدينهم سليم خلافًا لنظرائهم الأتراك لا يجدون في الحقيقة نقطة تفوق ترفع رؤوسهم المذلولة أمام العالم وتحسب لهم على أكتاف الآخرين سوى في تدينهم السليم هذا، أجل فهم ديار الإسلام ولغتهم لغة القرآن، وأي نتائج حسنة لكهذا “تدين سليم” يمكن أن يراه العربي في أوطانه هذه الأيام إلا تكفير بالجملة وقتل على المذهب والرأي! أخاطب هؤلاء المثقفين بشكل بسيط جدًا بعيدًا عن عالم الأفكار العاجية الذي نكتب ونتحدث عنه في صالوناتنا المغلقة، ماذا جلب لكم “تدينكم السليم” في أوطانكم عقودًا من الزمن؟
ماذا وجدتم في صلاتكم وصيامكم غير التعب والجوع والعطش في أكثر الأحوال؟ هل أصلح “تدينكم السليم” هذا عفن الفساد في أوطانكم؟ هل حثكم احترام مواعيد الصلاة المقدسة على احترام قداسة الوقت في أوطانكم؟ هل حثتكم وحدة الصف في الصلاة على وحدة الصف في الحياة؟ هل جمعت صلاتكم سواعدكم في الميادين كما جمعت أرواحكم وراء الأئمة في المساجد؟ هل قلص إرهاق الصوم لأجسادكم من ظواهر الفقر المرهقة للأفئدة في شوارعكم؟ هل وهل وهل.
هل فكر أحدكم يومًا في مشروع الدعوة إلى”التدين السليم” بين الأتراك أنفسهم؟ تعكس هذه المنشورات الهزلية نرجسية مقيتة في ذات العربي تجاه الآخرين من المسلمين، إذ يعتقد بأفضليته على الخلق وهمًا، ويذكرني ذلك بمقولات فيلسوف الحضارة عندنا مالك بن نبي – رحمه الله – في كتيبه النافع الجليل “رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين” حينما تحدث عن مرض النرجسية هذا عند العرب المسلمين، مرضٌ جعلهم يحتكرون فضل رسالة الله فيهم (أي الإسلام) وكأنها أنزلت لهم وحدهم دون غيرهم فيرفعون بها أنفسهم على الآخرين وهمًا لا عملاً فيتيهون وينتكسون.
قد يكون تدين الأتراك مغلوطًا كما يقولون حقًا، ولكنني متأكد أن التدين عند كثير من العرب ليُعد تدينًا مغشوشًا حد القرف في هذا الزمان، لا تخرج أخلاقه الحسنة من المساجد والمدارس لتُصلح الأرض وتعمرها إلا قليلاً، إن الأتراك “بتدينهم الملغوط” هذا (أو بعلمانية قُحة إذا أردتم) عمروا الأرض وأصلحوا الحال بعد النكوص، فماذا فعلتم بتدينكم السليم أنتم في أوطانكم أيها المثقفون؟
متأكد أن رسالتي هذه لن تعجب الكثيرين، لا يهم، فلستُ هنا لأنال إعجاب أحد أو أُحابي آخر في فكرة أؤمن بها، ولدتُ حرًا ولن أتنازل عن حريتي فقط لأسمع التصفيق منكم.
قد يختم على اسمي آخرون بأختام جاهزة، فلا يهم أيضًا، لستُ ضد ظاهرة التدين كما قد يعتقد البعض، فلها ما لها من الحسنات وعليها ما عليها من العيوب طالما ارتبطت بعلم الإنسان وحُسن إدراكه لتعاليم الدين في علاقته بالحياة، قد يدعي البعض بأنني صرت عبر كتاباتي الأخيرة تركيًا أكثر من الأتراك أو أني أتملقهم (أشيتُ لهم كما نقول في الجزائر)، لا يهم طالما أفكر فيما أكتب انطلاقًا من كوني مفكرًا مسلمًا لم تتمكن حدود سايكس بيكو من بلقنة فكره بعد، أفكر بمنطق الحضارة الإسلامية الواسعة التي يتشارك فيها العرب والأتراك والأمازيغ والأفغان والمالاويين في أقصى الأرض لا بمنطق القُطرية التي نجح المستعمرون في زرعها في عقول الكثيرين منا للأسف الشديد، فولدت عصبية لحدودٍ من الوهم لا تقل تهلكة عن عصبية قبائل الجاهلية قبل الإسلام.
أذكركم فأقول، لست مبهورًا بالأتراك ولا بمدنيتهم، فلي الكثير من المآخذ عليهم لن تنفعكم في أوطانكم الضيقة إذا كتبت عنها، ولكنني أحاول أن أنقل – كلما سافرت – لأهل بلدي وأشقائي في اللغة ما أقدر من تجارب حسنة نجح فيها الآخرون بينما فشلنا فيها نحن، أو أقارن بين الضفتين لأشخص عللاً وأمراضًا أراها مستشرية في لاشعورنا، في عقلنا الجمعي تمهيدًا لمعالجتها بقوة الفكرة والفعل ولو كنت مقيمًا اليوم في لندن لحدثتكم عن “محاسن الكفار” التي تغيب في دارنا، بين أهلنا نحن المسلمين، حسنًا إن كان “تدينكم السليم” هذا يرضيكم ويرضي حالكم فاستمروا على سباتكم ولكن تأكدوا أن التاريخ لن يرحمكم ولن يحابيكم إذا لم تصنعوا بتدينكم السليم هذا شيئًا حسنًا للبشرية.