مطاردة العلماء لـ”موجات الجاذبية”، كانت أشبه دائمًا بمطاردة شبح، ومع إن نظرية أينشتاين النسبية العامة تنبأت بها، إلا أن إثباتها كان صعبًا دائمًا، لهذا لم يصدق العلماء أنفسهم عندما التقط راصد موجات الجاذبية في 14 سبتمبر الماضي، أول إشارة لموجات الجاذبية في تاريخه، وهو الاندهاش الذي تكرر هذه الأيام عندما التقط الراصد الجديد “ليسا” لأول مرة بدقة، حركة ضئيلة جدًا في الفضاء أصغر من عرض ذرة!
كيف استطاع العلماء الإيقاع بالشبح في الفخ؟
فريق العلماء التابع لوكالة الفضاء الأوروبية قام بوضع مركبة فضائية للراصد، على مسافة 1.5 مليون كيلومتر من الأرض، في منطقة من الفضاء، تلغي فيها جاذبية الأرض والشمس بعضهما، وتعرف هذه المنطقة الخاصة باسم “نقطة لاجرانج”، وهذا يعني أن الأشياء الموجودة على متن المركبة، والتي تتكون من سبيكتي صلب من الذهب والبلاتين تزن كل منهما 1.9 كيلوجرام، تطفوان في حالة سقوط حر في الفضاء، على بعد 37.5 سنتيمترات من بعضهما.
في هذه الحالة، وبوجودهما في حالة السقوط الحر، على هذين المكعبين ألا يتحركا مطلقًا، بشكل يخرج عن سرعة حركتهما الفعلية داخل المركبة، إذا حدثت حركة، فهذا يعني أن الشبح مر من هنا، هناك موجات جاذبية!
ظل الشبح موجود، إذن هو موجود
المركبة الفضائية الراصدة “ليسا” ليست كبيرة بما فيه الكفاية كي تقيس موجات الجاذبية لوحدها، لكنها قادرة على قياس حدوث الحركة على المستوى الفيمتوميتري، والذي يساوي واحد على مليون من مليار المتر، لكن العلماء استغلوا وجود مكان في الفضاء تلغي فيه القوى بعضها بعضًا، وقد قال العالم الفلكي مارتين هيوستون أن ذلك أفضل بـ100 مرة من القياس على سطح الأرض.
صياد محترف: كيف يتفوق الراصد الجديد على ما سبقه؟
العلماء تمكنوا في وقت سابق من هذا العام، قياس موجات الجاذبية براصد آخر يسمى “ليغو”، لكن كان عليهم أن يستخدموا لذلك أشعة ليزر تبعد عن بعضها 4 كيلومترات فقط، وهي المسافة التي تعد أصغر من أن تستطيع قياس موجات الجاذبية بدقة، ولكي يعالجوا هذا جعلوا الأشعة ترتد ذهابًا وإيابًا، ما جعل المسافة 695 ميلًا، لكن المشكلة أن هذه الطريقة لا تسمح بقياس موجات جاذبية إلا تلك التي تتراوح بين 100 إلى 1000 هيرتز.
أما الراصد “ليسا”، فقد استطاع أن يقيس الحركة بدقة، لهذا سينتقل العلماء للمرحلة القادمة من المهمة، عبر جهاز متطور يسمى (eLISA)، وسوف يضع العلماء في هذه المرحلة ثلاث مركبات فضائية منفصلة تدور حول الشمس في نفس نقطة الراصد “ليسا”، المركبات معًا سوف تصنع شكل حرف L، وتبعد كل منهم عن الأخرى 621 ألف ميل، وبهذه المسافة بالغة التفوق، سوف يستطيع العلماء أن يرصدوا موجات جاذبية بشكل أكثر دقة، بدرجة حساسية أكبر من راصد “ليغو” بكثير، تصل إلى اصطياد أي موجات جاذبية تتراوح بين 0.0001 إلى 1 هيرتز، أي أنها ستكون قادرة على رصد أي حركات تصل ضآلتها إلى بضعة تريليونات من المتر.
بعد “ليسا”: العالم لن يعود كما كان
فكرة أنه لن تعود هناك موجات جاذبية تفلت منا، هو شيء مذهل تمامًا، أحد أعضاء فريق “ليسا” قال في تصريح للجزيرة إن موجات الجاذبية تفتح لنا نافذة على الكون لنرى أشياءً لم تُرَ من قبل، وأننا على أعتاب رؤية الكون “بطريقة جديدة تمامًا”، هذا يجعلنا نحبس أنفاسنا من الآن، يبدو أن الشبح الأول، سيقود إلى رفاقه!