باشرت الحكاية في إسطنبول؛ ففي ليلة الثلاثاء، أطلق ثلاثة مسلحين يشتبه في أنهم تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية هجومًا جريئًا على المطار الرئيسي في تركيا، مفجرين أحزمتهم الناسفة بعد أن فتحوا النار على عدد كبير من المدنيين وموظفي المطار؛ وبالمحصلة، قتل حوالي 45 شخصًا، وحينها شعر العالم بالذعر؛ فمطار أتاتورك في إسطنبول يعد أحد أهم المحطات في أوروبا والشرق الأوسط، ومن بين أكثر المطارات تحصينًا، وتساءل المراقبون الأمريكيون: هل يمكن أن يحدث ذلك في مطاراتنا الآمنة في الرابع من يوليو؟
بعد ذلك، وصلت القصة لداكا، حيث دخل عديد من المسلحين المرتبطين بتنظيم داعش إلى مقهى شعبي في حي راقٍ في العاصمة المزدحمة ببنغلادش، وبعد مواجهة استمرت 10 ساعات، اقتحمت السلطات البناء الذي اتخذ فيه المهاجمون الرهائن، مما أسفر عن وفاة 20 شخصًا على الأقل من الرهائن، معظمهم من المواطنين الإيطاليين واليابانيين، وأرسل هذا الهجوم رسالة بأن التنظيم الجهادي ينمو ويترعرع بعيدًا عن منطقة الشرق الأوسط، وسط قلق خبراء الأمن، مما يحوّل جميع الأجانب إلى أهداف محتملة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وأخيرًا، وقع هجوم بغداد؛ ففي الساعات الأولى من صباح يوم الأحد، وفي المكان الذي يحتشد فيه المئات من العراقيين خلال شهر رمضان المبارك، انفجرت سيارة مفخخة في حي الكرادة التجاري المزدحم، مودية بأرواح مالا يقل عن 200 شخصًا، حسب آخر الإحصائيات، بينهم العديد من الأطفال، حيث شكّلت منطقة الانفجار ذات الأغلبية الشيعية هدفًا “مشروعًا” للجماعة السنية المتطرفة.
الخدر تجاه العراق
تشير صحيفة الواشنطن بوست في تقرير لها بأنه من غير المرجح أن يثير هجوم بغداد، وهو الأحدث في سيل المآسي التي شهدتها العاصمة العراقية، الذعر في نفوس الغرب كما فعلت الحادثتان السابقتان، حيث تشير الصحيفة بأننا أضحينا، ومنذ سنوات وحتى الآن، نشعر بالخدر تجاه العنف الممارس في بغداد؛ فتفجيرات السيارات المميتة هناك لا تستحضر حملة من الهاشتاجات المؤيدة، لا تتمخض عن تغيير صور الصفحة الشخصية على الفيسبوك إلى العلم العراقي تعبيرًا عن التضامن، ولا تحتل أسماء الضحايا وقصص حياتهم عناوين صفحات الجرائد الغربية، بل إن تفجيرات بغداد لا تجتذب إلا التعاطف العالمي الصامت.
في هذا السياق، نشرت صحيفة البي بي سي جدولًا زمنيًا حول الهجمات الأخيرة التي نفذها تنظيم داعش في بغداد وأماكن أخرى في العراق، بما في ذلك هجمات أسبوع منتصف شهر مايو المميتة في بغداد، أتت بالترتيب من الأحدث إلى الأقدم كالتالي:
9 يونيو 2016: هجومان انتحاريان داخل وحول بغداد أسفرا عن مقتل 30 شخصًا على الأقل تبنى تنظيم داعش المسؤولية عنهما.
17 مايو 2016: أربعة انفجارات قتلت 69 شخصًا في بغداد، ثلاثة من الأهداف كانت مناطق شيعية.
11 مايو 2016: انفجار سيارات ملغمة في بغداد يقتل 93 شخصًا من بينهم 64 كانوا ضمن سوق في حي شيعي في مدينة الصدر.
1 مايو 2016: انفجار سيارتين ملغمتين يقتل 33 شخصًا على الأقل في مدينة السماوة الجنوبية.
26 مارس 2016: هجوم انتحاري يستهدف مباراة لكرة القدم في وسط مدينة الاسكندرية، مما أسفر عن مقتل 32 شخصًا على الأقل.
6 مارس 2016: تفجير ناقلة وقود عند نقطة تفتيش بالقرب من وسط مدينة الحلة، مما أسفر عن مقتل 47 شخصًا.
28 فبراير 2016: هجمومان انتحاريان يضربان سوقًا في مدينة الصدر، مما أسفر عن مقتل 70 شخصًا.
من الملاحظ بأن جميع تلك المآسي التي حصدت أرواح مئات القتلى وآلاف الجرحى حصلت في هذا العام فقط، علمًا بأن العراق، ومنذ غزوها عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة، شهدت العديد من جولات العنف الطائفي وهجمات القاعدة واليوم تشهد ويلات تنظيم الدولة الإسلامية.
في هذا السياق، يوضح تقرير الواشنطن بوست بأن الغضب الشعبي في العاصمة العراقية، لا ينصب تجاه المتآمرين الأجانب أو المليشيات المسلحة، بل إن الشعب يكيل جام غضبه ويحمّل المسؤولية الأعلى للحكومة العراقية التي أثبتت فشلها في الحفاظ على أمن البلاد.
“الشارع كان يضج بالحياة في الليلة الماضية،” قال أحد سكان الكرادة للواشنطن بوست، وتابع: “الآن تفوح رائحة الموت في كل مكان”.
تقلّص الأراضي وتنامي الطموح
تعكس المجازر المرتكبة في 4 قارات من العالم والمنسوبة إلى تنظيم داعش مدى نمو أيديولوجية المجموعة رغم انحسار الأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، وذلك وفقًا لما نقلته صحيفة الواشنطن بوست في تقرير آخر عن خبراء أمنيين.
إضافة إلى ذلك، تشير الصحيفة في تقريرها بأن هجمات الأسبوع الماضي الكبيرة وحدها، هجمات إسطنبول وداكا وبغداد، تشير إلى أن عمليات التنظيم المتشدد تُنفّذ خارج حدود “دولة الخلافة” على نحو أكثر تواترًا، وليس بالضرورة أن تكون هذه العمليات مخططًا أو معلنًا عنها ضمن مقر “الخلافة”.
الأمر الأخطر، هو أن عددًا متزايدًا من الهجمات، بدءًا من باريس وبروكسل، أُجريت من قِبل عصابات من المهاجمين وليس على يد مسلح واحد، حيث نقل تقرير الواشنطن بوست عن بروس ريدل، المسؤول السابق في إدارة مكافحة الإرهاب بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، قوله: “الأمر الصادم هو أن هجمات إسطنبول وداكا لم تنفّذ على يد ذئاب منفردة على الإطلاق، بل نُفّذت من قِبل فرق من الإرهابيين تعمل بخطة هجوم معقدة، يمكن أن أسميهم “قطيع الذئاب”، بحيث أضحت هذه العلامة مميزة لتنظيم الدولة الإسلامية”.
بالتوازي مع ذلك، تواردت الأنباء عن مقتل انتحاري بتفجير أمام القنصلية الأمريكية في جدة بالسعودية، كما أعلنت الكويت عن إحباط مخططات إرهابية للتفجير واعتقال مدبريها، فضلًا عن إعلان السلطات التركية عن القبض على انتحاري حاول تفجير نفسه في مسجد بأضنة.
نشرت وسائل الإعلام الموالية لتنظيم داعش في الأسبوع الماضي، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لإعلان الخلافة المزعومة، رسمًا بيانيًا يبين نفوذ التنظيم، توضح من خلاله امتداد سيطرة المجموعة ابتداءًا من السيطرة المعتدلة المزعومة في الفلبين وحتى الوجود “السري” في فرنسا و15 دولة أخرى بينهما.
وفي هذا السياق تذكر الواشنطن بوست في تقريرها بأنه وعلى الرغم من تهاوي سيطرة التنظيم في العراق وسوريا تحت وطأة ضربات التحالف الجوية وحروب الجيوش والميليشيات على الأرض، إلا أن جنود التنظيم انتشروا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وفي مناطق أبعد من ذلك بكثير؛ فهجمات التنظيم في تركيا، بنغلاديش، نيجيريا، أفغانستان، ليبيا، تونس، السعودية، مصر، الكويت، وعدد من العواصم الأوروبية، فضلًا عن هجمات الذئاب المنفردة في أورلاندو وسان بيرناردينو، جميعها تُظهر قوة التنظيم باعتباره أيديولوجية تطرد بالانتشار، “داعش تفقد الكثير من الأراضي، ولكنها في ذات الوقت توسع وجودها العالمي”، نقل التقرير عن النائب والديمقراطي آدم شيف.
من جهة أخرى، يقول مسؤولون بالمخابرات الأمريكية بأن انتكاسات ساحة المعركة في العراق وسوريا دفعت قادة التنظيم الإرهابي لتسريع الجدول الزمني لشن الهجمات خارج مقر سيطرتهم، حيث يعتقد كثير من مسؤولي الإستخبارات وخبراء الإرهاب بأن الضربات الإرهابية الأخيرة في باريس وبروكسل وتركيا وبنغلاديش هي انعكاس لتلك الإستراتيجية، ويقول مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية جون برينان في شهادته أمام مجلس الشيوخ الشهر الماضي: “نعتقد بأن تنظيم داعش سوف يكثف حملته الإرهابية العالمية للحفاظ على هيمنته على أجندة الإرهاب العالمي”.
طموح داعش الدولي
في الوقت الذي كان فيه تنظيم داعش يركز في المقام الأول على بناء قدراته والدفاع عن دولة الخلافة، أعربت المجموعة منذ فترة طويلة عن طموحاتها لمهاجمة أهداف خارج منطقة الشرق الأوسط؛ فلطالما تضمنت مجلة التنظيم الصادرة باللغة الإنجليزية، دابق، مناقشات لخطط تهدف لغزو روما وغيرها من المدن ذات الأهمية الرمزية، بالإضافة إلى إعادة السيطرة على جميع الأراضي التي كانت ذات يوم جزءًا من الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة على مر التاريخ.
تنقل الواشنطن عن أحد المجندين الفرنسيين في صفوف داعش، نيكولاس مورو، والذي ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه، بأن هيكل الجماعة الصارم يتضمن وحدة مخصصة لتسهيل الهجمات على الأراضي الأجنبية، تدعى “الأمني”، والتي نشطت في أوروبا منذ أكثر من عام، ويستذكر مورو لقاءه مع بعض عناصر الأمني في سوريا والذين وصفهم بأنهم جزء من “الخدمة السرية للنشاط الخارجي للدولة الإسلامية”، وقال موضحًا: “المهام الخارجية تتضمن إرسال الأشخاص إلى جميع أنحاء العالم للقيام بأعمال العنف، القتل، تجنيد الشباب، أو للحصول على الكاميرات أو المواد الكيميائية لاستخدامها في الأسلحة”، ويستطرد مورو قائلًا بأن أحد عناصر الأمني هو البلجيكي عبد الحميد أباعود، القائد الميداني لهجمات باريس، موضحًا وجود أربعة أشخاص على الأقل سافروا إلى شمال أوروبا لاتخاذ الاستعدادات، وليس من الواضح ما إذا كان هؤلاء الأشخاص قد تم التعرف والقبض عليهم أم لا.
على صعيد آخر، تلاحظ الواشنطن بوست بأنه وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أشار في كثير من الأحيان بأن الهجمات، سواء أكانت منفذة على أيد أحد أفراد التنظيم أو أو مستوحاة من فكره، هي علامة على يأس المجموعة بعد فقدانها للسيطرة على الكثير من المناطق التي كانت تخضع لسلطتها في العراق وسوريا، إلا أن المجموعة ما زالت متجذرة وقوية بما فيه الكفاية لتصدر في الآونة الأخيرة عملة الخلافة الخاصة مع نقش عبارة “الدولة الإسلامية” عليها.
من هذا المنطلق، يبدو من الصحيح على نحو متزايد بأن فكرة وأيدولوجية التنظيم، وليس سيطرته على أي إقليم، هي التي تتنامى وتأخذ الأهمية الأكبر، مما يجعل تحدي هزيمة الجماعة أكثر إلحاحًا وصعوبة على حد سواء.