في زيارة وصفها البعض بـ ” التاريخية ” استهل رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتيناهو، جولته المكوكية لأربعة من دول حوض النيل ( أوغندا – كينيا – أثيبويا –رواندا) والتي من المقرر أن تستغرق 8 أيام، بعد أقل من شهر واحد فقط من زيارة وفد دبلوماسي رفيع المستوى من الخارجية الصهيونية لأثيوبيا وكينيا.
تأتي الزيارة وسط حالة من الترقب حول المساعي الصهيونية لإحكام السيطرة على القارة السمراء، لاسيما منطقة القرن الإفريقي ودول حوض النيل، فضلا عن الجهود الحثيثة التي تبذلها تل أبيب لكسب وتأييد دول القارة لتوجهاتها المختلفة، وهو مايضع العديد من علامات الإستفهام حول هذا المخطط الذي يهدد الأمن القومي العربي لاسيما المصري.
وبالرغم من الإعتراضات التي وجهت لهذه الزيارة من قبل بعض أعضاء الكنيست وتيارات المعارضة، إلا أن تصميم رئيس الوزراء على القيام بها في هذا التوقيت بالذات يضع العديد من التساؤلات حول الأهداف الكامنة وراء تلك الزيارة، خاصة وأنها تتزامن مع إنعقاد القمة الإفريقية في كيجالي.
العلاقات الصهيونية – الإفريقية
يعود الإهتمام الصهيوني بإفريقيا إلى المؤتمر الأول الذي عقد في 1897 م في مدينة بازل السويسرية، والذي ناقش إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، حيث تطرق النقاش إلى آليات فرض الكيان الصهيوني سيطرته على الدولة الفلسطينية وشبه جزيرة سيناء، وتأمين حاجة اليهود من المياه سواء عن طريق الأبار الجوفية بسيناء أو عن طريق نهر النيل، وبذلك وضع زعماء الحركة الصهيونية قضية المياه في المقام الأول حينما رفعوا شعار (من نهر الفرات إلى نهر النيل أرضك يا إسرائيل) ، ومنذ قيامها كرست الدولة العبرية هذا المفهوم بسرقتها لمياه الدول العربية (الأردن ، سوريا ، لبنان ، فلسطين ، ومصر )، ومن ثم باتت القارة السمراء هدفا محوريا استراتيجيا لإسرائيل.
وللوقوف على العلاقات الصهيونية – الإفريقية، كانت هذه الأطلالة السريعة عل أبرز مراحل تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية.
المرحلة الأولى : شرعنة الكيان ( 1948 ـ 1957م)، فبعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وضع صنّاع القرار في تل أبيب تأسيس علاقات قوية تفرض شرعيتهم على قائمة الأهداف التي يسعوا لتحقيقها في السنوات الأولى لقيام دولتهم المحتلة، ومن ثم كانت القارة السمراء – التي كان معظمها مستعمرات أوروبية – هدفا أمام الدبلوماسية الصهيونية.
المرحلة الثانية : التغلغل ( 1957 ـ 1973م) وتعد هذه المرحلة هي البداية الحقيقية للعلاقات الإفريقية – الصهيونية، حيث كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من حصول غانا على استقلالها 1957م، وقد لعبت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً كبيراً في تدعيم العلاقات بين البلدين، وهو ما دفع إلى افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري.
المرحلة الثالثة: المقاطعة ( 1973 ـ 1983م) حيث قاطعت معظم الدول الإفريقية الكيان الصهيوني خلال حرب أكتوبر 1973، حيث تقلص عدد الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب من 25دولة إفريقية إلى 5 فقط.
المرحلة الرابعة: استعادة العلاقات ( 1982 ـ 1991م)، كثفت تل أبيب نشاطها الدبلوماسي في إفريقيا بعد إنتهاء حرب أكتوبر، والوصول إلى إتفاق سلام مع الجانب المصري، وفي عام 1982م أعلنت زائير عن عودة علاقاتها مع إسرائيل؛ لأن الرئيس موبوتو كان بحاجة ماسة للمساعدات العسكرية الإسرائيلية ولا سيما في ميدان تدريب الجيش وحرسه الجمهوري.
المرحلة الخامسة: التطبيع (1991م )، حيث نجح الكيان الصهيوني في تطبيع علاقاته مع العديد من دول القارة بسبب عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية، منها: سقوط النظم الشعبوية والماركسية اللينينية في إفريقيا، الدخول في العملية التفاوضية بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد.، وفي العام 1992 فقط قامت ثماني دول إفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وطبقاً للبيانات الصهيونية فإن عدد الدول الإفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991م قد بلغ ثلاثين دولة، وفي عام 1997م بلغ عدد الدول الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل 48 دولة.
وقد اتخذ الكيان الصهيوني لتحقيق أهدافه المتمثلة في تطبيع العلاقات مع دول إفريقيا عدد من الاستراتيجياتن كان في مقدمتها، المساعـدات الاستخبارية والتدريبات العسكرية، المساعدات الفنية والبشرية، تجارة السلاح والألماس.
حرب اكتوبر المجيدة والتي أفقدت الكيان الصهيوني حضوره الإفريقي
استراتيجية الكيان الصهيوني في التوغل الإفريقي
نجح الكيان الصهيوني خلال العقدين الأخيرين في فرض هيمنته الكاملة على الكثير من مقومات الحياة داخل القارة الإفريقية، وهناك العديد من المؤشرات التي تجسد هذه الهيمنة، منها، أن حجم التبادل التجاري بين الجانبين تجاوز حاجز الـ 6مليار دولار ، إضافة إلى وجود 2763خبيرا إسرائيليا بإفريقيا، يعملون لصالح مركز الدراسات والابحاث الإفريقية الإسرائيلي «الماشاف» ، كما وصل عدد الأفارقة الدارسين في إسرائيل 16 ألفا و797 طالباً، غالبيتهم درسوا في مجالات الزراعة والرى، وكان ذلك في الفترة من 1958 وحتى1971 فقط، فضلا عن أن ( 6 ) من قيادات الموساد يعملون في أفريقيا، منهم شبتاى شافيت رئيس الموساد الأسبق. ودانى ياتوم رئيس الموساد السابق، الذي يعمل بمجال التسليح. ورافى إيتان ضابط الموساد السابق ووزير الزراعة الأسبق، وحجاى هداس، مسؤول العمليات الخارجية في الموساد
وتسعى السياسة الصهيونية من وراء هذا التوغل إلى تحقيق عدد من الإستراتيجيات، من بينها، تأمين البحر الأحمر، فلا تزال خطورة البحر الأحمر ماثلة في ذهن القيادات الإسرائيلية المتعاقبة، ولنتذكر أن بن جوريون في حرب 1948م أصدر تعليماته لموشي ديان بأن يضحي بأي شيء في سبيل موطئ قدم على شاطئ البحر الأحمر، كذلك التركيز على دول القرن الإفريقي، لما لهم من أهمية استراتيجية في الحفاظ على الأمن القومي الصهيوني.
ومن أبرز الأستراتيجيات المتبعة من تل أبيب لتفعيل توغلها الإفريقي، إحكام السيطرة على دول حوض النيل، فليس بخاف أن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة هو الرغبة في الحصول على مياه النهر، والضغط على صانع القرار المصري بهذه الورقة الاستراتيجية، وهو مابدا يلوح في الأفق في الأونة الأخيرة لاسيما بعد ظاهرة بناء السدود على مياه النهر وفي مقدمتها سد ” النهضة الأثيوبي “.
سد النهضة الإثيوبي..ورقة الضغط الأسرائيلية ضد مصر
زيارة تاريخية
تأتي زيارة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتيناهو اليوم الأثنين لكل من أوغندا، إثيوبيا، كينيا ورواندا، في إطار الإستراتيجية المعدة سلفا لإحكام السيطرة على دول النهر بما يحقق للكيان الصهيوني أهدافه المعلنة من الحصول على حصة من مياه النهر بما يحقق له الأمن المائي، كذلك الضغط على مصر في مسيرة الصراع العربي الصهيوني بما يحقق الأمن القومي للكيان المغتصب.
صحيفة ” يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أشارت إلى أن تلك الزيارة التى تشمل 4 دول إفريقية تعد هي الأهم بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلى ، كذلك فهي واحدة من أكثر الزيارات تعقيدا وجدلا في نفس الوقت، لاسيما وأنه سيرافق الوفد الصهيوني 4طائرات ، طائرة ركاب مستأجرة من قبل مكتب رئيس الوزراء نتانياهو والوفد المرافق له، وطائرة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلى محملة بـ 140 ضابطا وعسكرى يمثلون وحدات الجيش الإسرائيلى المختلفة، وعدد من أقارب قتلى عملية عنتيبى (إحياء الاحتفال الرسمى بمناسبة الذكرى الـ 40 لعملية مطار “عنتيبى” التى قتل فيها شقيق نتانياهو)، بالإضافة لطائرتين من طراز “هرقل” تحمل معدات أمنية مشددة لمرافقة زيارة نتانياهو كما تحمل مستشفى متنقل وعربات مدرعة سيستخدمها موكب نتانياهو.
وحسب الصحيفة أيضا، فإنه من المقرر أن يستهل نتنياهو جولته بالعاصمة الأوغندية كمبالا، التى يصلها اليوم، وتتواصل حتى يوم غد الثلاثاء، يلتقى خلالها الرئيس الأوغندى يورى موسفينى للتوقيع على 5 اتفاقيات تعاون فى عدة مجالات، أهمها الاقتصاد والزراعة والرى، ثم يتوجه بعدها مباشرة إلى كينيا ليقيم بها يومى الأربعاء والخميس، ويلتقى الرئيس الكينى أوهورو كينياتا الذى زار إسرائيل فى مارس الماضى، وستكون «ملفات التعاون العسكرى والأمنى» فى صدارة محادثاتهما.
وستكون العاصمة الإثيوبية أديس أبابا المحطة الثالثة لنتنياهو، حيث سيمكث بها يومى الجمعة والسبت، ومن المقرر أن يُلقى نتنياهو خطاباً فى مقر الاتحاد الأفريقى فى أديس أبابا، وسيدعو من خلاله إلى تأسيس شراكة وتعاون بين بلاده والاتحاد الذى سبق أن اتهمه قادة إسرائيل بأنه «معاد للسامية».
وبالرغم من تسجيل 9 دول إفريقية ( المجموعة العربية) تحفظها على استقبال نتيناهو بمقر الإتحاد، إلا أن مصادر أشارات إلى أنه سيلتقى فى أديس أبابا رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقى نكوسازانا دلامينى زوما، ورئيس الوزراء الإثيوبى هايلى مريام ديسالين، ورئيس الدولة مولاتو تشومى ورتو، إضافة إلى إحتمالية تجديد طلبه مرة أخرى بالحصول على عضوية «مراقب» فى الاتحاد الأفريقى، وقد رُفض طلب سابق لإسرائيل فى ذات الشأن عام 1976.
وحسب الصحيفة فإن رواندا ستكون آخر محطة فى جولة نتنياهو الأفريقية، وسيمكث فيها يومى الأحد والإثنين المقبلين بالتزامن مع بدء فعاليات القمة الأفريقية الـ27، التى تستضيفها كيجالى خلال الفترة بين 10 و18 يوليو.
العديد من الأصوات المعارضة داخل الكيان الصهيوني استنكرت تكلفة هذه الزيارة والتي ستصل لحوالى 28 مليون شيكل، مشيرة إلى أن 4 طائرات سترافق رحلته محملة بأغراضه الشخصية، كما وصفوا إجراءات الأمن التى أتبعت لهذه لزيارة بالغير مسبوقة، وغير المبررة .
28مليون شيكل تكلفة زيارة رئيس الوزراء الصهيوني وزوجته لدول حوض النيل
ثنائية الأمن المائي والقومي
بالرغم من الحقائق الجيوسياسية والإستراتيجية والإقتصادية المميزة للقارة السمراء، والتي حددت الأهدف الخمسة للوجود الإسرائيلي في القارة وهي، كسر حدة العزلة الدولية التي فرضتها عليها الدول العربية ومن سار في فلكها، كسب تأييد الدول الأفريقية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، العمل على تحقيق أهداف أيديولوجية توراتية خاصة بتقديم إسرائيل على أنها دولة “نموذج” لشعب الله المختار. ويفسر ذلك أن إسرائيل اعتمدت دائما على تقديم المساعدات التقنية والتنموية للدول الأفريقية، حتى في حالة عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية معها، السعي لتحقيق متطلبات الأمن الإسرائيلي من حيث تأمين كيان الدولة وضمان هجرة اليهود الأفارقة إليها وفقا لقانون العودة، ومنع أن يصبح البحر الأحمر بحرا عربيا، بناء قاعدة إستراتيجية لتحقيق الهيمنة الإقليمية (Hegemony) لإسرائيل، وذلك بما يمكن تسميته “مبدأ شد الأطراف”، حيث تعتمد إسرائيل على النيْل من أطراف نظام الأمن العربي باعتباره المستهدف في الإستراتيجية الإسرائيلية، إلا أن زيارة نتيناهو هذه المرة لها طابع خاص، وهو مايتكشف بالوقوف على الأهداف الحقيقية من وراء هذه الزيارة في هذا التوقيت بالذات.
لاشك أن هذه الزيارة ليست مفاجئة بل تم الإعداد لها منذ شهور طويلة، حيث وضعت تل أبيب المتغيرات الدولية الراهنة نصب أعينها والتي ساهمت بشكل كبير في تغيير ملامح الخريطة الجيوسياسية للعالم، لاسيما منطقة الشرق الأوسط، مما دفع الكيان الصهيوني إلى تدشين إستراتيجية جديدة مع دول حوض النيل لا تعتمد على السياسة فحسب، بل تراعي في مضمونها التعاون الإقتصادي مع دول النهر.
الجولة المكوكية لرئيس الوزراء الصهيوني تعتمد على أربعة ملفات أساسية، وهى تقديم إسرائيل لدعم إقتصادي إلى دول حوض النيل، تحرك إسرائيل تجاه أفريقيا كما تتحرك بعض الدول للإستثمار في أفريقيا، الإمساك بورقة ضغط على مصر ، كذلك نقل المياه من أثيوبيا إلى إسرائيل مرورًا بمصر وذلك وفقًا لتسعيرة للمياه أو بيع المياه مقابل النفط.
الملفات الاربعه التي يحملها نتيناهو في زيارته الإفريقية لدول حوض النيل تسعى وبمنتهى الوضوح إلى تحقيق أمنين إثنين رئيسيين، بالإضافة إلى عدد من الأهداف الفرعية الأخرى التي تصب في تحقيق هذين الأمنين بصورة مباشرة وغير مباشرة.
الأول: الأمن المائي، وذلك من خلال ضمان توفير المياه لدولة الإحتلال لسنوات قادمة عن طريق تمويل بناء السدود على النهر، وهو ماترحب به دول الحوض بصورة كبيرة.
الثاني: الأمن القومي، وهو مايتمثل في استخدام بعض الملفات كورقة ضغط على صنّاع القرار في مصر وبعض الدول العربية بما يخدم أهداف الكيان في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، وفي مقدمتها ملف “سد النهضة” الأثيوبي، إضافة إلى تأليب دول الحوض على مصر بما يفتح الباب لإسرائيل لممارسة إبتزازها السياسي، كذلك منافسة القوى العالمية الأخرى في الوجود الإفريقي وفي مقدمتهم الصين والهند وروسيا.
مما سبق يتضح أن هناك خطة منهجية مدروسة للكيان الصهيوني نحو التوغل الإفريقي، يخطو نحو تحقيقها خطوات ناجحة، بما يهدد مستقبل الأمن المائي والقومي العربي، فهل يترك العرب اسرائيل تنفذ هذا المخطط بأريحية مطلقة؟ وأين الدبلوماسية المصري مما يحدث؟