العيد، في القرية التي ولدت ومازلت أعيش فيها، منذ ما يقارب الخمسة عقود مضت في سبعينيات القرن الماضي، غيره تماما، اليوم، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. لقد جرت في النهر مياه كثيرة: تغيرت قيم وعادات وسلوكيات في: العبادة، واللعب وأدواته وطرقه المختلفة، وفي الاجتماع الإنساني والعادات والتقاليد، والترابط والتماسك والتضامن الاجتماعي؛ بين الفقراء والاغنياء، والكبار والصغار، وداخل الأسرة الواحدة، وداخل العائلة الواحدة، وبين أهل البلد الواحدة.في هذا المقال محاولة لاسترجاع ذكريات العيد في الطفولة، مع مقارنته بالعيد اليوم، وكيف يقضيه أبنائي وأقرانهم في قريتنا.
ليلة السعادة
كانت هذه الليلة من أجمل الليالي في حياتي، ومازالت ذكراها عالقة بذهني تمدني بكل أسباب السعادة: كنا نسهر تلك الليلة بطولها حتى مطلع الفجر: ما بين لعب وأكل وشرب وتجهيز لملابسنا، وخططنا لقضاء أول أيام العيد.
النساء في ليلة العيد
كانت نساء القرية يقضين ليلة استقبال العيد، في نظافة البيوت، وتجهيز الطعام والشراب لزيارة الأحباب الغائبين في المقابر ولاستقبال العيد. وكان الفرن البلدي في معظم بيوت القرية، يظل موقدا من مطلع فجر آخر يوم من شهر رمضان حتى منتصف ليلة العيد: يخبزون الخبز، الكعك والبسكويت والمنين والقرص بالسمن البلدي، ونقوم نحن بأكله وتوزيعه بتوزيعه على الأهل والجيران، وحمله معهن إلى المقابر حيث يزورون الأحباب في الصباح الباكر.
ليلة الفرح والسرور
وكانت ليلة الليالي بالنسبة لنا كأطفال، حيث كنا ننسرف في الأكل حتى نصاب بالاسهال الشديد. وكانت من أمتع اللحظات في تلك الليلة، أن نجلس إلى جوار أمي وحولها خالتي أم بدر وخالتي أم عبد الله وخالتي أم محمد(لم تكن أغلبهن خالاتي بالنسب لكننا اعتدنا أن ننادي الكبار دائما بعمي أو عمتي أو خالي أو خالتي) وغيرهن: يخبزن ويصنعن الكحك والبسكويت والقرص بالسمن البلدي، ويصنعون لنا العيش البتاو بالسمن والسكر”المفروكة”، ويتداولون حديث الذكريات، ويضحكون في صفاء نادر، ومحبة كبيرة لا فرق بينهم على الاطلاق: يأكلون معاً ويشربون معاً ويضحكون معاً ويسعدوننا رحمة الله عليهم معاً.
لا مجال للنوم
ومع انتصاف الليلة، نجهز ملابس العيد الجديدة استعدادا للخروج مع أصدقائنا مع انتهاء صلاة العيد، فلم يكن هناك مجال للنوم، فالليلة؛ آخر ليالي شهر رمضان، فكنا نحرص على قيام الليل وتلاوة القرآن حتى اقتراب صلاة الفجر، فنرتدي الجلاليب البيضاء ونتوجه للمسجد، حيث نقيم الصلاة الفجر، لنكون أول المتجمعين حول حلقة التكبير.
حلقة التكبير
كان لنا، مع تكبيرات العيد، ذكريات لا تنسى، لا أزال أجد صداها في قلبي ، واسترجعها، في كل عيد، كأنها اليوم، حيث كنا نتحلق حول سيدنا الشيخ أحمد جودة رحمه الله وعم عبد الشافي وخالي عبد الرحمن وغيرهم من القائمين على المسجد، فنردد وراءهم تكبيرات العيد، وهي تفعل في نفوسنا فعل السحر، فلا نكل ولا نتعب، حتى نجد أصواتنا قد بحت، ولا تكاد تخرج من حلوقنا من كثرة تردادنا للتكبير والتحميد والتهليل، ثم نصلي العيد خلف الشيخ أحمد عبد العزيز رحمه الله بصوته الجميل وخطبته القصيرة الموجزة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب من كثرة إعادته لها، والتي كنا نتسابق مع أقراننا أينا يقلد أدائه المميز، لنخرج بعدها نصافح كل من نقابله من أهل قريتنا وأحبائنا.
نهر الخير
ولا أنسى، نهر الخير الذي كان يعم القرية في هذه الليلة، فقد كان الأغنياء يوزعون الملابس والأموال واللحوم والخبز في ليلة العيد، وكانت لهم طريقة جميلة في ذلك، حيث يرسلون الأطفال الصغار بتوصيل هذه “الهدايا” التي ينتظرها البعض من الموسم للموسم، فيقوم الطفل الصغير-وكم كان حظي عظيما أني قمت بهذا طيلة فترة طفولتي- بحمل قطع القماش الجديدة بحسب عدد أفراد المنزل واللحم والخبز على عدة مرات إلى بيوت الجيران والأقارب وغيرهم من أهل القرية، فيوصلها لهم ويقوم كما قيل له من الأب أو الأم “أبي يسلم عليكم وباعت الأمانة دي” أو أمي “تقول لكم كل سنة وأنتم طيبين”، ولا أستطيع وصف الفرحة في القلوب- قلوبنا جميعا- بذلك.
الذين لا يغادرون الذاكرة
من الطقوس، التي لا أنساها في يوم العيد، زيارة المقابر،حيث كانت أمهاتنا تجهز للزيارة باهتمام شديد، فيقمن بإعداد الكحك والبسكويت والقرص والفاكهة الكثيرة والخبز البيتي، استعدادا لزيارة الأحباب من الأموات، قبل مباشرة أي طقوس مع الأحياء.
فمع طلوع الفجر يؤدين الصلاة، ثم يخرجن مبكرات لركوب المراكب الشراعية التي تطورت فيما بعد إلى لنشات بحرية كبيرة فيعبرن نهر النيل إلى الضفة الشرقية حيث يرقد أمواتنا في انتظار الزيارة. ومازالت ذاكرتي تسعفني برحلة أو ببقايا رحلة من هذه الرحلات، في مركب شراعي كبير، أو كما كنا نسميه”صندل”، وهو يتهادى في رحلته عبر النيل من الغرب إلى الشرق، وأمهاتنا يرتدين السواد، ويبدو على وجوههن الحزن الشديد المختلط بالفرحة بلقاء الراحلين.
وما إن نصل إلى المقابر، حتى يتجمع حولنا الكبار والضغار من أهل البلدة المجاورة للمقابر، فيوزعن عليهم الخبز والكحك والبسكويت والقرص بالسمن البلدي والفاكهة والأموال على أرواح الأموات، ويمكثون حوالي الساعة يستمعون لقراءة القرآن من أحد فقراء منطقة المقابر (وغالبا كان يقرأ سورة يس في أغلب المرات التي أتذكرها)،ثم يناجون أمواتهم بكل حميمية ويبكونهم، وأخيرا يودعونهم مسرعات إلى المنازل لبدء طقوس العيد
أول أيام العيد
ثم تبدأ، طقوس اليوم، كل أفراد العائلة كبارا وصغارا، في البيت الكبير، حيث يجتمع الأجداد مع الآباء والأحفاد، لتناول الطعام وتبادل التهاني، وإعطاء العيديات للأطفال، ثم تمتلأ البيوت بالمهنئين بالعيد يخرج هذا فيأتي ذاك هكذا طوال اليوم في كل بيوت القرية.
البيوت في العيد
كما ذكرت، كانت أمهاتنا يعدن مسرعات من زيارة القبور، وقبل خروج الرجال إلى البيوت بعد الصلاة، فيجهزن الإفطار، ويساعدن الأطفال في ارتداء الملابس الجديدة، ويظهرن بأحلى ما لديهن من جلاليب حريمي بألوانها الزاهية، فكنا نتعجب من هؤلاء اللاتي كن منذ ساعات يبكين ويلبسن السواد، لكنها طبيعة المرأة المصرية الريفية وقدرتها العجيبة على اختزان كل المشاعر، ومباشرة كافة المشاعر الانسانية بتلقائية حميمية غريبة، والانقلاب من الحزن الشديد على فراق الآباء والأمهات والأزواج، لنسيان هذا كله عند مقابلة الصغار الذين لا ذنب لهم في أحزانهم، كما كانت أمي –رحمها الله-تقول.
لم الشمل
وكانت قريتنا –ومازالت- تعتمد في معظم دخل أهلها على العمل اليدوي في المعمار، مع تغيرات طرأت فظهرت مهن جديدة مثل السمسرة في الأراضي والعقارات، امتهان الأجيال الجديدة لمهن ووظائف داخل مصر وخارجها ، في القطاع الحكومي والخاص على السواء نتيجة لارتفاع نسبة التعليم والسفر لخارج البلاد وغيرها من التطورات.
فكان العيد، مناسبة اجتماعية هامة من هذه الزاوية، فقد كان مناسبة للم شمل كل أسرة يغيب عائلها عنها معظم أيام العام، فيقضي أسبوعا أو عشرة أيام في صحبة أهله من ناحية، وفي الاجتماع بأهل بلده ورؤيتهم من ناحية أخرى، حيث كان العيد موسما ًلرؤية من لا تراهم إلا قليلاً جدا طوال العام لانشغالهم بالسعي وراء أرزاقهم خارج القرية.
طقوس البهجة في البيوت
كانت البيوت في أيام العيد مستقرا للبهجة ولم الشمل، فكنا نجلس مع الكبار من أهلنا رجال ونساء، ونقتنص منهم البهجة، فهذه أمي تجيد صنع الشاي على “الباجور” فكان نحضره لها لتصنع لنا شايا عليه أو على الجاز أو الشرائط بدلا من البوتاجاز.
وكانت جدتي، تصنع قهوة لا مثيل لها، فكانت عندما نذهب إليها لنحضرها لتقضي معنا يوما في العيد، نصر على أن تصنع لنا القهوة على “السبرتاية” ونستمتع بأحاديثها وطيبتها المتناهية ساعات طوال ونحن جلوس حولها.
وكان التليفزيون، على عهد طفولتنا، مصدرا للم الشمل، فكانت الأسرة مجتمعة تجلس لتشاهد الأفلام والمسرحيات ونضحك جميعا بملأ أفواهنا ومن أعماق قلوبنا ونحن تناول الطعام والشراب. وكان من المشاهدات التي لا تنسى، تلك الافلام الهندية التي تظل ساعات طويلة وقصصها العجيبة، وأبطالها الذين يعانون كل أنواع البؤس والشقاء والمؤامرات ثم يخرجون سالمين يغنون، وكنا -دون وعي- نشاهدها بمتعة كبيرة جداً،على الرغم من عجائبيتها وأسطوريتها المفرطة، وربما بسبب ذلك.
العيدية
كانت العيدية، طقساً لازماً لابد للكبار يؤدوه إلى الصغار –مهما قلت قيمتها-، فتبدأ من القرش إلى الخمسة قروش، ثم تتدرج صعودا حتى تصل إلى جنيه أو بضع جنيهات، ولم يكن من يتجاوز ذلك إلا قلة قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة في القرية. كنا نقف طوابير داخل كل بيت نأخذ عيدياتنا، ثم نخرج لأقاربنا:زرافات ووحدانا نأخذ منهم الهدية، ولا نغادر منزل أحدهم حتى نحصل منه عليها.
كانت هذه المبالغ على زهادتها، تفي بالمطلوب تماما لأطفال صغار، فكان يكفي مجموعة أطفال أن يتقاسموا عيدياتهم ليحظوا بعيد رائع يحصلون فيه على ما يريدون: حيث نأكل”الكشري” ونركب المراجيح ونلعب بدراجاتنا بعد طول عناء في تزيينها ثم نعود بعد الظهر لتناول الغذاء وأخذ العيدية ممن لم نأخذها. فقد كان جنيها واحدا نجمعه معاً يمكننا من: شراء زجاجات مياه غازية للجميع، وطبق أو طبقين كشري لكل واحد، وعدة”أدوار” على المراجيح وشراء البمب و”الحرب أطايلة” الذي كان شريطا نشعله بأعواد الكبريت فيستحيل نارا نستخدمه في حروبنا الوهمية التي كنا نوقدها كنوع من ألعابنا في العيد.
مع أصدقاء الطفولة والصبا
ومن طقوس العيد الجميلة، زيارات الأصدقاء بروح جميلة محبة، وسعينا معا في عمل الخير قدر استطاعتنا وادخال السرور على أكبر قدر من أهل الحاجة في هذه الأيام الجميلة أو كما نسميها”الأيام المفترجة”.
وكان من عاداتنا حتى المرحلة الجامعية أن نتجمع معا(شلة المدرسة الابتدائية)، ثم نمر على بيوت أصدقاؤنا واحدا واحدا من بعد صلاة العصر حتى بعد صلاة العشاء، نعيد عليهم ونأكل الكحك والبسكوت والمنين في بيت أحدهم حيث كان والدته تجيده بشكل رائع، ونذهب لآخر فنطلب الشاي، وهكذا. ثم نخرج بعد صلاة العشاء، مرة أخرى إلى مدينة الواسطى، فنمضي معظم الوقت المتبقي إلى قرب منتصف الليل على أحد المقاهي نتسامر، أو الاجتماع في بيت أحدنا.على أننالم نكن نعرف المقاهي أو غيرها إلا متأخرا عندما دخلنا الجامعة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينيات.
نزهاتنا وألعابنا في العيد
ومن مباهج العيد، النزهة في النيل بالمراكب الشراعية، فقريتنا تطل على النيل، وهو يحتضنها. وللأسف لم أحظ يوما بنزهة خلوية كهذه لأن أمي كانت تستحلفني بالله ألا أفعل ذلك.
الشيخ صدقي والشيخ عكاشة وخالتي أم دلال
ومن الشخصيات التي لا أنساها في هذا اليوم أبداً: الشيخ صدقي والشيخ عكاشة، وكانا من قريتين مجاورتين لقريتنا: الأول ضئيل الجسم، خفيف الظل إلى أقصى درجة، والثاني كفيف رقيق القلب، وكانا يأتيان طيلة العام على أوقات متفرقة، لكنها كان يواظبان على الحضور إلى بيتنا وبيوت أعمامي طيلة أيام العيد.
فيأتيان عندنا، مع مغيب شمس أول يوم، فيقرئا القرآن، وكان يلقيان من الترحاب الشديد من أبي وأمي الشيء الكثير: فيأكلان ويشربان، ويأخذا الطعام والملابس والنقود لأولادهم، ويقفلوا راجعينإلى أهليهم شاكرين مهللين فرحين. ولا تزال صورتهما في هيئتهما البسيطة وروحهما المحبة وهما يحتضناني صغيرا وأنا جالس بجوارهما، اسمع القرآن وأقدم لهما الطعام والشراب والفاكهة التي يحبانها كثيرا.
وكذلك كانت خالتي أم دلال تلك المرأة التي كانت تداوم على زيارتنا في العيد، تحمل معها ملابس نسائية تبيعها، وصورا لبنات عائلات “على وش جواز” كما كانوا يقولون لعلها توفق بين إحداهن وأحد إخوتي، وكيف كانت أمي تستقبلها بكل محبة وتشتري منها بالثمن الذي ترتضيه وزيادة، وكانت تكرمها كرما كبيرا هي ومن معها من بنتاتها أو قريباتها اللائي كن يأتين معها .
ألعابنا في العيد
كانت ألعابنا في العيد متنوعة، ما بين مباريات الكرة في مركز شباب القرية أو أمام بيوتنا عندما كنا صغارا جدا، أو الحروب التي كنا نشنها على بعضنا البعض بالبمب والحرب أطايلة الذي تحدثت عنه آنفا والسيوف الخشبية.
كانت حرب الشوارع، من وحي أفلام التليفزيون التي كنا نعشقها، وخصوصا فيلم “عنتر بن شداد” الذي كان بطله “فريد شوقي”، ذلك البطل الذي طالما أثر في خيالنا الصغير، الذي كنا نخرج بعد مشاهدته لتمثيله في شوارعنا كما رأيناه، فنصنع السيوف من الحديد أو الصاج أو الجريد والخشب، ونمتطي الأحصنة من الجريد النخيل أو البوص المتخلف من محصول الذرة وما شابه، ونقوم بحملاتنا على بعضنا البعض، ونتبارز بسيوفنا، ونغير على بعضنا البعض كما كانت القبائل تغير على بعضها.
العيد اليوم
اختلفت مظاهر العيد، اليوم، كثيراً، عما كانت عليه في طفولتي ونهايات مرحلة والصبا. ولم يتبق من طقوسه وعاداته القديمة إلا أقل القليل الذي نسعى-مع تقصيرنا-في الحفاظ عليها من الاندثار. تغيرت العادات بين الأجيال، شيئا فشيئا، ولم يعد الكثيرون يحرصون على عادات وتقاليد القرية كما كانت في عهد آبائنا وأجدادنا ربما بسبب الأوضاع الاقتصادية واختلاف الاجيال، وزيادة الفردية، وكثرة الغربة، والسكن خارج القرية، والتعود بعادات جديدة سيئة، لا مجال للخوض فيها في هذا السياق.
فقد ضمرت عادة إعطاء”العيديات”كثيرا، وقلت الزيارات حتى داخل الأسرة الواحدة وبين أهل البلد الواحد، بل بيننا كأصدقاء، ولم يعد كثير من الأطفال يحرصون على التواجد بالمسجد للتكبير، بل إنهم يصلون العيد، ثم يخرجون مسرعين للمحلات المنتشرة بالقرية أو بالمدينة يشترون الصواريخ والبنادق ويتبادلون الضرب تطويرا لما كنا نفعله في “حرب أطايلة” لكن حروبهم غير حروبنا، وآباءهم وأمهاتهم غير آبائنا وأمهاتنا ، فقلما كانت تحدث مشاكل بين الأهل بسبب مشاجراتنا المستمرة، لكن اليوم ضاقت الصدور كثيرا، وفي الغالب تتسبب مشاجرات الأطفال في اقتتال الآباء للأسف الشديد.
لم تعد القرية جاذبة
مع تطور الأمور في قريتنا،لم يعد كثير من الأطفال والشباب-خاصة في المرحلة الثانوية والجامعة- يحبذون البقاء في القرية لقضاء العيد مع أهليهم، فصاروا يخططون للذهاب للقاهرة، لمشاهدة أحدث الافلام في “المولات” المنتشرة الحديثة، ومن يبق منهم في القرية فقد كفته الفضائيات والأنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي مئونة الاختلاط بالناس، كما أن انتشار المقاهي والكافيهات الحديثة في مدينة الواسطى، وحتى الألعاب الالكترونية غزت قريتنا وطاولات البلياردو، وليس هذا فحسب بل والملاهي والسينما ال3d ، كله تطورات باعدت بين الجيل الجديد وبين عادات قريتنا وطقوسها.
فقد خلقت هذه الوسائل للأجيال الجديدة عالما افتراضيا منفصلا يتواصلون من خلال مع بعضهم ومع عالمهم الذي يحلمون به.
أصاب التغيير كل شيء
في طفولتي وصباي،لم نكن نستطيع أن نفرق ملابسنا من بعضها إلا في أضيق الحدود، كان الجميع تقريبا يلبسون من أماكن واحدة، وكلها ملابس متقاربة في ألوانها وأذواقها، وحتى من يشذ عن ذلك لم يكن يتميز على أقرانه أو يتباهى بهذا، لكن اليوم تغيرت هذه الأمور بدرجة ملحوظة للغاية، وصارت الملابس عنوانا للمكانة الاجتماعية والاقتصادية ، وصار السعر والماركة حديث الأولاد والبنات في الصباح والمساء
وحتى الأكل تغيرت عاداته، فبعد أن كان أقصى طموحاتنا طبق كشري أو زجاجة مياه غازية، لنعود إلي بيوتنا لنأكل مع أهالينا نأكل ما تطبخه أمهاتنا، صار الأمر مختلفا فكثير من الأجيال الجديدة يقلدون ما يرونه في مسلسلات الفضائيات، ويقيمون حفلات الشواء، ويذهبون إلى محلات الأكل المتنوعة التي ملأت مدينتنا، بل ويذهبون إلى عاصمة المحافظة أو المحافظات المجاورة ليتناولوا الطعام في محلات الأكل السريع المنتشرة التي صارت جزءا من طقوسهم في العيد.
وصارت، لدينا الآن مدينة ملاهي، لقد جاءت إلينا مدن الملاهي وبنيت على أراضينا الزراعي بعد أن حلمنا ركوب المراجيح والزقازيق ، كما انتشرت عادة ركوب الدراجات البخارية بين الأطفال والشباب، بعد أن أقصى أمانينا ركوب الدراجات الهوائية.
واندثر الفرن البلدي-الذي لا يزال صامدا في مكانه في بيتنا- تخبز فيه زوجتي، لكن لا أدري: هل ستكون زوجات أبنائي وابنتي في المستقبل يحافظون عليه أم يستغنون عنه كما استغنت معظم أسر القرية عنه، ويختفي الفرن مع رحيلنا. وأما عن الكحك والبسكويت، فقد صار جاهزا ، وقليل من يصنعه في بيته، فلقد صار “الخبيز مهنة” بعد أن كان طقسا لازما في كل بيت في بلدتنا.
خاتمة
لقد كان العيد، بهجة حقيقية للصغار ومازال، لكن اختلفت المعالم والمقاييس، ذهبت تقاليد وجاءت أخرى، واندثرت عادات وطقوس، لتحل محلها غيرها بتبدل الأجيال وتغير طرق التربية، ونتيجة أيضا لكم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الهائلة التي مرت بها قريتنا، مثلها في هذا مثل باقي مجتمعنا المصري. فقد أحدثت نظم الحياة الحديثة، والمادية الكالحة والاستهلاكية التي تحتل كل يوم أجزاء كبيرة من عقولنا ووجداننا وتطلعاتنا وثقافتنا انقلابا كبيرا أراه بأم عيني في قريتي في العيد.
ومازلنا، نحاول أن نتشبث ببقايا تقاليد وعادات جميلة نشأنا عليها، ونحاول أن نستعيد نقاء الوجوه والقلوب قدر استطاعتنا في زمن المادية الكالحة التي صبغت كل شيء في حياتنا؛ حتى لحظات فرحنا وأعيادنا، لعلنا نقتنص بعض مباهجها التي تحيي أرواحنا وقلوبنا، وتستحثنا على تمتين شبكة علاقاتنا الاجتماعية من جديد.
رحم الله هذا الجيل الجميل الذي جعلنا أسوياء نفسيا، وأعطانا بهجة للعيد مازالت تثري نفوسنا بعد أن كبرنا، وأعاننا على التمسك بما تركه لنا وتوريثه لأبنائنا.