من يعرف شواطئ تل ابيب، يعرف جيداً معنى ان ترى عربياً هُناك ويعرف ان هكذا مشهد ليس تقليدياً ابداً هُناك بل ويستحق «صورة» احياناً وكأنها مُحرمة على العربي والفلسطيني وحلال على الامريكي والألماني والياباني، إلا ايام العيد .. فلو زُرت «الكُورنيش» او «التاييلت» كما نقول بالعبريّة فلعلك لن ترى يهوداً بقدر ما سترى من العرب ولو زُرت حدائق «جَني يهوشع» فستجدنا هناك اكثر وأكثر، وبقدر ما ينزعج بعض “الصهاينة” من مشاهدنا، إلا ان هكذا مشاهد لا يُمكن إلا ان تذكرنا بأن البلاد بلادنا .. فحتى تل ابيب لنا !
مُشكلتنا أننا نستسلم احياناً، فنشعر احياناً وكأن تل ابيب فعلاً ليست لنا، فنكتفي بمشاهد الشواطئ والفنادق الفاخرة، ولربما ننبهر بها ونمتدحها ونقبل اننا غُرباء فيها ولا نعود نجرؤ على التفكير بالبحث عن ذواتنا فيها، وفي تل ابيب الامور مُعقدة أكثر من أي مكان آخر، فالمدينة لا تشبه نفسها اصلاً، فكيف لها ان تشبه فلسطينياً يبحث عن ذاته فيها؟
يكفيك ان تبتعد قليلاً عن اجتماعنا عند روائح الشواء الزكيّة عند “بارك جني يهوشع” والبحث عن بُقعة بديعة تُسمى “جريشة” وجريش هذه قرية من القرى الفلسطينية التي اقيمت على انقاضها تل ابيب بعد تهجير سكانها، وبقدر ما هي قريبة من اكثر اماكن الشواء المُفضلة لدينا، إلا ان أغلبيتنا لم يسمعوا عنها ولم يعرفوا مع انها جميلة وبديعة، وسُميت جريشة لأنها كانت تحتوي على طواحين يُجرش فيها القمح من خلال الطاقة المائية من نهر العوجا، هُناك في “جريش” يُمكنك ان تجد نفسك في تل ابيب بشكل اسهل، لو تأملت الحجارة وحاولت ان تصغي للحجارة وهي تتكلم “العربية” مثلك تماماً!
عند “التاييلت” تجدنا نمشي ونمشي ولا نمل إلا قبل مقبرة “عبدالنبي” بقليل، كأن شيء ما لا يُريدنا ان نراها مثلما نرى فندق الهيلتون الفخم، مع أننا لو صعدنا عند الفندق قليلاً، فسنجد مقاماً لولي من اولياء الله بين الفنادق وامام المقام مقبرة قديمة لأهل يافا وقراها، المقبرة صغيرة جداً ومُهملة نوعاً ما وبعض القبور وضعها صعب جداً اما المقام فقد أصبح مقراً لبعض المشردين ومع ذلك فالإهمال كفيل بأن يُذكرنا بإهمالنا لأنفسنا وكم نحن جهلة بحق أقرب الاماكن إلينا، فنحن بالكاد نعرف ان تل ابيب ليست “تل الربيع” فكيف لنا ان نعرف ان لنا فيها شيئا؟
بين مشارف يافا ونهايات تل ابيب هناك “مسجد حسن بيك” وهو مسجد “مُعجزة” لأن الحي الذي يقع فيه المسجد وهو حي المنشية دُمر بالكامل ولم يبق منه شيء إلا المسجد، فقد بقي رغم كُل المحاولات لهدمه وحرقه والتي كانت آخرها قبل سنوات قليلة فقط إلا انك لو دخلته ستجد حديقة صغيرة جميلة تشرح النفس عند المدخل وفي الساحة يكفيك تأمل جمال البناء العثمانية ورقيّه او لربما رُحت تُحاول تقرأ قصيدة شعرية بديعة نُقشت عند الابواب .. هذه كلها تجعلك تعيش زخماً حضارياً لن تجده في تل ابيب!
قبل سنوات قليلة كانت هناك “فتحة مجاري” تستوقفني وتستهويني كلما زُرت مسجد حسن بك، كانت تلك أخطر فترة مجاري أراها في حياتي، وبالطبع لا اقصد الفتحة ذاتها ولكن المنقوش عليها، كان عليها نقش لشركة السكب الفلسطينية وهي شركة متخصصة في مجال تصنيع اجزاء الماتورات والادوات الميكانيكية الأخرى كانت قبل 1948، هكذا فتحة مجاري وحدها تُجسد حكاية القضاء على المدن الفلسطينية والشركات والصناعات الفلسطينية والتي صوّرها المخرج رامز قزموز بشكل ذكي في فيلم “اغتيال المدينة” وفي اقل من 50 دقيقة!
هذه “الفتحة” لم تعد موجودة الان امام المسجد، ولكنني وجدت شبيهة لها في سوق الخردة في يافا في محل لتاجر يهودي اطلق على محلّه اسم:”فلسطين” ويبيع فتحة المجاري الفلسطينية بحوالي 400 دولار فقط!