تقرير بريطاني ينتقد مشاركة بريطانيا بقيادة رئيس وزرائها الأسبق “توني بلير” في غزو العراق بجوار الولايات المتحدة الأمريكية، ويعزي الأمر إلى الانسياق وراء رغبة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في إشعال الحرب دون وجود أي دواعي حقيقة لها.
هذا التقرير المكون من 2,6 مليون كلمة الذي أعده الموظف الحكومي المتقاعد جون شيلكوت كشف بوضوح عن دور بريطانيا التابع حد الانسياق الأعمى خلف تطلعات الولايات المتحدة دون أدنى مراعاة لمصالح بريطانيا في الحرب على أقل تقدير ناهيك عن الجانب الإنساني في الحرب هذه التي أودت بمئات الآلاف من العراقيين منذ الغزو في العام 2003 وحتى الآن.
يتوقع أن يحد هذا التقرير من تدخل بريطانيا في الشؤون العالمية بشكل ملحوظ، وهو ما فسره البعض في المشهد السوري الذي شهد تململًا بريطانيًا كبيرًا قبيل صدور التقرير المعني بالتحقيق في قضية الحرب على العراق، وهو ما يشي بوضوح أن ثمة هناك رأي عام داخل الإدارة البريطاني وفي المجال العام لا يثق في التقديرات السياسية والعسكرية الرسمية التي تقرر التدخل في الشؤون الخارجية بقرارات مؤثرة، وقد تأكد هذا الأمر بعد صدور تقرير تشيلكوت.
فالتقرير الذي حوى ضمنًا على معلومات تشير إلى كذب توني بليرهو وجورج بوش على المجتمع الدولي بأسره لتبرير تدمير العراق، بحجة أن به أسلحة نووية وكيماوية، لا يمكن أن يكون في صالح قضية كالقضية السورية التي ربما يرى مراقبون أنها تحتاج إلى تدخل خارجي عاجل لانقاذ الشعب السوري، ولكن مع التجربة السابقة لحرب العراق التي لم يكن هناك أي مقارنة بين أسبابها وبين ما يحدث في سوريا الآن ما سيجعل الأمر شبه مستحيل لتجربته مرة أخرى.
توني بلير: “أنا آسف”
يعتذر توني بلير في مؤتمر صحفي مؤكدًا حُسن نواياه بحسب وصفه في اتخاذ القرار الأكثر صعوبة في ولايته، وأضاف “أنا أتحمل كامل المسؤولية وأعبر عن ألمي وأسفي وأقدم اعتذاراتي”.
لكن بلير يُصر على انكار أهم أجزاء التقرير التي تتحدث عن الصفقات السرية للحرب والمعلومات المضللة، حيث أوضح في مؤتمره الصحفي بكلمات مقتضبة تقول: ” لم تكن هناك أكاذيب، لم يتم تضليل الحكومة والبرلمان ولم يكن هناك التزام سري بالحرب”.
لكن في الحقيقة ما قدمه بلير من اعتذارات ونفي لا تغني ولا تسمن من جوع، حيث لم يرد بلير على ما ورد في التقرير بحائق تدحض فكرة أن السياسة البريطانية حيال العراق تقررت على أساس المعلومات الاستخباراتية والتقييمات الخاطئة، وهو أمر لم يتم التشكيك فيها، كما كان ينبغي، في ظل قضية حساسة كهذه.
ويبدو أن بلير لم يكن راغبًا من خلال التقرير في طرح مزيد من الاسئلة على أجهزة استخباراته التي ربما أعطت أذنها لنظيرتها الأمريكية، فلم يسأل بلير ما مدى خطورة التهديد الذي تمثله أسلحة العراق الكيميائية والنووية المدعاه؟، أو بشكل أوضح لماذا اعتبر بلير هذه المعلومات فوق مستوى الشبهات؟
التقرير يجيب على بعض سياقات هذه الأسئلة المنعدمة التي أدت إلى مقتل أكثر من مليون عراقي، وبدونها أثارت الحرب نزاعات في الشرق الأوسط لا تزال تعاني من آثارها حتى اللحظة.
إذ أوضح التقرير أنه “في ظل عدم وجود غالبية تدعم العمل العسكري، نعتبر أن المملكة المتحدة عملت، في الواقع، على تقويض صلاحيات مجلس الأمن”.
وأضاف التقرير: “استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية لنزع أسلحة البلاد. العمل العسكري لم يكن حتميا آنذاك”.
توني بلير لجورج بوش: “سأقف إلى جانبك مهما حدث”
كتب توني بلير “سأقف إلى جانبك مهما حدث”، وذلك في مذكرة أرسلها إلى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في الـ 28من يوليو 2002، قبل أشهر من الحرب في مارس 2003، لذا لم يكن بلير بحاجة إلى التثبت أو التأني، وهو ما يبرر موافقة بلير على خطة الحرب الأمريكية دون أي نقاش.
حيث أوضح التقرير أن بلير “لم يمارس ضغوطًا على الرئيس الأمريكي بوش للحصول على ضمانات مؤكدة حول خطط الولايات المتحدة، كما أنه لم يطلب المشورة حول ما إذا كان عدم وجود خطة تثير الارتياح سيسمح للمملكة المتحدة بإعادة تقييم التزاماتها في خطط كهذه للمشاركة في عمل عسكري”.
كل هذه كانت نقاشات حول التقرير لما جرى في الماضي، ويثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه كانت هناك فرص حقيقية لتجنب ما حدث وتبعاته التي أثارت الفوضى في الإقليم الشرق أوسطي حتى وصلت إلى حدود أوروبا.
“ابني مات من أجل لا شيء”
يمكن أن نعتبر هذه العبارة التي قالتها بعض أسر الجنود البريطانيين القتلى في الحرب بعد سماعهم بالتقرير اختصارًا للتقييم الموضوعي لما حدث، وعليه تجمع أنصار لائتلافي “أوقفوا الحرب” و”نزع السلاح النووي” في العاصمة البريطانية لندن للمطالبة بمحاسبة رئيس الوزراء الأسبق توني بلير عقب صدور تقرير تشيلكوت حول غزو العراق، بينما أكدت عائلات الذين قتلوا بالعراق على حقها في الملاحقة القضائية للأطراف المشاركة في الحرب.
الاعتذارات ملطخة بالدماء في الشرق الأوسط
لا يمكن أن نغفل دور حرب العراق فيما يحدث الآن في الشرق الأوسط، فمسؤولية بلير لن تقف عن حد مقتل قرابة المليون عراقي وإصابة مئات الآلاف، بل تتحمل الحرب ومشعلوها النزاع الطائفي المستعر في العراق الدولة التي صارت “فاشلة” عقب الغزو، وكذلك يجب أن يتحملوا تسليم بغداد إلى طهران بكل سهولة لم يتخيلها الإيرانيون أنفسهم.
هذا الحديث يمكن التدليل عليه من التقرير البريطاني نفسه الذي اعتبر أنه رغم التحذيرات الواضحة، تم التقليل من العواقب المترتبة على الاجتياح. فالتخطيط والإعداد لعراق بعد صدام كان غير ملائم تمامًا، بحسب التقرير.
واعتبر التقرير أن بلير لم يكن متأكدًا من وجود خطة مرنة وواقعية متكاملة من حيث المساهمات العسكرية والمدنية للمملكة المتحدة لمعالجة المخاطر المعروفة للغزو، وتابع التقرير: “ما تزال آثار الفشل في التخطيط والتحضير لما بعد الاجتياح ماثلة”، كما اعتبر أن “استعدادات الحكومة فشلت في أن تأخذ في الحسبان حجم مهمة تحقيق الاستقرار وإدارة العراق وإعادة إعماره”.
فلا يمكن إغفال الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عند الحديث عن ظاهرة “داعش” التي ولدت من رحم هذا الاجتياح، ونمت وترعرعت في كنفه، حتى آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، أي أن مشكلة الإقليم ليست مشكلة شرق أوسطية فقط، بل كانت بذورها غربية، وإلى اللحظة لا تريد هذه القوى المتسببة في هذه الفوضى أن تتحمل مسؤولياتها كاملة في مواجهاتها بل تفضل الاعتماد على وكالات الاستبداد العربية لضمانة عدم التورط في حروب حقيقية هذه المرة وليست بذرائع واهية كما أثبت تقرير تشليكوت حول غزو العراق.