منذ إعدام عدنان مندريس في الخمسينات، وحتى السنوات القليلة الماضية، لم يحدث أن دخلت الجماعات الإسلامية، في تركيا، في صراع مع الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك حكومات العسكر، بل إن جماعة فتح الله كولن سبق أن دعمت رسميا رئيس الوزراء التركي السابق بولنت أجاويد ذو التوجه اليساري والمعروف بعدائه للحجاب وللمظاهر الإسلامية.
وعلى خلاف تاريخها، دخلت جماعة فتح الله كولن، المسماة ب”الخدمة”، في السنوات الأخيرة، في خلاف متصاعد مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وذلك لأسباب عديدة أهمها شخص رئيس جهاز الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، أقرب رجال الدولة إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، والذي وقف حائلا في وجه محاولات الجماعة للتغلغل داخل جهاز الاستخبارات، وتسبب، برفقة أردوغان، في إحداث أزمات دبلوماسية مع إسرائيل أثرت سلبا على المصالح الاقتصادية للجماعة.
وعلى الرغم من توقع البعض بأن الخلاف يتجه إلى الهدوء، وبأن حديث أردوغان عن غلق مراكز التدريس الخاصة بالجماعة كان “شدة أذن” لا غير، وعلى خلاف ما بدا من تصريحات فتح الله كولن الأخيرة، وجهت الجماعة ضربات موجعة لأردوغان وحزبه وحكومته، مؤكدة بذلك توقعات آخرين قالوا بأن الجماعة تسعى للإطاحة بأردوغان في الانتخابات القادمة، وربما للتحالف مع حزب الشعب الجمهوري، العدو التقليدي للإسلاميين.
قضية الفساد المالي:
لا يمكن لأحد أن يدعي بأنه كان يتوقع ما حدث فجر يوم أمس الثلاثاء، حيث قام جهاز الجريمة المالية باعتقال العشرات من رجال الأعمال المحسوبين على حزب العدالة والتنمية، من بينهم ابن وزير الداخلية وأبناء وزيرين آخرين، وكذلك رئيس بلدية مدينة الفاتح، مصطفى ديمير، وهو من أوائل مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وذلك للتحقيق معهم في تهم فساد مالي وتلقي مبالغ مالية ضخمة في شكل رشوة.
وحسب التصريحات الرسمية لمكتب المدعي العام المشرف على هذه القضية، فإن الأبحاث انطلقت منذ سنة عبر مراقبة اتصالات وتحركات المتهمين، وإن كان من الصعب الجزم بدوافع كشف المدعي العام لهذه القضية في هذا التوقيت الحساس، أو الجزم بصحة أقوال من ادعوا بأن هذا المدعي العام على علاقة بجماعة كولن، فإن كشف هذه القضية في هذا التوقيت يشكل ضربة موجعة للحكومة، وإحراجا حقيقيا لأردوغان وحزبه في وجه خصومه من الجماعة أو من الأحزاب الأخرى.
وإن لم تتم إلى الآن إدانة أحد من الموقوفين، فإنه في حالة إدانة أحد أبناء الوزراء، فسيمثل ذلك ضربة قوية للحكومة التركية، حيث سيجد أردوغان نفسه أمام ضرورة إحداث تحوير وزاري كبير، ولكن المرجح -حسب طبيعة القضاء التركي- هو أن تستمر الأبحاث والقضية لسنوات، مما يعني أن هذه القضية ستستخدم طيلة الفترة القادمة لمهاجمة الحزب، خاصة خلال الانتخابات القادمة، البلدية والتشريعية والرئاسية.
وفي أول تعليق له على حملة الاعتقالات، قال أردوغان: “لن أقول شيئاً قبل أن يقول القضاء كلمته”، واكتفى بتعليق عام: “أولئك الذين يستندون إلى دوائر الظلام والعصابات، لن يرسموا لتركيا مسارها.. من يعتمدون على قوة رأس المال والإعلام لن يحددوا لتركيا مسارها.. لن ننحني أمام أي تهديد، فليستخدموا الألعاب القذرة وليدخلوا في تحالفات قذرة قدر ما يشاؤون”، ليختم كلامه قائلا: “إن كان لدى البعض مدافع وبنادق، وحيل ورصاص، وأي شيء آخر، فنحن لنا الله، وهو حسبنا”.
الاستقالات:
التمثيل السياسي للجماعة كان محدودا دائما، وذلك لتوجهها العام الذي كانت تسعى من خلاله إلى الوصول إلى مناصب مفصلية في الدولة عوضا عن استلام مناصب سياسية، وحسب سياسيين أتراك، لا يتجاوز عدد المنتمين إلى الجماعة من إجمالي الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية العشرين فردا، لا يمكن ضمان ولائهم للجماعة في وجه الحزب، ورغم ذلك، تعتبر ورقة الاستقالات من أخطر الأوراق التي ستلعبها الجماعة، وذلك باعتمادها على الحملات الإعلامية الضخمة التي ستديرها الجماعة، عبر وسائلها الإعلامية الكثيرة، عقب كل استقالة.
وفي اليومين الأخيرين كان أول مثال للأسلوب الذي ستوظف من خلاله الجماعة ورقة الاستقالات، فباستقالة نائبين من أصل 325 نائبا لحزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي، أقامت وسائل الإعلام التابعة للجماعة والمتحالفة معها زوبعة إعلامية، وذهب إعلاميون مقربون من الجماعة إلى الحديث عن عشرات الاستقالات التي ستحدث في حال استمرار الخلاف بين أردوغان والجماعة.
بوادر صفقة بين حزب الشعب الجمهوري والجماعة:
في البداية كان من المتوقع أن يكتفي حزب الشعب الجمهوري بمشاهدة الصراع بين الجماعة وأردوغان بوصفهما يمثلان معا أكبر خصم سياسي وآيديوليجي له، غير أن الزيارة الأخيرة لرئيس حزب الشعب كيليشار أوغلو للولايات المتحدة، ولقاءاته مع شخصيات نافذة في الجماعة في أمريكا، كشفت اللثام عن جهد أمريكي يهدف إلى الإطاحة برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان.
وفي تركيا تقليد سياسي يقول بأن الطريق إلى رئاسة الوزراء تبدأ من رئاسة بلدية اسطنبول، وللمنافسة على هذا المنصب تقدم حزب الشعب الجمهوري بمشرحه الأكثر شعبية “ساري غول” والذي يقال بأن اتفاقا وقع بين الجماعة وحزب الشعب لدعمه في الوصول إلى رئاسة البلدية في مقابل دعم الحزب وشركائه للجماعة في صراعها ضد أردوغان، ليكون تحالفا بين جماعة “إسلامية” وحزب علماني برعاية أمريكية.
الغريب في الأمر، هو سرعة تأقلم خطاب حزب الشعب مع ضرورة التقارب مع الجماعة، فالحزب العلماني المعروف بعدائه الشديد للإسلاميين ولأي مظهر من مظاهر الإسلام، وفي أحد مهرجاناته الشعبية الأخيرة، هاجم بقوة قرار الحكومة القاضي بغلق مراكز التدريس الخاصة بالجماعة، وتحدث ساري غول طويلا عن أهمية هذه المراكز وعن “دورها في الحفاظ على المعتقدات الدينية واحترامها”.
وأما بالنسبة لحظوظ فوز ساري غول في الانتخابات البلدية القادمة، فيشير محللون إلى استباق حزب العدالة والتنمية للتحالف الجديد بين الجماعة وحزب الشعب الجمهوري، بالدفع برئيس البلدية الحالي، قادر توباش، والذي يحظى بشعبية كبيرة في اسطنبول تؤكد الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية بأنها تفوق شعبية ساري غول بكثير، مع العلم بأن اختيار قادر توباش أثار حالة تململ داخل حزب العدالة والتنمية في بادئ الأمر، حيث كان من المفترض تقديم مرشح جديد أكثر شبابا، غير أنه بات مبعث ارتياح بعد تبين قوة التحالفات التي تشكلت خلف مرشح المعارضة والجماعة ساري غول.
كتل انتخابية جديدة:
يوما بعد يوم يتبين أن حزب العدالة والتنمية كان يعد منذ سنوات لهذه المواجهة، وكان في السنتين الأخيرتين يبحث عن كتل انتخابية جديدة تكون بديلا للأصوات التي سيخسرها الحزب بسبب صراعه مع الجماعة ورفضه الخضوع لمطالبها، والتي تتراوح –أي القوة الانتخابية للجماعة- ما بين 3 بالمائة من إجمالي الناخبين حسب إحصاءات الحزب و7 بالمائة حسب إحصاءات الجماعة.
وفي السنة الأخيرة دفع أردوغان بقوة نحو الوصول إلى اتفاقية السلام، أو مشروع السلام الداخلي، والذي أنهى من خلاله صراعا مسلحا دام حوالي ربع قرن مع تنظيم حزب العمال الكردستاني المسلح، وألحقه بحزمة الإصلاحات الديمقراطية والتي استهدفت بشكل أساسي المواطنين الأتراك من أصول كردية، لتبلغ شعبية أردوغان ذروتها لدى أكراد تركيا والذين يقدر عددهم بما لا يقل عن 18 مليون نسمة مرتكزين بشكل أساسي في محافظات الجنوب الشرقي بالإضافة إلى تواجد كثيف في محافظة اسطنبول.
كذلك استهدف أردوغان بإصلاحاته الأخيرة أقليات عرقية أخرى في تركيا، مثل الأرمن والغجر والآشوريين والعرب والأذربيجانيين، والذين عانوا منذ تأسيس الدولة التركية من محاولات حكام تركيا القوميين الراديكاليين لطمس كل الهويات والثقافات واللغات غير التركية، لتكون حكومة أردوغان أول حكومة تفتتح معهدا خاصا للدراسات الثقافية للمواطنين الأتراك من أصول غجرية، وأول حكومة تسمح رسميا باستخدام الأسماء غير التركية في المؤسسات الحكومية وفي تسميات الشوارع، بالإضافة إلى استخدام كل اللغات في الحملات الانتخابية.