لم تكن عاصفة “البريكسيت” (Brexit) لتمر دون أن تتلقف أولى تداعياتها التي كانت بوقع الزلزال العديد من العواصم العالمية، ولعل من أبرز الدول التي تبدو مبدئيا المستفيدة من حالة التخبط والارتباك البادية على مستوى الاتحاد الأوروبي، هي تركيا وروسيا.
فروسيا التي فرضت عليها عقوبات اقتصادية قاسية من قبل الاتحاد الأوروبي على خلفية دورها في الأزمة الأوكرانية وضمها لشبه جزيرة القرم بالإضافة إلى أجزاء هامة من المناطق الشرقية المتاخمة لحدودها ك “الدونباس”، أما تركيا فعلى الرغم من تصنيفها نظريا كحليف قديم واستراتيجي ضمن الناتو واعتبارها كشريك استراتيجي ، إلا أن الاتحاد ما فتأ يتلكأ ويماطل في قبول عضويتها ضمن أعضاءه بحجج و ذرائع مختلفة عبر مسار تفاوضي ماراثوني وشاق، غير أن المعطى الثقافي و الهوياتي يعتبر عاملا رئيسيا في هذا الرفض بحسب المنظور التركي، كما لم تتوانى العديد من الدول الأوربية في توجيه الصفعات المتتالية لتركيا، وكان آخرها تبني برلمان ألمانيا (الحليف التاريخي) لقانون يدين “مذابح الأرمن” في بداية القرن الماضي، فضلا عن عدم وفاء دول الاتحاد بالتزاماتها بخصوص اتفاق تأشيرات دخول الأتراك لأراضي الاتحاد بحسب اتهامات الرئيس أردوغان، ورفض إقامة مناطق عازلة على الأراضي السورية المتاخمة لتلافي أزمة النازحين، أما الولايات المتحدة قائدة حلف الناتو فلم تتوانى في دعم قوات سوريا الديمقراطية و حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تعتبره تركيا الجناح السوري لتنظيم (PKK) والعمل على تأسيس كيان كردي مستقل على ثخومها الجنوبية.
كل هذه العوامل بالإضافة إلى العامل الاقتصادي والجيو-سياسي، فضلا عن إشكالية الثقة المهتزة في الحلفاء الغربيين ومدى التزامهم باحترام مصالح تركيا الاستراتيجية، قد ساهمت جميعها على ما يبدو في ضرورة البحث وبشكل سريع عن تسوية سياسية مع روسيا تنهي حالة الفتور في العلاقات بينهما، والتي نجمت عن حادث إسقاط طائرة “السوخوي” الروسية في 25 نونبر/ تشرين الثاني 2015 على الحدود مع سوريا، فجاء الاعتذار المنتظر روسيًّا من قبل أردوغان، وتم قبوله على الفور من قبل الكرملين فبدت معه مسألة التعويضات هامشية مقارنة مع حجم المصالح المتبادلة، بل وتم إعطاء الأمر فورا ببدأ تطبيع العلاقات مع تركيا و إنهاء حالة المقاطعة الاقتصادية التي كبدت الجانبين خسائر اقتصادية فادحة.
من الواضح أن الأمور بين البلدين لن تقف عند هذا الحد، بل إن المصالح المشتركة والمنطق البراغماتي قد يجعلها تتطور لتشمل تطوير حدود العلاقات بينهما وتوسيع نطاقها، فالتعاون مع تركيا يشكل التفافا حقيقيا على العقوبات الاقتصادية الأوروبية المفروضة على روسيا، كما يشكل في ذات الوقت فرصة لتحييد التهديد الروسي وفك حالة الحصار الذي باتت تشهده على مستوى محيطها على الأقل، إن لم تتطور الأمور إلى حد التحالف في وقت لاحق، كما أن روسيا قد تسعى إلى تخفيف التوتر و تحييد التهديد التركي الذي يعتبر كثاني قوة عسكرية ضمن حلف الناتو وبوابته الجنوبية-الشرقية والتفرغ لمواجهة توسع الناتو شرقا و الحؤول دون أن يضم الجارة فلندا، كما يعتبر ذلك بمثابة فرصة كبيرة للتعاون في إيجاد حل سياسي ينهي الأزمة السورية ويحول دون انغماس روسيا في وحلها وعدم تكرار السيناريو السوفييتي في أفغانستان خصوصا و أن الأزمة آخذة في المزيد من التعقيد.
فالدولتان الكبيرتان قد خبرتا بما يكفي ومن خلال رصيد تاريخي هائل من العلاقات المعقدة بين البلدين والتي وصلت إلى حد شن سلسلة من الحروب الطاحنة بينهما على مدار القرون الأربعة الأخيرة، حيث كانت آخرها الحرب العالمية الأولى(1914-1918) التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريتين معاً (العثمانية و الروسية القيصرية)، ومن خلال محددات جغرافية وجيو-استراتيجية تحكم العلاقات بينهما كالملاحة التجارية والوجود العسكري في البحر الأسود و عقدة المياه الدافئة الروسية (القديمة الجديدة) أو الملاحة عبر المضايق “كالدردنيل” و” البوسفور” وممرات الطاقة الأوراسية أو الصراعات الإقليمية الجيوسياسية ك “ناغورني كاراباخ” أو الصراع السوري ، أو المحدد الديمغرافي والثقافي كوجود امتداد ثقافي تركي في العديد من الجمهوريات التي تدور في فلك الاتحاد الروسي كتتار القرم و القوقاز وباقي الدول الناطقة بالتركية، ومحاربة الإرهاب وغيرها من العوامل التي تحكم العلاقات بينهما، فالدولتان إذن قد خبرتا جيدا أن حالة الصدام و التحدي المتبادل لا تفيد كثيرا البلدين بل تكون نتائجها كارثية على الطرفين، كما أن قوى دولية أخرى تكون في الغالب المستفيد الأكبر من حالة إضعاف ومواجهة الطرفين لبعضهما.
على الرغم من أن الوقت لا زال مبكرا للتكهن بمستقبل وطبيعة العلاقات بين روسيا وتركيا في سياق التطورات الأخيرة التي أعقبت الاعتذار التركي لأهالي الطيار الروسي، إلا أن بوادر انفراج في العلاقات بينهما قد باتت بادية في الأفق، خصوصا في ظل نضوج أسبابها وفي ظل الواقع الدولي الحالي ومنه الأوروبي، و في ظل القناعات التي باتت تراود الكثيرين حول سلبية الولايات المتحدة سواء في التعاطي مع الكثير من النزاعات الدولية ومنها النزاع السوري والأوكراني والليبي وغيرها، أو من ناحية التعاطي مع مصالح شركاءها و حلفاءها “الاستراتيجيين” ومنهم تركيا، الشيء الذي يمكن أن يصح معه وصفها بالحليف الغير موثوق به، وخصوصا إذا ما تم تقديم ضمانات متبادلة لتلافي أي صدام أو احتكاك مستقبلي بين البلدين وعدم تكرار سيناريو حادث أسقاط طائرة “سوخوي” وما أعقبه من تداعيات.