لم يطردوا يومًا من الجزائر، بل فضلوا هم الرحيل، إنهم أصحاب “الأقدام السوداء” الذين يدعون اليوم ملكيتهم في أراضٍ ومساكن جزائرية، تركوها بعد استقلال البلاد في بداية الستينات، على الرغم من أن جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1954 ـ 1962)، كررت نداءتها لهم وقتها، مشيرة إلى أن الحاجة ستكون ماسة “إلى كافة أبناء الجزائر مهما اختلفت أصولهم ودياناتهم لإعادة الإعمار”، وأن الدولة المستقلة ستضمن بواقعية وعدالة مستقبلهم في كنفها، لكنهم فضلوا الرحيل، بل إن بعض التنظيمات الإرهابية التابعة لبعض المدنيين الأوروبيين مثل “اليد الحمراء” و”منظمة الجيش السري OAS” قامت يوم وقف إطلاق النار في مارس 1962 بسلسة من الجرائم البشعة في حق المدنيين العرب، وتضاعفت وتيرة القتل والحرق المتعمد للمؤسسات، بينها مكتبة جامعة الجزائر.
اتفاقية إيفيان
نصت اتفاقيات إيفيان لإنهاء الاحتلال الفرنسي الموقعة بين الحكومة المؤقتة الجزائرية، والحكومة الفرنسية في 18 مارس 1962، على أنه للفرنسيين والأوروبيين بصفة عامة الاختيار في غضون ثلاث سنوات بين نيل الجنسية الجزائرية أو الاحتفاظ بجنسيتهم الفرنسية واعتبارهم أجانب، وكان قادة جبهة التحرير الجزائرية يرفضون الجنسية المزدوجة للمستوطنين، وبموجب تلك الاتفاقية أنفقت الجزائر حوالي 35 مليار يورو، لتعويض الأقدام السوداء عن ممتلكاتهم في الجزائر بعد الاستقلال، إلا أن هؤلاء مازالوا يطالبون بممتلكات في سياق آخر.
محاولات الالتفاف الفرنسية
وتستغل فرنسا كل حدث أو مناسبة تاريخية، لإثارة هذا الملف في منظمة الأمم المتحدة للضغط على الحكومة الجزائرية، وردت الهيئة الدولية بلائحة تؤكد أن الجزائر سيدة على جميع ما يوجد في أراضيها، وباتت القضية للمساومة تارة من خلال تصويرهم على أنهم ضحايا عنف الثوار الجزائريين، وللابتزاز تارة أخرى عبر مطالبتهم بممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر بعد استقلال البلاد، وانتقل الضغط إلى صفحات الكتب والجرائد، حيث وصف كتاب “65 شخصية تشهد” الصادر عن دار “هيغو وشركائه” بالعاصمة الفرنسية باريس، الجزائر بأنها الأرض الأصلية للأقدام السوداء، والتي انتزعت منهم بالقوة، ما جعل الملف يفسد العلاقة بين البلدين في عديد المرات.
وأعطى خطاب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأخير بصيصًا من الأمل لمئات العائلات الجزائرية التي رفعت ضدها قضايا من قبل فرنسيين لاسترجاع ممتلكات كانت لهم قبل استقلال الجزائر في 5 يوليو 1962، وسط دعوات لطرد الجزائريين منها ، وأجاز القانون الجديد بقائهم فيها.
من هم ومن أين أتوا؟
ذوو “الأقدام السوداء” هم أوروبيو الجزائر قبل الاستقلال، والذين تم استقدامهم منذ 1830 للسكن في الجزائر، ليصبحوا مع مرور الوقت من الأهل بعد توالدهم وامتزاجهم مع بنية مجتمعهم الجديد، وبعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، اضطر هؤلاء للخروج من الجزائر، بعد انتصار جبهة التحرير واستقلال البلاد، التي لم تدع في الأساس لطردهم من البلاد.
يعود مصطلح “الأقدام السوداء” إلى الجنود الفرنسيين الذين دخلوا البلاد أول مرة، مرتدين أحذية طويلة سوداء، بينما تقول روايات تاريخية أخرى إن أصل المسمى هو المزارعون المستوطنون، الذين كانوا يسحقون العنب بأقدام حافية لاستخراج العصير والخمور، وجميعهم من أصول فرنسية أو إيطالية أو إسبانية أو مالطية، وحتى من يهود أوروبا الشرقية، على الرغم من أن 80% من الأوروبيين القاطنين في “الجزائر المحتلة” آنذاك بحسب إحصاء عام 1948 ولدوا فيها لأجيال متتالية، ونسبة 11% منهم فقط أوروبيون ولدوا في فرنسا، أما النسبة المتبقية فهي لأوروبيين إسبان وإيطاليين وآخرين من دول أوروبية كسويسرا وألمانيا، ويبلغ عددهم في فرنسا الآن ما يقارب المليون نسمة، نصفهم تقريبًا يعيش في المقاطعات الفرنسية الجنوبية على شواطئ المتوسط، النقطة الأقرب إلى المكان الذي يعتبرونه موطنهم الأصلي، ويشكلون قوة ضغط لا يُستهان بها في فرنسا، وهم متغلغلون في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية والفنية، ونجحوا في تحقيق لعبة الجذب السياسي ومقايضة أصواتهم الانتخابية كلما حلت مناسبة سياسية، للضغط على الحكومة الفرنسية لمخاطبة نظيرتها الجزائرية بما يعتبرونه “إرثهم التاريخي”.
واليوم عاد أصحاب الأقدام السوداء من جديد لرفع مئات القضايا أمام المحاكم الجزائرية، للمطالبة بطرد عائلات جزائرية من منازلها، وتسليم هذه البيوت للفرنسيين، لكن رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة احتفال الجزائر بالذكرى الـ 54 للاستقلال، التي أكد فيها أن ملف ممتلكات الأقدام السوداء قد فصل فيه منذ سنوات، وأحبطت تلك المحاولات ، مشيرًا إلى أن الجزائر اتخذت إجراءات مشروعة، لاسترجاع الممتلكات الفردية والجماعية التي أصبحت شاغرة غداة الاستقلال ضمن ملكية الدولة، وذلك إجراء جاء في سياق ما فعله المستعمر الغاشم في الأربعينات من القرن الماضي بممتلكات أبناء بلادنا، وهو إجراء أصبح كذلك جزءًا لا رجعة فيه من تشريع دولتنا المعاصرة…” بحسب رسالته.
تواطؤ وأزمات
المثير في الأمر أن تواطؤ بعض الإدارات الجزائرية يؤزم الموقف، حيث تسمح تلك الإدارات بنقل ملكية بعض العقارات إلى “الأقدام السوداء”، كما أن بعض القضاة يحكمون لصالح الفرنسيين ويتسببون في طرد عائلات جزائرية من منازلها، في تجاهل واضح لاتفاقية “إيفيان” التي أشرنا لها، والتي لم تنص على طرد الفرنسيين، بل إن مغادرتهم كانت بسبب تهديدات المنظمة السرية التي أسسها المستوطنون، والتي خيرتهم بين الموت أو العودة إلى فرنسا.
برؤية أكثر عمقًا فإن ما يثير الأزمة بين الحين والآخر على الرغم من بت الأمم المتحدة في الأمر ورفض المحكمة الأوروبية مئات القضايا التي تم تجديدها أمامها في العام 2014 لاسترجاع هذه الممتلكات، هو عدم تقييد هذه الممتلكات باسم مالكيها الجزائريين من بعض الإدارات في مختلف الولايات الجزائرية، رغم أن القانون كان يلزمهم بنقل الملكية، بعد ترك هذه المنازل من الفرنسيين عقب الاستقلال، وفقًا للاتفاقية ومدة الثلاث سنوات التي حددتها للعودة للجزائر، ويوجد بالعاصمة الجزائر وحدها نحو 6 آلاف منزل محل خلاف بسبب ممارسات المسؤولين الجزائريين التي منحت الفرنسيين حق الاعتقاد بأن لهم الأولوية في الجزائر على غيرهم من دول العالم.
حتى إن عدد الأسئلة المتعلقة بالجزائر التي وجهها برلمانيون فرنسيون إلى حكومة بلادهم قد وصل إلى أكثر من 150 سؤالاً بين شفوي وكتابي، في الفترة الممتدة من يوليو 2015 إلى مايو 2016، ومنها أسئلة تتعلق بمطالب جمعيات “الحركى” و”الأقدام السوداء”، التي تدعو الحكومة الفرنسية إلى التدخل لتعويضها عما تسميه طرد هذه الفئات من قبل السلطات الجزائرية بعد الاستقلال، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لإبداء تعاطفه مع هذه المطالب، بل إنه اصطحب في زيارته الأخيرة للجزائر عددًا منهم، كنوع من الاستفزاز للحكومة الجزائرية، وسمحت الحكومة الجزائرية لورثة المستوطنين الجزائرين بالاحتفال بالمناسبة كل عام في الأول من نوفمبر، بزيارة مقابر أجدادهم المدفونين في الجزائر، والوقوف على وضعيتها، وهو التاريخ الذي يوافق ذكرى الثورة الجزائرية التي أدى نجاحها إلى خروجهم من البلاد.