لاتزال علاقتي بالتلفزيون محدودة، ملؤها الريبة والحذر، ولا أزال أنظر إلى المسلسل على أنه الشكل الإمبريالي للسينما، يحدث أحيانًا أن أتغاضى عن ذلك وأفتح الجهاز المخيف، أرضخ في غالب تلك الأحيان إلى تهافت الأصابع المشيرة إلى عمل دون سواه، وهو ما جرى لي مع المسلسل الرمضاني المصري “أفراح القبة” للمخرج محمد ياسين وكاتبة السيناريو نشوى زايد وعن عمل بنفس الاسم للروائي الكبير نجيب محفوظ.
ومن دون شك فنجيب محفوظ هو أكثر الأدباء حضورًا في الدراما التلفزيونية والسينما، وهو أيضًا أكثرهم تعرضًا لسوء الفهم أو تحريف المعنى، لكن “أفراح القبة” لا يتميز فقط في مضمونه أو طبيعة الأحداث فيه، لقد شد الانتباه منذ البداية عبر أصالة فضائه المسرحي (شكلاً ومضمونًا)، وجودة المنجَز على مستوى الإضاءة والديكور والأزياء، وجعل كل ذلك منه حدثًا استثنائيًا في رمضان لهذه السنة.
سنرى خلال هذه القراءة البسيطة علاقة سيناريو المسلسل بالنص الأصلي، كما سنحاول الكشف عن مواطن الجمال ومواطن الضعف فيه.
أسلوب القص
أكثر ما فاجأني في المسلسل هو حتمًا أسلوب القص الذي لم أقابل مثله في الدراما العربية، ونظرًا إلى طبيعة المُشاهد، فالمسلسلات العربية عمومًا تميل إلى تبسيط السرد، أو تجاهل أي عمل إضافي عليه، قصص تبدأ في الغالب دومًا بالبدايات وتنتهي بالنهايات، مع استعمال ومضات الذاكرة flashback كلما وجدت حاجة إلى ذلك، لكن أفراح القبة شيء مختلف.
ينبني السيناريو على شخصياته، فيتشكل أجزاءً متفرقةً كلٌ وفق إحدى تلك الشخصيات، فإذا بالحكاية تُصاغ بروايات/ وجهات نظر/ رؤى مختلفة، تُصلحُ كل روايةٍ ما سبقها، أو تصدقها بإعادة ذات الموقف الذي وصف سابقًا، من زاوية جديدة، وأحيانًا تفسر رواية (شخصية) ما، ما ذكر في رواية شخصية سابقة، نحن لا نتحدث عن ومضات استرجاعية هنا، لأن الفلاش باك يحدث دومًا مقارنة بزمن رئيسي.
لكن أفراح القبة لا يعلن عن هكذا زمنٍ، نحن أمام خطين زمنيين رئيسيين: زمن العرض المسرحي، وزمن الأحداث التي ألهمت الكاتب مسرحيته، قد يبدو لنا أن المخرج في مراوحته الذكية بين المشهد المسرحي وبين ما يقابل المشهد من ذكرى حدثت في الواقع، يحصر القصة حصرًا بين هذين الخطين الزمنيين، لكن الحقيقة أنه تجاوزهما باستهتار رائع، فامتدت الأحداث أحيانًا إلى ما بعد العرض، وقطعت ازدواجية الزمن.
وكان هذا الأسلوب السبب الأول الذي دفعني إلى قراءة الرواية القصيرة التي لم أكن أعرفها من قبل، إذ لم أرَ في كتابات نجيب محفوظ التي أعرفها (الثلاثية، الحرافيش، أولاد حارتنا، خان الخليلي، حكاية بلا بداية ولا نهاية، خمارة القط الأسود، اللص والكلاب، السمان والخريف، إلخ) أسلوبًا مشابهًا، وذهبت إلى أن الأسلوب كان اجتهادًا متفردًا لكاتبة السيناريو أو المخرج، لكنني كنت مخطئًا، لقد كتب نجيب محفوظ روايته بصيغة مشابهة تقريبًا، مع سرد الأحداث في أربع صيغ مختلفة: رواية طارق رمضان الممثل، رواية كرم يونس الملقن، رواية حليمة الكبش قاطعة التذاكر، وأخيرًا رواية عباس كرم يونس الكاتب، وفي كل مرة يمر القارئ بنفس الأحداث مع تفاصيل أكثر أو أقل أو بشكل مغاير، ما يترك للقارئ مهمة فرز حقيقة ما حدث من عدمه.
لكن المسلسل إذ أضاف إلى القصة شخصيات كثيرة (عائلة تحية، فتنة الخ)، فقد جعل من السرد بأسلوبه ذاك معقدا جدًا، وبحاجة إلى أدوات كثيرة لكي لا يسقط في الإبهام، لقد وفر السيناريو مساحة مغرية للتقنيين، ودفعهم إلى تحديات عديدة على مستوى التركيب (المونتاج) والإخراج، وهو ما وفق فيه فريق العمل بشكل لافت.
مشاهد جميلة من زوايا متعددة
لأن الرواية كانت متمحورة حول الشخصيات، فقد حاول المخرج ترجمة ذلك لا من خلال تعدد الرواة كما فعل نجيب محفوظ، وإنما من خلال إسقاط الضوء “المسرحي” على الشخصيات بشكل متداخل، والعودة بذاكرة كل منها إلى مختلف نقاط القصة التي ساهمت في صنعها، ومن أجل تحقيق ذلك، يضطر المخرج في الغالب إلى تصوير المشهد ذاته من زوايا نظر متعددة بحسب الشخصيات المشاركة، ثم يعمل المونتاج عمله ليصنع نسخًا مختلفة للمشهد نفسه بحسب ما رأته كل شخصية.
هكذا كان الحوار الحاد بين سنية وأختها قبل أن تعلن رغبتها في الزواج من أشرف غائبًا في النسخة الأولى (الحلقة السادسة) فرأينا فقط الأم بدرية تحاول اللحاق بسنية التي تختفي في الغرفة بينما تدخل تحية وتتعرض للضرب من أمها، ولم تظهر الصورة كاملة إلا في الحلقة السابعة عشر حينما رأينا ما حدث بين علية وأشرف.
هذا الأسلوب المعقد في القص يحتاج إلى رؤية إخراجية ماهرة تجيد التعامل مع فضاء التصوير إجادة تامة، كما يحتاج إلى براعة في تقطيع المشاهد وتركيبها بشكل يضمن سلاسة القصص الفرعية لكل شخصية، فالمشهد الذي ذكرته كمثال استعمل في سياق تتبع شخصية تحية منذ البداية، ثم أعيد استعماله في سياق رواية شخصية سنية، وأخيرًا في قصة أختهما علية، وفي كل مرة لم نكن نلحظ أن المشهد مقحم، بل كان دومًا متناسقًا مع المشاهد التي تسبقه أو تليه.
ربما من المحبط القول أن الدراما الأمريكية مثلاً قدمت شيئًا مماثلاً منذ عشر سنوات بالفعل، من خلال مسلسل Lost الشهير، لكنني أعتبر هذه المقارنة تحسب للعمل المصري، وتجعلني أعتبر المسلسل طفرة هامة في التلفزيون العربي.
مسلسل أساسه شخصياته
على عكس السائد والمألوف، تبدو الشخصية المحورية للعمل، عباس كرم يونس الكاتب المسرحي، ثانوية جدًا مقارنة ببقية الشخصيات، وذلك أن المسلسل لا يتمحور حول أحداثه بقدر ما يتمحور حول شخصياته، المسلسل لا يقص أحداثًا نتعرض خلالها ـ بالضرورة ـ إلى شخصيات تظهر وتختفي مع تقدمها (الأحداث)، وإنما يعرض شخصيات تقص ـ عَرضًا ـ أحداثا تمضي وتعود مع تعددها (الشخصيات).
تأخذ الأحداث إذًا موقعًا ثانويًا مقارنة بالشخصيات، وهي فكرة أساسية في العمل، ذلك أننا في النهاية، لا نعرف تمامًا ما حصل، من سرق في النهاية خزنة المسرح؟ وماذا حدث أساسًا في غرفة حليمة الكبش؟ هل قتل عباس كرم يونس فعلاً زوجته تحية؟ نحن لا نعرف قطعًا، لكننا نعرف ما تعرفه كل شخصية، نعرف الحقيقة بالنسبة لكل شخص من الفاعلين، ونعرف تأثير تلك الحقيقة التي يعرفها في الدفع أكثر بالأحداث.
إنها الفكرة الأساسية للعمل، وهي الفكرة التي تمهد أيضًا لفكرة نجيب محفوظ الرئيسية من وراء الرواية: فكل أبطال العمل هنا، يشيطنون الآخرين بسبب خطاياهم، ويجدون لأنفسهم الأعذار دومًا، الآخر هو الجحيم، لا من وجهة نظر وجودية وإنما من وجهة نظر أخلاقوية، عباس كرم محمود يكتب مسرحيته من أجل الانتقام من أصحاب الخطايا، من أجل الاحتفاء بنفسه الملائكية المثقفة المهذبة، ولكنه بانتقامه البشع، وبسوء ظنه بالآخرين وبأمه أساسًا، يقع هو الآخر في الخطيئة ويتنازل عن ملائكيته، بل ويعرف النجاح لأول مرة من خلال ذلك.
لقد كان تنوع شخصيات الرواية وثراؤها أهم ما في مضمون العمل، فكان لكل شخصية مأساتها المنفردة، وكان لكل شخصية عمقها الذي لم يترك الكثير للممثلين للعمل عليه، لذلك لا أتفق كثيرًا مع أولئك الذين عزوا نجاح المسلسل إلى عبقرية الممثلين، طبعًا لا شك في أن أسماءً مثل منى زكي وجمال سليمان وصابرين وإياد نصار أدت بجودة عالية، ولكن لم يكن ذلك ليحدث لولا الثراء الكبير لشخصيات الرواية أو المسرحية.
ورغم أن كثيرًا من شخصيات المسلسل لم تكن من خلق نجيب محفوظ، إلا أننا لا نلحظ فرقًا كبيرًا، بل إنني كنت أجزم قبل قراءة الرواية أنني سأعثر فيها على عائلة بدرية، فهي عناصر “محفوظية” بامتياز، يمكن أن تجد أمثالها في حارات رواياته الأخرى، وهو ما يدل على العمل الكبير الذي قامت به نشوى زايد رفقة المخرج محمد ياسين.
أضاف المسلسل إلى الرواية شخصيات كثيرة أهمها عائلة تحية: الأم والشقيقتان والأب وزوج الأخت، وجميعهم غارقون في القذارة حتى العذاب، وبينهما أسرار وخفايا تكشف عنها الأحداث مع كل ضوء جديد يسلط على أحدهم، كما اهتم المسلسل أكثر بشخصية مدير المسرح سرحان الهلالي (جمال سليمان) وعاد إلى ماضيه وأصول علاقته بطارق رمضان، وأضاف قصة “فتنة” نجمة المسرح السابقة لدرية، بل ومديرته السابقة، ومثل هذان (عائلة تحية وفتنة) قسمين مهمين من المسلسل لم يظهرا في الرواية الأصلين، وبقدرما برع أصحاب العمل في إدماج قصة عائلة تحية في أحداث المسلسل، وإيجاد تشابكات مع بقية الشخصيات (علاقة علية بالناقد فؤاد شلبي، استعمال سنية للضغط على درية، تأثير ماضي الأبوين على شخصية تحية) فقد فشلا نوعًا ما في إيجاد علاقة متينة بين قصة فتنة وبقية العمل، حيث تبدو منعزلة تقريبًا لولا اشتراك سرحان الهلالي وطارق رمضان وكرم يونس في بطولتها.
ويبدو أن قصر الرواية الأصلية أوجب على المخرج أن يبحث عن حيل كثيرة لتمطيط العمل وتعقيد حبكته القصصية، فكانت إضافة الشخصيات مع ما يتطلبه ذلك من أحداث جديدة وتشابكات، إحدى الحلول الممكنة، فوفق فيها بشكل متفاوت.
كما التجأ المخرج إلى الإطالة في التذكير بما حدث في الحلقات السابقة، ولكنني أجد ذلك مبررًا جدًا لصيغة المسلسل المعقدة والتي قد ترهق المشاهد العادي أو غير المتعود على هذا النوع من الأعمال.
أما أداة الإطالة الأخيرة فكانت خلال محاولته التعمق في مختلف الشخصيات ومنحها مساحة إضافية للتعبير عن نفسها، لم يستطع النص في هذه المساحات أن يساير شخصياته وقدم لهم تعبيرات توحي بالعمق ولا تلمسه، لقد كانت حلقة التعرف على سرحان الهلالي مسرحية جدًا وجميلة لكنها لم تقربنا منه بالقدر الدرامي المناسب، أما المساحات التي منحت لأم هاني فقد غلب عليها مشهد واحد يتكرر دائمًا حتى الملل.
هنات هنا وهناك
رغم التميز الذي رأيته في أغلب عناصر المسلسل، فقد لحظت بعض الهنات البسيطة في مختلف المستويات، وبدا لي أن أكثرها ساذج كان يمكن اجتنابه، وأشير هنا أساسًا إلى التشوهات التي عانت منها عائلة تحية كل على حدة، لقد رأيتُ إتقانًا كبيرًا في العمل على مستوى الديكور والملابس، يعلن فضاء التصوير عن آيات الجمال في كل ركن من أركانه، وفي كل عنصر من عناصره، ويعكس بشكل مبهر حقبة زمنية قديمة لا يمكن تخيلها بشكل أفضل مما بدت عليه، حتى الأزياء بدت أنيقة خارجة عن الزمان والمكان، وساهمت الإضاءة المتقنة في إضفاء لمحة إبهار على الفضاء، ولعل المخرج في إفراطه الجمالي، عجز أمام مواطن البشاعة، فلم ينجح في إدارة وجوهنا بعيدًا عن وجه سنية أو علية المشوهين، ولم يكن مشهد سوسن بدر وهي تنزع خمارها مهيبًا بالمقدار الكافي.
وحتى مشاهد الاعتداء ـ كمشهد الاعتداء على سنية ـ لم تخل من سذاجة تثير الحيرة، وتعجز عن الإقناع، لم يقنعني كذلك المشهدُ الحميمي ـ أو ما يفترض أنه حميمي ـ الذي قدمته صابرين في دور حليمة الكبش في مكتب سرحان الهلالي (جمال سليمان) وبدا لي ركيكًا ومهذبًا من حيث أُريد له أن يكون إباحيًا.
والحقيقة أنني لم أستسغ عمل صابرين على شخصية حليمة الكبش، إنها طبعًا شخصية مختلفة قليلاً، من حيث إنها الوحيدة التي تؤمن أنها بريئة وطاهرة وسط كومة الخاطئين المذنبين، إن الدور المفترض لصابرين، ليس المرأة البريئة الطاهرة، وإنما المرأة التي ترى نفسها بريئة طاهرة، وبين هذين فارق مهم كانت الأسطورة فيفيان لي Vivien Leigh تعرف سره تمامًا، حين أدت دور Blanchette في الفيلم العظيم ترامواي اسمه الرغبة A Streetcar named desire.
كما وجد المخرج شيئًا من الصعوبة في إقناعي بجمال حليمة الكبش في حداثة سنها حينما جاءت إلى مسرح الهلالي، إذ لم يتغير شيء تقريبًا في ملامحها عندما أنجبت عباس، ولم نشهد تغييرًا إلا بعد ذلك.
أما صبري فواز، فقد قدم شخصية كرم يونس بالشكل المطلوب، لكن كتابة المسلسل ظلمت الشخصية، وابتلعت الكثير من عدميتها ومواقفها العنيفة من الحياة، بشكل باهت تحول كرم يونس من شخص مهذب إلى ظل شخص يحدث أن يقرر أمورًا خطيرة ما كان لرجل بلا موقف أن يقررها، لم نشعر بشكل كافٍ بإدمانه، ولم نشعر بشكل كافٍ بمعاناته من ماضي أمه.
في المقابل كان أداء منى زكي ساحرًا وملهمًا، ولقد أجادت فعلاً المناورة بين صورتها كممثلة شابة وبين سمعتها كابنة لبدرية، ودفعت كل الشخصيات التي من حولها إلى تقديم أداء أفضل، أما الامتياز التام، فأمنحه للفنانة سوسن بدر، إنها الوحيدة التي لم تصعد على خشبة المسرح في النهاية، ومع ذلك فشخصيتها هي الأكثر سحرًا وإبداعًا ودرامية، وكانت برأيي زينة المسلسل وأفضل بهاراته.
أفراح القبة عمل على قدر كبير من الجرأة، تحدى خلاله المخرج مفهومنا التقليدي لطبيعة المشاهد، فخاطب مستهلكًا إيجابيًا قادرًا على التفاعل والتأويل والتحليل، وتحدى خلاله مفهومنا السائد عن وظيفة الدراما، فالمسلسل ليس حكاية وعظية ينتصر الخير فيها على الشر، وليس ملفًا دراميًا وثائقيًا مملاً عن قضية اجتماعية يفترض أن ينكب عليها علماء الاجتماع لا كتاب السيناريو، بل هو رحلة أخاذة في فضاء واحد ثري ومتموج ومعقد، وافر بالانفعالات البشرية والخطايا والعلاقات التراجيدية التي تجعل الدراما فنًا راقيًا حتى وإن كانت دراما تليفزيونية!