جاء تقرير السير جون تشيلكوت الخاص بأداء حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وخصوصًا محتواه المتعلق بقرار غزو العراق والإطاحة بنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، صادمًا للكثيرين، فيما أكده من أن ما جرى كان قرارًا خاطئًا، بعد ثبوت عدم صحة معلومات الاستخبارات التي ارتكن إليها قرار غزو العراق وإسقاط دولة البعث فيه، وأن صدام لم يكن يسعى لكي يمتلك أسلحة دمار شامل.
وجاءت تصريحات توني بلير نفسه على هامش صدور التقرير، والتي أكد فيها على نتائج التقرير، واعتذر للرأي العام البريطاني عن مقتل 170 من البريطانيين في هذه الحرب التي اتضح أنه لم يكن هناك داعٍ لها، لكي تزيد من وطأة الصدمة على مئات الملايين من البشر ممن ارتبطوا بشكل أو بآخر بالأزمة التي فاقمها الغزو وما تلاه من أحداث، وتأثروا بها.
إلا أن الأمر لم يكن بمثابة صدمة لكثيرين آخرين، حيث إن هناك تصريحات سابقة للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وبلير نفسه، سبق وأن أكدا فيها أن التقارير الاستخبارية التي بُنِيَ عليها قرار الغزو، كانت مفبركة من جانب بعض الأطراف في المعارضة العراقية إبان عهد صدام.
وللتحديد، فقد كان أحمد الجلبي زعيم حزب المؤتمر الوطني الذي كان معارضًا لصدام، وراء أهم هذه التقارير، وهو الذي أكد للإدارة الأمريكية أن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل بيولوجية بالذات، ويسعى لإنتاج أنواع أخرى من هذه الأسلحة، وظل يبث سمومه في واشنطن، حتى استطاع إقناع الإدارة الأمريكية بقرار الغزو.
هوامش ضرورية حول التقرير وحول جريمة الغزو
لسنا هنا في معرِض التنديد بما جرى، وكيف أن خطأ مثل هذا قد أدى إلى تدمير بلد من أهم بلدان الأمة، وسقوط مئات الآلاف من القتلى، وتشريد الملايين، وأدى إلى سقوط هذا البلد المهم في ترتيبات الأمن القومي العربي، في آتون حروب وصراعات أهلية قادت إلى تفكيك بنيته الاجتماعية والسياسية، وإسقاطه وإسقاط منطقة المشرق العربي بالكامل في فوضى مدمرة طالت العالم أجمع بعد ذلك، في أعراض كان قد تم التحذير منها في حينه، حيث كل ذلك أمر بديهي في ضمير كل عربي ومسلم حر.
ولكن للمزيد من التدقيق؛ فإن الجريمة الأساسية التي تمت في العراق تمت بموجب قرار من الحاكم المدني الأمريكي الذي تولى إدارة شؤون العراق في السادس من مايو من العام 2003م، قبل إعلان بوش الابن انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في العراق، في التاسع من ذلك الشهر.
فبريمر هو صاحب قرار حل الجيش الوطني العراقي ومؤسسات الدولة العراقية بشكل عام، وحظر حزب البعث العراقي الذي ظل يتولى حكم العراق منذ الستينات وحتى ذلك الحين، فكانت أولى خطوات تدمير العراق كدولة بالمعنى السياسي والمؤسسي.
كما أننا لسنا في معرِض تناول الجوانب القانونية التي يرتبها التقرير، وتصريحات بلير التي تلت صدوره فيما يتعلق بقضية تعويضات ذوي الضحايا، أو محاكمة بلير وأصحاب القرار في القيادة السياسية والعسكرية للدول التي شاركت في الغزو، وخصوصًا بريطانيا والولايات المتحدة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب شاركت إسبانيا وأستراليا في الغزو إبان حكم اليمين المحافظ في ذلك الوقت لكلا البلدَيْن، كشريك أساسي في القرار).
فكل هذه الأمور من نافلة القول، وينبغي فقط التأكيد أنه من خلال معرفتنا الوثيقة بـ”العدالة” الدولية، وطبيعة السياسة العالمية القذرة التي تحكمنا، فإن بلير وبوش الابن وكولن باول وريتشارد تشيني، وباقي العصابة التي أخذت هذا القرار الإجرامي، لن تُحاكَم، ولن يتم دفع تعويضات لذوي الضحايا العراقيين، وأنه لن يتم ذلك إلا لذوي ضحايا الحرب من الجنود البريطانيين.
ولكننا نريد بشكل أساسي في هذا الحيِّز، الحديث عمَّا لم يذكره التقرير عن حقيقة الغزو وأسبابه وبواعثه، والتي لا يمكن بالمرة قبول التفسيرات التي عرضتها الحكومات التي شاركت في الغزون في حينه، والتي تتعلق بالأساس بموضوع امتلاك العراق أو سعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل.
فـ “خطيئة” صدام الحقيقية لم تكن في ذلك، وكان من الواضح تمامًا أن العراق بعد أكثر من عقدَيْن من الحروب والحصار، لن يكون بمقدوره إطلاقًا أن يبني برامج تسليح غير تقليدي على درجة من القوة التي يهدد بها الغرب والأمن القومي له.
فلا يقف الأمر عند توصل العلماء العراقيين لتصنيع قنبلة نووية مثلاً أو تصنيع غازات أعصاب، فهذه الأمور بحاجة إلى تقنيات باهظة وأكثر تعقيدًا تتحول إلى أسلحة تهدد أوروبا والولايات المتحدة، مثل الصواريخ العابرة للقارات والمقاتلات بعيدة المدى، وهو ما لا يمكن للعراق في ذلك الوقت كان أن يمتلكها، لا بالقدرات الذاتية، ولا بالشراء من السوق العالمية.
وحتى لو تم الحديث عن تهديد العراق لجيرانه من العرب حلفاء واشنطن وأعوانها في المنطقة، أو إسرائيل بما يملكه من إمكانيات، فإن صدام حسين كان يدرك تمامًا بحكم خبرته في السياسة والحكم، أنه لن يكون بمقدروه إطلاق قذيفة واحدة غير تقليدية على جيرانه، لأن الرد سوف يكون جاهزًا من القوات الأمريكية المرابطة في الخليج العربي وقواعد البحر المتوسط وأوروبا، وبشكل أقوى وأكثر تدميرًا.
وبالتالي، فحتى لو كان العراق قد امتلك أي شكل من أشكال أسلحة التدمير الشامل، لم يكن سوف يكون بمقدوره تهديد أحدٍ بها.
كما كانت ترتيبات الحصار الطويل وعمليات التفتيش المستمرة على المرافق المُشتبه بها في العراق – وهذا وفق تقارير الأمم المتحدة ذاتها، والوكالة الدولية للطاقة الذرية – من شأنها تقييد يد العراق عن المضي قُدُمًا في مشروعاته حتى لو كانت في طور التخطيط لها بالفعل، في هذا الجانب.
إذًا، الساسة الغربيون كذبوا في الأول عندما ادعوا ذلك، ثم يكذبون في الآخر، عندما يقولون إنهم تحركوا بشكل خاطئ بناءً على تقديرات وتقارير استخبارية ثبت أنها ملفقة، فعلى أبسط تقدير كيف تعجز أجهزة استخبارات أقوى دول العالم – دول التحالف الأنجلوساكسوني – عن حسم حقيقة تقارير الجلبي وغيره ممَّن تورطوا في هذه الجريمة؟!
فالولايات المتحدة وحدها، تمتلك 13 جهازًا للاستخبارات، أكثر من نصفها يعمل في الخارج، وتمتلك من قدرات الرصد والتتبع الإلكتروني والبشري، ما يؤهلها إلى التأكد من صحة أو عدم صحة المعلومات الواردة من بغداد، والتي تم بناء قرار الغزو عليها.
ومما يدل على أن قرار تدمير العراق كدولة بكل مقدراته، كان متَّخذًا حتى من دون هذا الضجيج الفاشل حول تقارير مخابرات غير موثوق فيها عن “خطر عراقي يهدد العالم”، أن الأمم المتحدة قبل الغزو بأيام قليلة قد أكدت قبول العراق لترتيبات التفتيش الإضافية التي طلبتها الولايات المتحدة ردًّا على تقارير الجلبي وأشياعه.
كما أنه قبل الغزو بفترة وجيزة، قامت الولايات المتحدة بتهيئة الرأي العام العالمي له، من خلال مجموعة من الإجراءات التي رتبتها دوائر الاستخبارات والقوة الناعمة الأمريكية، وتداعت لها وسائل الإعلام العالمية في الدول التي تدور في الفلك الغربي.
واعتمدت هذه الإجراءات على إدخال الكذبة في روع الرأي العام العالمي، لتبرير الغزو، وكان أقوى مشهد تمهيدي للمسرحية السوداء التي جرت على أرض العراق، هو مظاريف الأنثراكس التي قيل إنه قد تم إرسالها إلى الكونجرس والبيت الأبيض وهيئات أمريكية وبريطانية أخرى.
الطريف أنه عندما اتجه تفكير البعض في حينه إلى تنظيم القاعدة، سارعت واشنطن إلى نفي مسؤولية التنظيم عن ذلك، وقالت إنه مجرد تنظيم إرهابي لا يمكن له أن يمتلك أسلحة من هذا النوع تحتاج إلى تقنيات وأمور لا تستطيعها إلا دولة، بينما الآن يحذرون من أن “القاعدة” و”داعش” قد يستخدمون أو استخدموا بالفعل أسلحة كيماوية في سوريا!
الهدف: تدمير العراق!
الشاهد الأهم الآخر فيما يتعلق بأن قرار الغزو كان سوف يتم تنفيذه أيًّا كان الموقف الدولي، وأيًّا كانت حقيقة تقارير أسلحة الدمار الشامل هذه، وأن الهدف منه هو تدمير العراق بالكامل، ضمن ترتيبات جديدة تُصاغ للمنطقة منذ الثمانينات وحتى الآن، هو قرارات بريمر.
فلو صدقنا أن الغزو كان ضروريًّا لجلب الحرية للعراق ومنع خطر صدام حسين، فيبقى أنه لم يكن هناك أي مبرر للإجراءات التي تم اتخاذها في حق مؤسسات الدولة العراقية، خصوصًا وأن هناك قيادات في الجيش العراقي وحزب البعث، قالت إنها على استعداد لقيادة الدولة في هذه المرحلة الحرجة وفق ما تطرحه ظروف الاحتلال من أجل – على الأقل – حمل الولايات المتحدة وبريطانيا على تنفيذ ما أكدت عليه البلدان قبل الغزو، من أنه مؤقتٌ، وأن قوات الاحتلال سوف تخرج بعد تنفيذ مهمة إخلاء العراق من أسلحة الدمار الشامل، وترسيخ نظام حكم ديمقراطي فيه!
هذه القيادات السياسية والعسكرية تعاملت مع الموقف بعقلية “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، عندما وضحت أهداف الغزو في ساعاته الأولى، عندما عمدت قوات الاحتلال لإطلاق سراح السجناء الجنائيين، وليس السياسيين فحسب، وسماحها بعمليات سلب ونهب وتدمير واسعة شملت المتاحف العراقية، وكل مظاهر الحضارة في هذا البلد!
لكن لم يتم الاستجابة لهم، وتم أخذ القرار الذي تسبب في كارثة إقليمية ودولية!
ولكن ما الباعث؟
هذا هو السؤال المهم: ما الباعث الحقيقي للغزو المدبَّر بليل، وتدمير العراق؟!
البعض يتكلم عن إسرائيل وأمنها، والبعض لا يزال يصدق قصة عدوانية صدام ونواياه في امتلاك أسلحة دمار شامل يغزو بها العالم، إلا أن الأمر أعقد من ذلك، ويتعلق بالمشروع الاستعماري الأنجلوساكسوني الذي يعيث بين ظهراني أمتنا منذ قرون طويلة، ولا يزال للآن، يرسم السياسات والاستراتيجيات قصيرة وطويلة الأمد، من أجل تحقيق أهدافه ومراميه في السيطرة على مقدراتها وتعطيلها حضاريًّا، وتوجيهها إلى الآفاق التي يريد، من خلال منظومة سيطرة أهمها الأنظمة الحاكمة ذاتها، وهي نقطة ذات أهمية كبرى في فهم ما جرى لعراق صدام حسين.
هذا المشروع الاستعماري الذي كانت “سايكس – بيكو” أحد أهم تجلياته، وليس كلها، يعتمد أشد الاعتماد على منظومة من الأدوات التي يرتكز إليها لحماية مصالحه وتحقيق أهدافه.
ومن بين أهم هذه الأدوات، الاعتماد على وكلاء إقليميين لإدارة برامج ومشروعات لا يمكن إدارتها من دون أدوات توجيه وتنفيذ مباشِرة قائمة في الإقليم، منعًا لتدخلات مباشرة من جانب أطراف هذا المشروع، قد تقود إلى صراعات وحروب، عالية الكُلفة عليها.
وهو ما يبدو من حالة العراق نفسه، فالولايات المتحدة خسرت الآلاف من الأفراد هناك، ومئات المليارات من الدولارات، ولم تستطع تطويع هذا الشعب، فيما تقوم الأنظمة العربية بذلك، بكفاءة تامة.
من الحديث السابق، فإن أهم وكلاء التحالف الأنجلوساكسوني في منطقتنا العربية وفي العالم الإسلامي، إسرائيل والأنظمة العربية الحاكمة وبعض الجماعات الوظيفية التي يتم إما استغلالها أو إنشائها لتحقيق المهام المطلوبة، كما في حالة تنظيم “داعش”.
وهنا ثمة نقطة تأسيسية مهمة في الفهم تتعلق بإسرائيل وحقيقة موضعها وموضع لمشروع الصهيوني في المنطقة، باعتبار أن بعض التبريرات التي تُطرح في صدد موضوع غزو وتدمير العراق وحصاره من قبل ذلك، تقول بأن صدام حسين كان يهدد إسرائيل.
البعض بالغ في إطلاقات الدكتور عبد الوهاب المسيري بشأن الصورة المعقدة للمشروع الصهيوني وجذوره التاريخية والدينية، بحيث تم تصوير الأمر باعتبار أن إسرائيل والمشروع الصهيوني في المنطقة إنما هو مقصود في حد ذاته، متناسين ما قاله المسيري نفسه عن وظيفية إسرائيل والحركة الصهيونية.
وانتشر ذلك الأمر خلال عقد التسعينات وأول الألفية الجديدة، بعد “موضة” اجتاحت سوق الكتاب والترجمة في العالم العربي، عن أمريكا البروتوستانتية وتيار المحافظين الجدد الذي صعد مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، حيث انتشرت كالنار في الهشيم مقالات ودراسات توصِّف وتحلل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية من زاوية التابع والمتبوع، وردها في كل الأحوال إلى الباعث الديني، في صدد تهيئة الأرض للنزول الثاني للسيد المسيح – عليه السلام -.
وكان في ذلك مجالاً مهمًّا لاستخدام مصطلحات خرافية لها جاذبيتها لدى الجمهور العربي نصف المتعلم، مثل “أرماجدون” و”حروب نهاية العالم”، وكل هذه المخدرات الفكرية التي أغرقت الجمهور العربي في آتون جحيم نوستالجيا مستقبلية، غفلوا في إطارها عن الواقع ومتطلباته.
المشروع الصهيوني ليس كذلك إطلاقًا، وإنما هو مثله مثل الحكومات العربية، تم تفصيله بأدوات تاريخية ودينية، ولكن كجزء من المشروع الاستعماري الأكبر في المنطقة، أما التعقيد التاريخي والديني والأنثروبولوجي الذي تناوله المسيري في مشروعه الضخم، فإنما كان لأجل تمكين المشروع ذاته اعتمادًا على كل هذه المفاهيم والآثار، وإكسابه بالتالي المصداقية اللازمة لهذا التمكين.
بمعنى أن إسرائيل نفسها جزء من مشروع استعماري وصراع حضاري طويل جدًّا في المنطقة، قد يرده البعض إلى المناوشات الأولى بين الدولة الإسلامية الوليدة – كانت عربية خالصة في ذلك الوقت – وبين الدولة الرومانية، في نهايات عصر النبي – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -، ومفتتح عصر الخلفاء الراشدين أو ما يُعرَف بصدر الإسلام.
أما فكرة تعليق الجرس في رقبة إسرائيل دائمًا، وتفسير كل ظواهرنا ومشاكلنا وفق نظرية الأمن الإسرائيلي والمصالح الإسرائيلية، لن أقول غير سليمة، ولكنها تجعل قياسنا للأمور قاصرًا بعض الشيء، والدليل على ذلك، أن حل المشكلة اليهودية في أوروبا في البداية لم يكن مطروحًا له فلسطين إطلاقًا، وإنما كانت هناك وجهات أخرى مثل السنغال وأوغندا والأرجنتين، ثم كانت فلسطين وجهة مثالية، لأنها سوف تستخدم المشروع الصهيوني كإطار وظيفي لتحقيق أهداف معينة في العالم الإسلامي، كوكيل حرب وتقسيم للإطار الجيوسياسي العربي المسلم الذي ظل متصلاً عبر تاريخه الطويل.
مشروع صدام ورؤيته للإقليم
الأزمة الحقيقية كانت في مشروع صدام حسين الذي انقسم إلى قسمَيْن: الأول يتعلق بتقوية العراق ككيان مركزي في المنطقة، تتبلور حوله آمال وطموحات مشروع القومية العربية – الكلام لا يحمل أي باعث قيمي ذاتي، فقط هو توصيفي – بما يشمل تعضيد عناصر القوة الذاتية للدولة العراقية، ومن أهمها تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات الاستراتيجية مثل التسليح والغذاء والطاقة والتصنيع الثقيل وغير ذلك، مما يمكنه من أمرَيْن.
الأمر الأول هو تمكينه من ممارسة نفوذه الإقليمي على جيرانه العرب وغير العرب، والثاني تحقيق المزيد من الاستقلالية في القرار والسياسات عن القوى المسيطرة عن النظام العالمي.
وبدا ذلك في بعض المواقف، مثلما حصل في موضوع القطيعة بين العرب ومصر بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، حيث كان صدام حسين المحرك الأول لهذه القطيعة التي استمرت عشر سنوات.
القسم الثاني من مشروع صدام حسين، كان يعتمد على تغيير الترتيبات الإقليمية التي أقرتها اتفاقية “سايكس – بيكو” سواء كحدود أو كأنظمة حاكمة.
وهنا نقف أمام دليل تاريخي شديد الأهمية يكشف قيمة هذه الترتيبات لدى القوى العظمى التي تسيطر على المنطقة أو تسعى إلى ذلك.
يتعلق الأمر بالموقف البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى من مشروع الشريف حسين لتأسيس دولة عربية مركزية تضم أطراف الخليج العربي ومشيخاته وإماراته وبلاد الشام ومصر.
نفس الأمر بدا في الموقف البريطاني من مشروع الملك عبد العزيز آل سعود لتأسيس الدولة السعودية الثالثة، حيث إن بريطانيا أكدت على أنه ليس من المسموح له إطلاقًا بضم إمارات ومشيخات الخليج إلى دولته الوليدة، وتركته يضم أقاليم نجد والحجاز وتهامة عسير وغيرها، حتى بدأ يفكر في ضم اليمن ومشيخات الخليج، فرفضت بريطانيا ذلك.
وعندما غزا صدام حسين الكويت، تسربت الكثير من الوثائق التي تشير إلى أن صدام حسين لم يغزُ الكويت وفقما طرحه من أسباب معلنة في البداية، تتعلق بأسعار النفط ومستويات إنتاجه، قبل أن يطرح “حقوق العراق التاريخية” في الكويت بأسرها، وحديثه عن إعادة توزيع الثروة في العالم العربي، بعد إساءة حكومات الخليج لها.
هذه الخطوات من جانب صدام حسين، وما تسرب حول هذه النقطة، تشير بوضوح تام إلى أن خطيئة صدام حسين الحقيقية كانت في أن مشروعه الداخلي والإقليمي – أيًّا كان الموقف القيمي منه ومن أيديولوجيته – كان يهدد الترتيبات الإقليمية التي رسختها قوى الاستعمار العالمي قبل ما يزيد على مائة عام، في منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي تضم الجزء الأهم من العالم الإسلامي، بما فيه العالم العربي بالكامل (يمتد الشرق الأوسط الكبير من حدود الصين الشرقية وحتى المغرب العربي، وجنوبًا حتى أفريقيا السوداء، وشمالاً عند القرم والقوقاز).
وفي الأخير، يبقى هنا أن نشير إلى نقطة مهمة للغاية سوف تضيع منَّا كالعادة في زحام التفكير التقليدي القريب للموضوع الذي طرحه تقرير تشيلكوت، وتصريحات بلير، هذه النقطة تتعلق بموقف بعض الرأي العام في بريطانيا ممن فوجئوا بأن أبناءهم الذين ماتوا في العراق، قد ماتوا من دون طائل أو داعٍ حقيقي.
إذًا فكرة التضحية في الحروب لأجل الأوطان يجب أن تكون خاضعة لإطار مصلحي كذلك، وليس للإطار القيمي فحسب، وهذا الأمر غائب تمامًا عن الأنظمة الحاكمة في العالم العربي!