تفجرت الثورات العربية في مطلع عام 2011 فبعثرت الأوراق وأسقطت تحالفات وأقامت تحالفات. ثم بعد نجاح الثورة المضادة في وقف مسيرة التغيير التي تعلقت بها آمال شعوب المنطقة، تحول كثير من أصدقاء الأمس إلى أعداء، ولا أدل على ذلك من الإماراتي عبد الله بن زايد الذي اختارت عائلته، التي تحكم أبو ظبي وتسيطر على مقاليد الأمور في الإمارات السبع قاطبة، قيادة الثورة المضادة ومدها بكل احتياجاتها من أموال وعتاد ورجال، وشن حرب شعواء على ما يعرف بالإسلام السياسي ليس فقط داخل الإمارات، وإنما في أنحاء المنطقة العربية كافة، بل وحول العالم من جنوب شرق آسيا إلى أمريكا الشمالية، مرورا بالعاصمة البريطانية لندن.
لهذا الرجل قصة مع الشيخ يوسف القرضاوي بدأت بإعجاب شديد، نجم عنه تعلق بالشيخ ورغبة في الاستفادة من علمه والتبرك بفضله. فذهب عبد الله بن زايد يلح بشدة على الشيخ أن يخصص لــ”أبو ظبي” نصيبا من وقته وعلمه وفكره وتجربته. كان ذلك قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم بعدها مباشرة تحولت المودة إلى عداوة شرسة وحقد لا حدود له، وكأن أبو ظبي وليس نيويورك هي التي تعرضت للعدوان، وكأنما الشيخ القرضاوي وليس أسامة بن لادن هو الذي أمر بشن الهجوم. وقد تحدث الشيخ القرضاوي في مراجعاته في أكثر من حلقة عن استغرابه واستيائه من الانقلاب المفاجئ في الموقف الإماراتي منه، حينما منع من دخول أبو ظبي قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما دونما سابق إنذار.
لقد كان عبد الله بن زايد وعلى مدى سنوات يبدي للشيخ من الاحترام والمودة ما يجعلك تظنه تلميذا وفيا من تلاميذ الشيخ ومريدا متيما من مريديه، حتى إنه رتب له برنامجا أسبوعيا في تلفزيون أبو ظبي، على نسق برنامج الشريعة والحياة الذي كانت تبثه قناة الجزيرة، فكان الشيخ يسافر أسبوعيا إلى إمارة أبو ظبي ليكون ضيف ذلك البرنامج يوم السبت، ثم يعود إلى الدوحة ليكون ضيف الشريعة والحياة يوم الأحد. وكان الشيخ يَلقى من حكام الإمارات جميعا قبل مواطنيهم كل ترحاب واحترام وتكريم. المثير في الأمر أن تودد عبد الله بن زايد للشيخ وتقربه هو وإخوانه منه وتكريمهم له، قد جاء بعد الفتوى التي أشار إليها عبد الله بن زايد في تغريدته الأخيرة بشأن حق الفلسطينيين في ممارسة النضال ضد الاحتلال الصهيوني بالوسائل كافة، بما في ذلك العمليات الاستشهادية إذا لم تتوفر لديهم غيرها من الوسائل. وبالمناسبة فقد تكلم الشيخ يوسف عن هذه الفتوى بالتفصيل في مراجعاته معي، وبين أنه يميز بوضوح بين استخدام هذه الوسيلة ضد محتل أجنبي غاز وبين استخدامها ضد الآمنين الأبرياء، بل قال إنه أباحها للفلسطينيين حينما لم تكن تتوفر لديهم سواها من وسائل ردع الاحتلال، فلما طور الفلسطينيون غيرها من أدوات نضال ناجعة، أفتى بعدم جوازها.
المهم في الأمر الآن أن عبد الله بن زايد خرج علينا قبل انقضاء شهر رمضان المبارك بتغريدة على حسابه في تويتر، يلمز فيها بالشيخ وينال من فضله وعلمه مدعيا على الشيخ كذبا وبهتانا، ومن الكذب والبهتان الواضح، الادعاء بأن الشيخ القرضاوي والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله اختلفا في الموقف وتعارضا في الفتوى. ولقد ثبت بالدليل الصوتي أن الشيخ ابن باز كان قد أفتى تماما بمثل ما أفتى به الشيخ القرضاوي. أراد عبد الله بن زايد أن يحرض السلطات في السعودية على الشيخ القرضاوي، فانكشف مكره وارتدت سهامه في نحره. وفتوى الشيخ ابن باز فيمن يضحي بنفسه في الجهاد مشهورة وموثقة
ولذلك خلص بعض المتابعين إلى أن تغريدته إنما جاءت بسبب احتفاء عاهل المملكة العربية السعودية الملك سلمان بالشيخ القرضاوي، الذي كان في الأواخر من رمضان يؤدي مناسك العمرة، ويرى هؤلاء أن تغريدة عبد الله بن زايد ربما كانت تعبيرا عن استيائه هو وأشقائه من استقبال الملك سلمان للشيخ القرضاوي، بما لذلك من دلالة على توجه محتمل لدى المملكة في عهد سلمان نحو إنهاء حالة القطيعة مع التيار الإسلامي الأكبر والأهم في العالم، تيار “الإسلام السياسي” المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين.
لا يخفى على المراقبين للشأن الخليجي والإسلامي أن الموقف السعودي المعادي للإخوان خلال السنوات الأخيرة من عهد الملك عبد الله، كان إلى حد بعيد بتحريض من حكام أبو ظبي، الذين كان لهم دور بارز أيضا في المكيدة التي أحبطها السعوديون وكان الإماراتيون يأملون من ورائها – ويشاركهم في ذلك الانقلابيون في مصر – حمل الملك عبد الله على عزل شقيقه سلمان من ولاية العهد، إلا أن المنية عاجلته، فجرت الرياح بما لم تشته سفن محمد بن زايد وإخوانه ومن تواطأ معهم داخل الديوان الملكي السعودي.
ورغم تعلق آمال كثير من الإسلاميين بأن تشهد فترة حكم الملك سلمان إصلاحا لما وقع، ورأبا لصدع طرأ في عهد شقيقه الراحل عبد الله بين المملكة والإخوان، إلا أن شيئا مهما في هذا الصدد لم يحدث إلى أن تناقلت وسائل الإعلام مؤخرا خبر استقبال الملك سلمان لكل من الشيخ القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، الذي كان في زمن ما قبل الربيع العربي – في عهد الملك عبد الله – قد أعيد وهو محرم من مطار جدة وحيل بينه وبين أن يؤدي مناسك الحج في موسم عام 2007.
ربما يكون استقبال الملك سلمان للشيخ القرضاوي قد أشعل في صدر عبد الله بن زايد وإخوانه ألسنة من لهيب الحقد الدفين على الإخوان المسلمين، فغرد بما غرد. إلا أن تغريدة الغمز واللمز هذه جاءت في مناسبة أخرى لعلها لا تقل أهمية عن مناسبة الحفاوة التي استقبل بها الشيخ القرضاوي في مكة المكرمة، إنها مناسبة عرض قناة الحوار وثلة من القنوات الأخرى – كان من بينها الشرق، مكملين، وطن، الرائد، اليرموك – لثلاثين حلقة من برنامج مراجعات على مدى أيام شهر رمضان المبارك ولياليه، كنت قد سجلتها مع الشيخ القرضاوي في شهر مارس الماضي حول سيرة حياته وتجربته، تطرق خلالها لكثير من الأحداث السياسية البارزة في الماضي والحاضر، وتحدث فيها بالتفصيل عن عدد من المسائل الفقهية المهمة والمثيرة.
يبدو لي أن ظهور الشيخ القرضاوي بهذه القوة بعد شهور طويلة من الغياب الإعلامي شبه التام، هي التي أثارت حفيظة حكام هذه الإمارة الخليجية، الذين رأوا في ثورات الشعوب العربية وفي حركة التغيير والإصلاح خطرا داهما على مصالحهم، وبالذات لما تبين لهم أن الشعوب العربية حينما تملك حريتها وإرادتها لن تقبل باستمرار سياسات الذل والخنوع، وهدر الأموال والمقدرات التي مارسها هؤلاء عقودا من الزمن دونما رقيب أو حسيب.
لقد أخبرني الشيخ القرضاوي في إحدى حلقات مراجعات، بأنه حينما رأى الضغوط التي تمارس على قطر من بعض الدول المجاورة – وأظنه قصد الإمارات – لإسكاته ومنعه من الظهور في الجزيرة، وحتى من الخطابة في مسجد عمر بن الخطاب، آثر أن يبادر بنفسه إلى الانسحاب من هذه المواقع حتى لا يحرج الكرام الذين أكرموه، ولا يسبب مكروها لمن أحسن إليه.
والحقيقة التي لا مراء فيها، أنه لا يمكن إنكار الدور العظيم الذي أدّاه برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة في خلق حالة من الوعي بين أبناء الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، بل وحول العالم، وفي بث الأمل في نفوسهم بحتمية التغيير نحو الأفضل ولو بعد حين. وما ذلك إلا لما يمثله الشيخ القرضاوي من قامة علمية عظيمة، وما يقدمه من فكر وسطي مستنير، وما يبديه من شجاعة أدبية نادرة، وما يلزم به نفسه من نزاهة واستقلال جعل برنامج الشريعة والحياة مهوى الأفئدة والأسماع والأبصار. ولا يمكن بحال إنكار مساهمة الشيخ بمؤلفاته وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية على مدى أعوام مديدة، في نقل الأمة إلى مستوى الانتفاض الذي شهدته ساحاتها ضد الاستبداد والطغيان والفساد في أواخر 2010 ومطلع 2011. ثم جاءت خطبته في جمعة النصر في ميدان التحرير لتؤكد زعامته الفكرية والعلمية والروحية للملايين، الذين خرجوا ينشدون الحرية في ميادين مصر وشوارع مدن العالم العربي من تونس إلى صنعاء، مرورا ببنغازي والقاهرة ودمشق وبغداد.
ليس هذا هو العالِم الذي يرغب في مثله الطغاة، الذين تعودوا على وجود حفنة ضمن بطانتهم من علماء السوء الذين يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا، ويفتون لهم بما يحتاجون، ويسمعونهم ما يدخل البهجة إلى نفوسهم، ويبذلون جهدهم لإضفاء الشرعية على “لا شرعيتهم”. ولا ريب أنه كان من مكائد الثورة المضادة إسكات الشيخ وتغييبه عن الساحة تماما؛ انتقاما منه وحجبا له عن الأمة التي نذر حياته منذ صباه لخدمتها. فلما أطل على محبيه ومريديه، وهم بالملايين، مجددا في مراجعات جن جنون أولاد زايد، الذين وجدوا أن الشيخ رغم كل ما مر به من ظروف ورغم أنه يقترب الآن من التسعين، لم يضعف ولم يهن، ولم يغير ولم يبدل، بل ظل شامخا، وفيا لأمته على العهد معها، صادحا بالحق، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير، ويبعث الأمل في نفوس شباب كادت تحبطهم الثورة المضادة وتنال من يقينهم بحتمية النصر والفرج، بل ويوجه في آخر حلقة من مراجعات نداء إلى الإخوان المسلمين المكلومين، الذين نالت المحنة من يقين بعضهم وقوضت رابطة الأخوة بين بعضهم، أن اجتمعوا بربكم على ما يحمله اسمكم من معنى، فأنتم إخوان في الله، مسلمون له، هكذا سماكم مرشدكم، فكونوا بحق صادقين مصدقين لهذا المعنى، فوحدوا صفوفكم، واجتمعوا على كلمة سواء، وانبذوا الخلافات التي بينكم، واستعدوا للجولة القادمة، فهي قادمة لا محالة، وقريبا بإذن الله، وعندها سيفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نُشر الموضوع لأول مرة في عربي 21