تقتل التفجيرات التي تحدث في أنحاء عديدة في العراق الاقتصاد العراقي بنفس الطريقة التي تقتل بها الأبرياء، كما حدث في تفجير الكرادة مع فارق اختلاف الظروف، حيث راح ضحية التفجير قرابة 200 شخص وسالت الدماء في الشارع وأصيب العشرات وتهدمت الأبنية وتغيرت معالم الحي.
أما قتل الاقتصاد فلا تسيل فيه دماء ولا أشلاء ولكن تتسرب فيه قيمة الاقتصاد للخارج وتثقل ميزانية الدولة بالديون ويتقلص حجم الاقتصاد وترتفع معدلات البطالة والفقر وتسلم رقبة الدولة لمؤسسات دولية ويسير الاقتصاد بخطى حثيثة في مسيرة التخلف، على الرغم من غنى الدولة بالثروات الطبيعية التي من المفترض أن تكون عونًا لها في الأزمات وداعمًا في مسيرة الإصلاح والتطوير، إلا أنها تصبح ثقلاً على الاقتصاد بسبب الفساد والإدارة السيئة.
في بلد ارتفع فيه ثمن القبر بسبب كثرة عدد القتلى سواء من القادمين من أرض المعارك التي يخوضها العراقيون ضد تنظيم الدولة الإسلامية أو من ضحايا التفجيرات التي تحصد العشرات منهم، وفي بلد توجه موارد الدولة لخوض المعارك وتحرير المحافظات من سطوة تنظيم الدولة الإسلامية أو تذهب لجيوب الفاسدين من المستثمرين الكبار لتحول الأموال في النهاية للخارج، يأمل القائمون في الحكومة أن يتحسن الاقتصاد وتتطور البلاد من خلال سحب قروض من صندوق النقد!
في تفجير الكرادة كشفت التقارير عن فساد صفقة جهاز كشف المتفجرات في العراق الذي اشترته الحكومة العراقية خلال الفترة بين 2008 – 2010 لوقف سيل السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، إلا أن الجهاز فشل في مهمته الرئيسية، وكشفت القوات الأمريكية مطلع العام 2014 أن معظم أجهزة فحص المتفجرات التي استوردتها الحكومة العراقية غير صالحة للاستخدام وتم شراؤها بأسعار عالية وصلت إلى 60 ألف دولار للجهاز الواحد بينما تباع في أسواق بريطانيا بـ 40 دولارًا فقط، فيما أكدت تقارير عراقية أن الجهات الرسمية التي أبرمت الصفقة تعلم جيدًا أنها لا تصلح للكشف عن المتفجرات وأنها صفقة حكومية فاسدة لجني الأرباح.
العراق يوافق والنقد الدولي يقدم
بعد انخفاض أسعار النفط وانخفاض إيراداته التي تمول جل ميزانية الحكومة العراقية، وقع العراق في أزمة سيولة مالية، على إثرها بدأت الحكومة سلسلة مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأخذ قرض مالي.
وقد وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد على منح قرض جديد للعراق لأجل ثلاث سنوات قيمته 5.34 مليارات دولار بحيث يتم صرف مبلغ بشكل فوري بقيمة 634 مليون دولار بموجب برنامج القرض القاضي توزيعه على 13 شريحة على مدى ثلاث سنوات حتى يونيو/ حزيران 2019، ووفق الظروف التي يمر بها العراق فإن الخبراء الاقتصاديين لا يرون بالقرض إلا مزيدًا من الأعباء المعيشية للمواطن وتهديدًا لاستقرار البلاد، كما أن الشروط “المذلة” المفروضة من قبل صندوق النقد ستنعكس بشكل سلبي على حياة المواطن.
فالمعلن أن القرض تم تقديمه للعراق بشرط تسديد المستحقات المالية على الحكومة المتخلفة لصالح شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق بنهاية العام الجاري، وغير المعلن أنه سيتم رفع أسعار المواد الأساسية وفرض ضرائب جديدة ورفع الرسوم الجمركية ورفع الدعم عن السلع المدعومة كشروط من صندوق النقد لتقديم القرض، بالإضافة لخفض عجز المشروعات المملوكة للدولة وتطوير الإشراف المصرفي لمحاربة الفساد وغسل الأموال، وتحسين كفاءة توزيع الغذاء بحيث تستهدف الفئات الأكثر حاجة فقط.
تتوقع الحكومة أن يبلغ العجز المالي للعام الحالي نحو 25 مليار دولار في موازنة تبلغ قيمتها نحو 100 مليار دولار نتيجة انخفاض أسعار النفط العالمية إلى مستويات دون 30 دولارًا للبرميل، ويذكر أن العراق يعاني من فجوة مالية بقيمة 50 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، والجدير بالذكر أن الموازنة العراقية تعتمد على إيرادات النفط بنسبة 90%.
أين يكمن الحل؟
على الحكومة العراقية اليوم أن تتحلى بالمرونة اللازمة في مواجهة الأزمات والتحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها واتباع أدوات مالية تعتبر أخف ضررًا من حلول أخرى كالاقتراض مثلاً، بحيث تتقاسم الحكومة الأزمة مع المواطن من خلال التقشف المتدرج بشكل لا يؤثر على مستوى معيشة المواطن، وترفع الدعم بشكل تدريجي عن بعض السلع والخدمات التي تقدمها الحكومة للمواطن بأجور زهيدة كالصحة والتعليم والماء والكهرباء والبترول، وتعزز كفاءتها في إدارة أجهزة الدولة من خلال تشديد الرقابة والقضاء على الفساد.
وهذا لا يتم إلا من خلال تطبيق السياسة المالية التي غابت عن التطبيق في الاقتصاد العراقي لعقود طويلة، ويشير لهذا التحليل الدكتور إبراهيم الجلبي في مقال على نون بوست حول “الاقتصاد العراقي وسيناريوهات التعاطي مع العجز الغير مخطط” حيث يرى أن الحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ الاقتصاد والدينار العراقي اليوم هو اتباع السياسة المالية، فالبنك المركزي لم يعد قادرًا على مواجهة الموجة لوحده لذا لا بد من تفعيل أدوات السياسة المالية كالضرائب والرسوم لدعم الميزانية واعتماد معايير الكفاءة الاقتصادية في المرافق الخدمية ومحاربة الفساد الذي يستنزف الاقتصاد موارده فبدل أن يخدم الاقتصاد يذهب لجيوب مستثمرين كبار.