ترجمة وتحرير نون بوست
تمر جميع البلدان التي تحيط بتركيا بأوقات صعبة، كما أن المناطق الثلاث المحيطة بتركيا تمر بأزمات ترتفع مستوياتها لدرجة تُزعزع استقرار النظم الإقليمية وتُنتج اضطرابات إقليمية جديدة.
تركيا، التي تمكنت من عزل نفسها بشكل إيجابي عن روح العصر الإقليمي منذ عام 2002، هي أكبر المتضررين من هذا الاضطراب السياسي العنيف الذي يشهد تحوّل التواترات في الشرق الأوسط والقوقاز وأوروبا الشرقية إلى احتلال وضم واشتباكات.
أسفرت هذه التطورات عن حبس الأزمات وتصعيد التوترات ضمن حلقة مفرغة، حيث خلقت التواترات المتصاعدة في كل من هذه المناطق قوة نابذة دفعت بأزمتها إلى الدول المجاورة وصدّرتها إليها بشكل منتظم، ولا يبدو من المحتمل أن تختفي هذه القوى النابذة ضمن المدى القصير.
أول هذه القوى هو النظام المستمر منذ قرن في بلاد ما بين النهرين، والذي انهار جرّاء التغيير السياسي الهائل الناجم عن الانتفاضة العربية، وامتدت عواقب ذلك إلى تركيا مباشرة، وستستمر بالتأثير عليها في المستقبل.
قصة نجاح القرن العشرين، أو النظام الذي تم تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية وتجسّد في الاتحاد الأوروبي وأيضًا في دول البلقان، حوصر أيضًا ضمن حلقة سياسية واقتصادية مفرغة، ومع اطراد اللامبالاة السياسية ضمن أوروبا، طالت هذه الآثار تركيا أيضًا بشكل مباشر.
وبالمثل، ومنذ الحرب الباردة، تجمّد الوضع في القوقاز سياسيًا وأفرز ضررًا عميقًا، ورغم كونها الجزء النشط من هذه الأزمة، لم يستطع التدخل الروسي المنفرد وغير المنضبط أن ينتج حلولًا إيجابية أو سلبية لنفسه أو للمنطقة، ونتيجة لذلك، اطردت المشاكل وتضاعفت، ولكن مع ذلك، لا تزال تركيا مستقرة وقادرة على إدارة الأزمات رغم كافة المشاكل الناجمة عن هذه النظم الجغرافية السياسية الثلاثة.
الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه القوى النابذة تمخضت بشكل مباشر أو غير مباشر عن الإرهاب؛ فالزلزال الناجم عن غزو العراق، اطراد الإسلاموفوبيا، صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا، والحلقة المفرغة من (الحرب- الغزو- الضم) في القوقاز، جميع ذلك عطّل الحرب على الإرهاب.
تركيا هي إحدى البلدان القليلة التي تمكّنت من حماية استقرارها السياسي ورفاهها الاقتصادي رغم موقعها الجغرافي الإشكالي والأزمات السياسية والاقتصادية العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، لا تعد تركيا هدفًا جديدًا للإرهاب؛ فحوادث الإرهاب الراهنة التي تشهدها البلاد تهدف لتعطيل الحياة اليومية للحد من قدرتها على إدارة الأزمة، والإرهاب الذي يواجهه تركيا لا يعد موجة بدائية من العنف فحسب، بل أيضًا أداة رخيصة لحرب الوكالة الموجهة ضد تركيا، والتي تأمل أن تُسفر عن تخلي البلاد عن تموضعها الجيوسياسي.
ولكن مع ذلك، فقد تبين بأن عتبة الألم السياسية والاجتماعية في تركيا ضد أعمال الإرهاب المتزامنة تلك هي أقوى بكثير مما توقعته هذه المجموعات.
ولكي نفهم ذلك، يمكن للمرء ببساطة أن يلقي نظرة على عدد الضحايا في تركيا الذين لقوا حتفهم جرّاء الإرهاب خلال القرن الماضي، حيث فقد الآلاف من الناس حياتهم، ومن هذا المنطلق، لا يبدو ممكنًا لحزب العمال الكردستاني أو لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أن يفرضا على تركيا أن تغيّر من سياستها لتخدم مصالحهما من خلال الأعمال الإرهابية التي يمارسانها كالتفجيرات الانتحارية، حيث لم تفلح هذه الأساليب بالماضي في زعزعة المواقف التركية.
ازدواجية المعايير الغربية
لا تواجه تركيا مآسي محاربة الإرهاب فحسب، وإنما تعاني أيضًا من إزدواجية معايير الغرب تجاه قضية الإرهاب؛ فمقارنة بسيطة لردود الفعل على أعمال الإرهاب في تركيا مع تلك التي صدرت إزاء أعمال الإرهاب التي شهدتها العواصم الغربية، كافية لفهم هذه القضية، كما أن رؤية صور الانتحاريين، الذين تسببوا بوفاة العديد من الأشخاص بالقرب من البرلمان التركي، وهي تُرفع عاليًا في شوارع لندن وخارج البرلمان الأوروبي في بروكسل تتجاوز حدود الإزدراء وتبدو مزعجة بحد ذاتها.
الوضع خطير لدرجة أنه عندما جاء وفد من أحد بلدان شمال أوروبا لزيارتي، أظهروا لي صورة لمجموعة من الأشخاص وهم يحتجون ضد تركيا خارج البرلمان وسألوني عمّا ينبغي أن يقولوه لأولئك الأشخاص الذين كانوا يحتجون على قمع “حرية التعبير” في تركيا.
وحينها كان كل ما في جعبتي لأرد عليهم هو قولي: “لا أعرف ما الذي يمكن أن تقولوه لهم، ولكن اسمحوا لي بأن أقول لكم بأن الصور التي تحملونها هي لانتحاري تسبب بمقتل 29 شخصًا على بعد بضع مئات من الأمتار من هذه الغرفة”، وعند تلك النقطة ساد جو من الخدر في الغرفة.
لن نتمكن من الوصول إلى لب قضية الإرهاب، كما لن نتمكن من محاربته بصدق، ما لم ننبذ نهج “الإرهابي الجيد والإرهابي السيء” الذي يُتخذ كمطية للباحثين عن السلطة.
بهذا المعنى، فإن أولئك الذين سمحوا لداعش بالظهور في العراق في خضم موجة الطائفية الدامية، على الرغم من تحذيرات تركيا، هم ذاتهم الذي سمحوا لداعش بالوصول إلى السلطة في بعض أجزاء سوريا من خلال نهج عدم التدخل لمعالجة جذور المشكلة، هذا النهج، الذي يتمثل باختزال القضية السورية بتنظيم القاعدة أولًا وبداعش في وقت لاحق، مهّد الطريق لتنظيم داعش لكي يصبح مشكلة عالمية بذات الطريقة التي بزغ فيها تنظيم القاعدة كأزمة عالمية فيما سبق.
وستستمر هذه القضية بالتطور والغليان طالما استمر نهج استخدامها كذخيرة رخيصة لتعظيم دور القوة واستمرار حروب الوكالة؛ فالعديد من البلدان تستخدم الحرب ضد داعش كتمويه لحرب الوكالة في سوريا، ولكن عندما تعمل تركيا ضد داعش فهي تعلن الحرب الصادقة والصريحة ضدها؛ ولهذا السبب فإن تركيا هي هدف داعش الرئيسي، ولهذا السبب أيضًا، تدفع تركيا الثمن، بالإضافة إلى عبء أزمة اللاجئين.
إذن، وبغية منع اطراد هذا الثمن سواء بالنسبة لتركيا أو لباقي العالم، يجب اتخاذ خطوات صادقة وجادة لكشف جذور الإرهاب، وستُظهر الفترة المقبلة مدى الصدق والجدية التي يمتلكها العالم حول هذه المسألة.
المصدر: ميدل إيست آي