أفاقت بريطانيا مؤخراً، وليس للمرة الأولى، لتجد عقارب الساعة قد رجعت إلى الوراء. فيوم الأربعاء، عندما نُشر تقرير تشيلكوت، عادت عقارب الساعة إلى الثامن عشر من مارس ٢٠٠٣، ذلك اليوم الذي صوت فيه البرلمان لصالح شن الحرب على العراق.
قبل ثلاثة عشر عاماً، وقف نائب من نواب البرلمان – ممن يجلسون في المقاعد الخلفية – واسمه جيريمي كوربين ليخطب في أكبر تجمع شهدته البلاد في تاريخها للمطالبة بوقف الحرب على العراق. كلماته التي نطق بها في الخامس عشر من فبراير من ذلك العام أثبتت مصداقيتها.
“بالنسبة لأولئك الذين يقولون إن هذا صراع ضروري وعادل لأنه سيجلب السلام والأمان، كان الحادي عشر من سبتمبر حدثاً مريعاً. إلا أن ثمانية آلاف قتيل في أفغانستان لم يعيدوا أياً من أولئك الذين قضوا نحبهم في مركز التجارة العالمي، وآلاف أخرى من القتلى في العراق لن تصحح الأوضاع أو تعيد الأمور إلى نصابها، وإنما ستطلق العنان للصراع وللكراهية وللبؤس وللإحباط الذي سيغذي بدوره الحرب والصراع والإرهاب والاكتئاب والبؤس لأجيال قادمة.”
ما أن انتهي تشيلكوت من إبطال كافة الحجج التي ساقها رئيس وزراء بريطانيا آنذاك طوني بلير لتبرير مغامرته العسكرية، تقدم كوربين، الذي يتزعم حزب العمال الآن، ليعتذر نيابة عن الحزب. أما زعيم الحزب السابق بلير فلم يبد ندماً على ما فعل، بل قال إنه لو استقبل من أمره ما استدبر لكان اتخذ نفس القرار تارة أخرى.
ولكن، ليس بلير الوحيد الذي يستمر في الدفاع عن التدخل الغربي في الشرق الأوسط. فهذا كاميرون، وفي رده على تقرير تشيلكوت، يصر على عدم ندمه فيما يتعلق بليبيا، والتي حصل التدخل فيها بناء على أوامر منه.
ويدخل في زمرة المسعرين للحرب أغلبية أعضاء مجلس النواب من حزب العمال الذين صوتوا لصالح التدخل وصوتوا كذلك ضد كوربين. وكما لاحظ نافذ أحمد حينما حلل المعلومات الخاصة بتصويتهم، فثمة تطابق شبه تام ما بين نمط التصويت لصالح التدخل ونمط التصويت ضد كوربين.
فقد ٧١ من بين ١٩٤ عضواً من أعضاء البرلمان عن حزب العمال الذين رفضوا مساندة كوربين (من خلال التصويت ضده أو الامتناع عن التصويت أو التخلف عن الحضور) كانوا أعضاء في البرلمان في عام ٢٠٠٣. ولكن من بين هؤلاء سبعة فقط صوتوا ضد الذهاب إلى الحرب. ما مجموعه ١٧٢ نائباً تشير سجلاتهم إلى أنهم كانوا يدعمون التدخلات العسكرية البريطانية في الخارج – وهو نفس عدد من صوتوا بسحب الثقة من زعامة كوربين لحزب العمال.
تسعة وثمانون بالمائة من أعضاء البرلمان عن حزب العمال الذين لا يدعمون كوربين دعموا التدخلات العسكرية البريطانية، ولكن ليس كل واحد منهم. ستة وخمسون بالمائة منهم يؤيدون الحرب بقوة بينما تشير سجلات ١٩ بالمائة – أي ٣٧ نائب عمالي – أنهم صوتوا باستمرار ضد الحرب. ثمانية وتسعون من النواب العماليين المائة الذين كانوا يحتلون مناصب حينما حصل التصويت على إجراء تحقيق بشأن الحرب على العراق صوتوا ضد المبادرة بإجراء مثل هذا التحقيق.
لربما لم يعودوا يحسبون أنفسهم بليريين (نسبة إلى طوني بلير) إلا أن معظم أعضاء البرلمان العماليين الذي سعوا إلى خلع كوربين هم من مؤيدي التدخل الخارجي. أحد هؤلاء هو ألان جونسون، الذي كان في عهد بلير يشغل منصب وزير الداخلية. كان سجله في التصويت حول الشؤون الخارجية وقضايا الدفاع على النحو التالي: صوت لصالح استخدام القوات العسكرية البريطانية في العمليات القتالية في الخارج، وصوت لصالح الحرب على العراق، وصوت ضد فتح باب التحقيق في الحرب، وصوت لصالح استبدال صواريخ ترايدنت بنظام أسلحة نووية جديد، وصوت لصالح لمزيد من التكامل ضمن الاتحاد الأوروبي، وصوت لصالح تعزيز الميثاق العسكري. والشخص الآخر هو هيلاري بين، الذي أدى فصله من موقعه كوزير لخارجية الظل إلى إطلاق محاولة الانقلاب على كوربين.
بنفس القدر الذي ينطبق فيه تقرير تشيلكوت على طوني بلير فإنه ينطبق على مواقف كل من جونسون وبين ومايك غيبس، الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم، ولعل هذا يفسر لماذا كانوا باستمرار يصوتون ضد فتح باب التحقيق في الحرب التي أشعلوها. على الأقل طوني بلير كانت لديه الجرأة لأن يقف وعلى مدى ساعتين في مواجهة حشد من الصحفيين غير الودودين. أما أولئك فلم يفعلوا ذلك، وإنما لجأوا بدلاً من ذلك إلى فتح النيران على زعيم حزبهم.
قال بين: “هناك الكثيرون منا ممن لا يأسفون على ذهاب صدام.” بل واقترح بأنه يتوجب إصلاح الأمم المتحدة حتى يصبح من الممكن بل من الواجب “محاسبة الطغاة الذين يقتلون شعوبهم ويرعبونهم.” هل ينطبق ذلك مثلاً على محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، وعلى عبد الفتاح السيسي في مصر واللذان يستمر طوني بلير في تقديم المشورة لهما؟ وتساءل جونسون عما إذا كان يوجد “أي دليل بأن أكاذيب قدمت إلى البرلمان”. طبعاً، يوجد دليل على ذلك.
دعوة بين لإصلاح الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي قال تشيلكوت إن بلير طالما أعاقه، مثيرة للاهتمام لسبب مختلف.
إعلان الحرب على العراق في غياب قرار ثان للأمم المتحدة فتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات العسكرية في الشرق الأوسط، فلم يعد أحد يكترث بالأمم المتحدة هذه الأيام أو يعبأ بالحصول على إذن منها قبل الشروع في عمليات عسكرية. وهكذا كان التدخل الروسي في سوريا والتدخل السعودي في اليمن، بالرغم من صدور قرار للأمم المتحدة حول الحصار على اليمن. ولم يسع المصريون ولا الإماراتيون إلى استصدار قرار من الأمم المتحدة قبل التدخل في شرق ليبيا.
ولم يصدر قرار أممي، ناهيك عن أن يكون هناك نقاش في البرلمان أو في الكونغرس، بشأن وجود عناصر عسكرية بريطانية وأمريكية وفرنسية تعمل مع، ومن خلال، مطار بينينا الذي تسيطر عليه قوات اللواء الليبي خليفة حفتر في بنغازي.
كنا قد كشفنا النقاب عن انتشار قوات خاصة بريطانية وأردنية في ليبيا، وذلك طبقاً لما ورد على لسان عاهل الأردن الملك عبد الله أثناء حديثه مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي في شهر يناير الماضي. فقد أخبرهم عبد الله بأن اللهجة الأردنية قريبة من اللهجة الليبية. وكانت الفرضية حينها أنهم يساعدون المليشيات الليبية في إخراج مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من سرت. لم يحصل أن ناقش البرلمان البريطاني استخدام القوات البريطانية في ليبيا.
واليوم نكشف عن تسجيلات صوتية لطيارين بريطانيين وفرنسيين وأمريكيين وكذلك لمراقبين أرضيين وهم يتحدثون من أو مع برج المراقبة في قاعدة بينينا الجوية. لا صلة للإحداثيات التي ورد ذكرها في المحادثات مع المواقع المعروفة لتنظيم الدولة الإسلامية، ولكنها بدلاً من ذلك تتعلق بضربات جوية على أهداف مثل سوق الحوت، وهو سوق السمك في بنغازي، حيث يتواجد خصوم حفتر.
في سوق الحوت يقاتل حفتر مجلس شورى ثوار بنغازي، وهو عبارة عن ائتلاف بين مجموعات إسلامية مقاتلة، ويشتمل الائتلاف على أنصار الشريعة، والتي تصنف منظمة إرهابية من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وتركيا. إلا أن المجلس يشتمل أيضاً على كتيبة شهداء ١٧ فبراير والتي تمولها وزارة الدفاع الليبية في طرابلس. هنا وفي درنا، يقوم البريطانيون والأمريكان والفرنسيون والأردنيون، وكذلك المصريون والإماراتيون، بمساعدة حفتر في قتاله ضد المقاتلين الذين كانوا قد طردوا تنظيم الدولة الإسلامية والذين يوالون الحكومة في طرابلس.
إما أن البريطانيين والأمريكان يدعمون كلا الطرفين المتصارعين في الحرب الأهلية الليبية في نفس الوقت، أو أنهم يقدمون معسول الكلام لأحد الطرفين بينما يقدمون المساعدة العسكرية الحقيقية للطرف الآخر.
في الوقت الذي أدانت فيه بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا الضربات الجوية التي نفذتها قوات حفتر ضد درنا وحذرت من أنها يمكن أن تشكل جريمة حرب، تقوم العناصر البريطانية والفرنسية والأمريكية بمد يد العون لحفتر بينما يخوض حربه في بنغازي. لم يزل حفتر يرفض الاعتراف بسلطة حكومة الوحدة في طرابلس. في هذه الأثناء تقدم العناصر العسكرية البريطانية العون للقوات في شرق ليبيا رغم أنها لا تدين بالولاء ولا تأتمر بأوامر القيادة الموحدة لحكومة الوحدة الوطنية. ومن هنا فإن المساعدة التي يقدمها المراقبون العسكريون والطيارون البريطانيون لقوات حفتر تقوض روح، إن لم يكن بنود، الحظر الأممي على توريد السلاح إلى ليبيا.
ذلك هو المستنقع العميق للتدخل الأجنبي الذي وقع قبل ثلاثة عشر عاماً. تماماً مثل سايكس وبيكو قبلهما بقرن من الزمن، انهمك بلير والرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بعمق في محاولة أيديولوجية لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط. ومازال بلير يدفع قدماً بنفس هذه الأجندة من خلال تعاملاته مع الإماراتيين ومع المصريين ومع الإسرائيليين وكذلك من خلال محادثاته مع حماس ومع الفلسطيني المتنفذ محمد دحلان. لكن قبل ثلاثة عشر عاماً أبقى بلير طموحاته طي الكتمان.
في مذكرة كتبها وأرسلها إلى بوش في السادس والعشرين من مارس ٢٠٠٣ بعنوان “الهدف الأساسي”، كتب بلير: “هذه هي اللحظة التي عندها يمكنك تحديد الأولويات الدولية للجيل القادم – إنه النظام العالمي الحقيقي لما بعد حقبة الحرب الباردة. إن طموحنا كبير – وهو يتمثل في إنشاء أجندة كونية بإمكاننا أن نوحد العالم من حولها.”
وحينها قال بلير إن الحرب ستكون جزءاً من عملية دفع أكبر، ألا وهي “نشر قيمنا حول الحرية والديمقراطية والتسامح وسيادة القانون” في كل أرجاء العالم. “ولهذا، ومع أن أسلحة الدمار الشامل التي بحوزة العراق هي المبرر المباشر لاتخاذ الإجراء، إلا أن التخلص من عراق صدام هي الجائزة الحقيقية.”
لقد أخفق بلير وبوش في تحقيق الهدف الأساسي، بينما نجحا في إنجاز ثلاثة أمور في الشرق الأوسط. فمن خلال التخلص من صدام، نجحا في إشعال صراع طائفي ما لبث أن انتشر في المنطقة بأسرها. وأخلا بالتوازن الإقليمي بين العالمين الفارسي والعربي. كما سمح تغيير النظام في العراق لإيران باختراق البلد والمنطقة. ولولا الدعم العسكري الإيراني لما كان بشار الأسد واثقاً من قدرته على سحق الانتفاضة غير المسلحة التي اندلعت في درعا في عام ٢٠١١. وبدون الحرب على العراق ما كانت لا القاعدة ولا داعش لتوجدا لا في العراق ولا في سوريا. لقد قضى مئات الآلاف نحبهم وتشرد الملايين من ديارهم نتيجة لذلك.
تماماً مثل سايكس وبيكو اللذان وضع اتفاقهما السري الأساس لقرن من الصراع الاستعماري في الشرق الأوسط، أضرم بوش وبلير ناراً حينما غزوا العراق ما لبثت ألسنة لهيبها أن انتشرت في المنطقة بأسرها ومازالت تشتعل حتى يومنا هذا. ولا تبدو في الأفق نهاية لهذا الحريق. لقد سار كاميرون بكل بساطة على نهج بلير واقتدى بنموذجه، ولو أردت الحقيقة فكلاهما ينتمي إلى نفس الحزب. ومن سيخلف كاميرون في رئاسة الوزراء سيفعل نفس الشيء. لمكن لمن أراد أن يرى ثمار عملهم أن يتأمل في ليبيا التي نشهد ما فيها من مآسي وعنها اليوم نكتب.
المصدر: ميدل إيست آي