ترجمة وتحرير نون بوست
تتحرك شمس ما بعد الظهر الدافئة لتشع بنورها على شارع سونيالي المزدحم جنوب مدينة برلين في حي نويكولن، حيث تتمشى العائلات المسلمة مع محبي الموضة البرلينين على طول الطريق ببطء واضح، متنقلين من متجر إلى آخر حتى يقرروا المطعم الذي سيدخلون إليه.
تتجمع الحشود حول وخارج مطعم عزام، الذي يقدم المأكولات الشرق أوسطية، منتظرين في طابور طويل للحصول على طبق من الحمص، وإلى الجنوب قليلًا، يعمل الموظفون في محل أم كلثوم للحلويات على ترتيب صواني البقلاوة والحلويات العربية، ولكن العديد من السكان المحليين والزوار يصرّون على تسليط الضوء على مطعم الأندلس، وهو مطعم قريب مُزيّن بصور كبيرة لبيروت في أوائل القرن العشرين، يقدم أفضل فلافل في المدينة بأسرها.
“عندما افتتحنا محل أم كلثوم هنا في سونيالي في عام 2001، لم يكن يوجد أحد غيرنا، الشارع كان هادئًا للغاية” قال موسى فخرو، وهو مواطن لبناني فرّ إلى ألمانيا في عام 1990، ولكن منذ افتتاح أبوابه قبل نحو 15 عامًا، يقول فخرو بأن حي نويكولن قد تغيّر تمامًا، “لقد تحول المكان رأسًا على عقب، أصبح وجهة مقصودة، وخاصة بالنسبة للعرب”، قال فخرو لصحيفة الميدل إيست آي.
يُنظر إلى هذا الحي الجنوبي في العاصمة برلين اليوم باعتباره عصريًا، وباعتباره أيضًا أحد الأماكن التي ازدهرت لتصبح بؤرة للمجتمع العربي في المدينة، حيث شهد النفوذ الشرق الأوسطي نموًا هائلًا هناك، لدرجة أن البرلينيين لطالما أشاروا إلى شارع سونيالي ببساطة باسم “الشارع العربي”.
منذ عام 2013، استقبل حي نويكولن أكثر من 3000 لاجئ، معظمهم من سوريا والعراق، حيث يعد هذا الحي، الذي يضم حوالي 320,000 نسمة، أحد أكثر أحياء برلين تنوعًا؛ فأكثر من 40% من سكان نويكولن نشأوا في بلد آخر أو وُلد أحد والديهم خارج ألمانيا.
أعاد رفيق المداح، وهو مواطن سوري فرّ إلى ألمانيا قبل عامين، افتتاح محل باب الحارة للآيس كريم، وعاد لتقديم ذات الآيس كريم التي كان يقدمها غير مرة في دمشق، حيث يقوم على خدمة الزبائن مرتديًا الكوفية على رأسه وبشاربه الطويل والملفوف بعناية، والذي يبدو عربيًا بقدر ما يعكس صورة للموضة الحديثة أيضًا.
يقول المداح بأن الكثير من الألمان يأتون لتناول الطعام والشراب ويبدون متحمسين لمعرفة المزيد عن الطعام والثقافة العربية، وهو بدوره يحب التحدث إلى العملاء حول الحياة في سوريا لتبديد أي صور نمطية قد يمتلكونها حول اللاجئين، “هذا الأمر يكشف لهم وجهة نظر آخرى؛ لقد جئنا إلى هنا، ونحن على استعداد للعمل، نفتح الشركات، ونبني حياة جديدة هنا”، قال المداح، وتابع: “ربما ليس جميعنا، ولكن هذا الأمر يبين للسكان الألمان بأننا نستطيع أن نعمل ونقوم بصنع الأشياء”.
موسى فخرو يخبز الحلويات الألمانية والعربية في متجر حلويات أم كلثوم.
شهد نويكولن تدفقات كبيرة من السكان غير الألمان في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم عندما جاء العديد من الأتراك إلى ألمانيا كـ”عمال ضيوف” واستوطنوا في الحي، كما اطرد عدد المهاجرين ضمن الحي بشكل كبير في باكورة الثمانينيات عندما توافد اللاجئون اللبنانيون والفلسطينيون.
في هذه الأيام، يشكّل الأتراك حوالي 11% من سكان المنطقة، بينما يشكل العرب 10% ومازال العدد يتنامى، كما أن العديد من المحلات التجارية والشركات والمطاعم تحمل لافتات كُتبت باللغة الألمانية والعربية، في الوقت الذي تعرض فيه نوافذ بعض المتاجر تذكارات الاستقلال الفلسطينية، الفستق الحلبي، فساتين الأعراس بأكمام طويلة، وتصاميم الحجابات.
أحياء غير منفصلة
يُرجع الخبراء التنوع السكاني والاجتماعي في نويكولن، بجزء منه، إلى جغرافيا المكان؛ فمعظم الأحياء التي تشهد تواجدًا مكثفًا للمهاجرين في برلين، كأحياء نويكولن، كريوتزبرغ، ووديتغ، تقع في وسط المدينة، كما تجذب هذه المناطق الطلاب والفنانين والألمان من ذوي الدخل المنخفض، مما ساعد على خلق مجتمعات مندمجة ومختلطة، وذلك على النقيض من العديد من المدن الأوروبية الأخرى، مثل أمستردام وباريس، التي يتم ضمنها دفع أحياء المهاجرين بشكل واضح إلى الضواحي.
“معدل الفصل السكني منخفض نسبيًا في ألمانيا”، قال البروفيسور رود كوبمانس من مركز العلوم الاجتماعية ببرلين لصحيفة الميدل إيست آي، وتابع موضحًا: “تشهد المدن الألمانية معدلًا أقل من الانفصال المكاني بين المهاجرين وغير المهاجرين أو بين المسلمين وغير المسلمين من معظم المدن في البلدان الأوروبية الأخرى”.
العديد من المحال في الشارع العربي تحمل أسماء باللغة العربية والألمانية.
وفقًا لكوبمانس، يساعد هذا الخليط الاجتماعي بالقضاء على الحدود العرقية التي تغذي التطرف، ولكن مع ذلك، تتزايد المخاوف من أن أزمة السكن، وهي المشكلة الرئيسية في برلين منذ وصول آلاف طالبي اللجوء في الصيف الماضي، يمكن أن تساعد في إذكاء التوترات.
يعيش اليوم حوالي 1450 لاجئ في نويكولن ضمن مرافق بدائية، كالصالات الرياضية والمباني الكبيرة الأخرى، في جميع أنحاء البلدة، حيث يعبّر المسؤولون المحليون عن قلقهم من أن يسفر هذا الوضع عن التأسيس لبيئة “غير صحية” قد تعمل على تنمية الإحباط في نفوس هؤلاء اللاجئين.
وفي سياق متصل، تقول ماريون تراوتلوف، وهي امرأة ألمانية في منتصف العمر الألمانية تعيش في نويكولن منذ سبعينيات القرن المنصرم، بأن سونيالي أصبح مكانًا أكثر ازدحامًا وصخبًا في السنوات الأخيرة، حيث توضح بأنها استمتعت بالحي القديم بشكل أكبر عندما كان أكثر هدوءًا.
مع ذلك، تصرّ تراوتلوف على أنها لا تكنّ أي ضغينة تجاه اللاجئين، لكنها تجد صعوبة في التواصل معهم، كما تشير إلى أن نويكولن أصبحت الآن ممتلئة، ولا ينبغي أن تستقبل المزيد من القادمين الجدد.
“يساورني شعور بأنهم لا يحبون أن يأتوا ليحاولوا التواصل معنا، بل علينا نحن أن نتعلم كيف نتواصل معهم”، قالت تراوتلوف.
دعم الدولة
أحد القادمين الجدد الذي استوعبتهم نويكولن مؤخرًا هو عبد الله صالح، المواطن السوري الذي يبلغ 25 عامًا والذي وصل إلى ألمانيا في أكتوبر الماضي.
يتعلم صالح، الذي يستأجر غرفة في شقة مشتركة على بعد خمس دقائق سيرًا على الأقدام من سونيالي، اللغة الألمانية اليوم، ويأمل بأن يستطيع أن يلتحق بالجامعة في برلين قبل نهاية العام الجاري.
يوضح صالح بأنه لم يشعر بالراحة عندما زار الأحياء في ضواحي برلين، ولكن في نويكولن، حيث أبرم الصداقات مع العديد من المسلمين وغير المسلمين والسوريين وغير السوريين، وجد صالح منزلًا جديدًا.
“لقد التقيت بأناس رائعين هنا حقًا، إنهم لا يهتمون للمكان الذي أتيت منه، لا يهتمون بدينك، يهتمون بإنسانيتك فقط”.
عبد الله صالح، اللاجئ السوري الذي وصل مؤخرًا إلى الحي العربي ببرلين.
بالرغم مما تقدم، يبدو بأن الشاغل الرئيسي حول نويكولن، هو أن حوالي 93,000 نسمة من سكانها، أي حوالي ثلث السكان، يعتمدون على الإعانات الاجتماعية في حياتهم، وذلك وفقًا لضابط الهجرة في البلدة، ألبرت مينجلكوخ، وفي الوقت الذي تذهب فيه بعض من أموال الرعاية للاجئين، إلا أن أغلب المستفيدين من الأموال في المنطقة هم ممن ولدوا في ألمانيا أو ممن يعيشون في البلاد منذ عقود.
يعد معدل البطالة في نويكولن، 13.9% حسب تقديرات مايو 2016، الأعلى في برلين، وهو أعلى بكثير من متوسط نسبة البطالة في المدينة البالغ 9.7%، ولكن يشير مينجلكوخ لصحيفة الميدل إيست آي بأن السلطات عازمة على تغيير هذا الوضع، بالتزامن مع حرصها على الاستمرار في توفير الدعم الحكومي، لقناعتها بأنه أمر بالغ الأهمية في مجتمع مختلط مثل نويكولن.
“إننا نعطي الكثير من أموال الدولة لتوفير التعايش السلمي الاجتماعي”، قال مينجلكوخ، وتابع: “ماذا سيحدث إذا خفضنا مساعدات الدولة؟ سيعم حينها عدم الرضى بين القاطنين”.
يتم عقد اجتماعات لأعضاء المجتمع المدني والجماعات المحلية في نويكولن بشكل شهري لزيادة موارد المنطقة، ولكي ينخرط الجميع في مهمة اتخاذ القرار والبحث عن أفكار جديدة، “نحن نتخذ القرارات سويًا مع الجاليات العربية والتركية والكردية”، قال مينجلكوخ، وتابع: “هذا الأمر يجمعنا معًا لاتخاذ القرارات سويًا، للضحك سويًا، لنحارب بعضنا بالكلمات، ولنتجنب الخوف”.
المصدر: ميدل إيست آي