المرأة والرجل: علاقة أبدية

منذ أن خلق الله آدم عليه السلام خلق له زوجه، بدأ الكون برجل وامرأة، وكونا أسرة.
لا تدلنا الروايات على أن العلاقة بين آدم وحواء كانت متوترة أو سيئة، بل إن الروايات تتحدث عما يدل على ألفة ومودة بينهما، وتحمّل مشترك للمسؤولية رغم ما قيل عن (توريط) حواء لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة، ومع ذلك لم تنقل لنا الروايات أن آدم لام زوجه أو حملها مسؤولية ما حصل وحدها، كما يفعل أبناؤه اليوم.
وأخبرنا القرآن أن آدم عليه السلام هو من عصى “وعصى آدم ربه فغوى”، ولم يتنصل آدم بدوره من المسؤولية وقال: “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”، فهو رب الأسرة، وهو المسؤول الأول، (وليس الوحيد) عن أخطائها.
لقد أراد الله للكون أن يسير وفق نظام مخطط، وأراد أن تكون الأسرة هي نواة هذه الحياة، ومهما اختلفت المجتمعات وتغيرت الأزمان تبقى الأسرة هي الأساس لأي مجتمع قائم، ورغم تباين وجهات النظر حول الزواج وأهميته وأهدافه، مازال الناس يتزوجون، ومازال التوق لبناء أسرة فطرة فطر الله الناس عليها.
وفي مجتمعاتنا العربية لم نسمع شاعرًا قديمًا انتقد الزواج أو هجاه وكذلك لم نجد من امتدحه أيضًا، فالشعر، خصوصًا عند العرب، كان مرآة تنطق بثقافة المجتمع، (قبل أن يغرق الشعراء في تمحورهم حول ذاتهم، وإتحافنا بخبايا نفوسهم وأجسادهم المعذبة، وكأنهم يعيشون في كوكب منفصل، فلا يشعرون بما يدور حولهم إلا في مناسبات خاصة).
كانت النظرة للزواج مختلفة، فهو فطرة، وهو سنة مستحبة، وهو سكن، وهناك قدرة على تكراره، والقيام به مرة بعد مرة، دون تبعات أسرية أو استنكار من المجتمع، إلا إذا تعدى حدوده، حتى صار مبالغة غير مقبولة.
وكان أسلافنا مزواجين مطلاقين، رجالًا ونساءً، فكما أن الرجل يتزوج ويطلق ثم يتزوج من جديد، فكذلك المرأة تتزوج وتُطلق وتتزوج مرة بعد مرة.
ولم تكن كلمة “عانس” التي نستخدمها الآن للمرأة التي فاتها قطار الزواج مستخدمة بنفس المعنى، فقد قال الأصمعيّ: “لا يقال عَنَّسَتْ، ولكن عُنِّسَتْ على ما لم يسمّ فاعله، وعَنَّسَها أهلها”، أي أن أهلها هم من حبسوها عن الزواج، حتى عُنّست، وهذا لا ينفي وجود حالات خاصة طبعًا، لكنها لم تكن متضخمة كما هي الآن، حيث نجد ملايين العزّاب والعوانس من الجنسين، راغبين في الزواج ولا يقدرون عليه.
وكذلك الطلاق، وهو أبغض الحلال عند الله، لم يكن كارثة كبرى كما هو الآن، يشرد الأسر، وتعاني آلامه النساء والأولاد والرجال، ذلك أن المرأة كانت تتزوج من جديد غالبًا، وبالطبع الرجل كذلك، أما الأولاد فكانوا يعيشون ضمن أسرة كبيرة لا تقتصر على الأب والأم، أسرة عريضة ممتدة، متمثلة بالقبيلة والعصبية، يعيش فيها الولد ولا يكون اعتماده على أمه وأبيه فقط، بل هو فرد من جماعة كبيرة، يعيش ضمنها وينشأ معتمدًا على نفسه، وعلى وجود أهل يحمونه ويرعونه.
لكن مع اختلاف الظروف والمجتمعات صار الطلاق كارثة تلحق بالأسرة، يعاني آلامها الأبناء من تشريد وإهمال وفقدان للحنان والرعاية والدفء الأسري، حيث تغير مفهوم الأسرة، وصارت صغيرة قاصرة، تظهر آثار انهيارها بصورة واضحة عند غياب أحد الأبوين، ومع ذلك ترى الطلاق منتشرًا بصورة جعلته كالبلاء، وما ذلك إلا لسوء فهم الطرفين لشراكة الزواج، التي يتبعها سوء في الاختيار، وقسوة وجفاء في العشرة والمعاملة بين الزوجين.
جاء هجاء الزواج ومديحه في مجتمعاتنا في عصور متأخرة، عندما غدا الزواج عبئًا له تبعاته، جراء ارتفاع التكاليف المعيشية وغياب أشكال التكافل الاجتماعي تدريجيًا من المجتمع، وعندما تغيرت النظرة للزواج عمومًا، وتغيرت معه أشكال المسؤولية التي يجب أن يلتزم بها المتزوج، وكذلك تبعات الطلاق وآثاره السيئة.
وحين لم تكن تكاليف الزواج قديمًا عائقًا أمام الرجل أو المرأة، كان الرجل يتزوج مهما كان فقيرًا، ولم يكن توافر المال شرطًا لازمًا للزواج، رغم تفضيل الغنى الفطري عمومًا، فالقرآن حضّ على تزويج الفقراء من المسلمين، يقول تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم}، وقد زوج الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – رجلًا بما معه من القرآن، وزوج آخر بخاتم من حديد، وقال فيما رواه البخاري: “من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء”.
ويبدو أن الزواج وتوفر المال باتا أمرين متلازمين في عصرنا الحالي، بل إن وجود المال وكثرته صارت أولوية يُكتفى بها، دون النظر إلى غيرها! وفي كثير من الحالات يترافق هذا الزواج أو الصفقة مع إهمال رأي البنت ورغبتها، وهل يؤخذ رأي سلعة فيمن يشتريها؟!
أما تعدد الزوجات، فبعد أن كان عرفًا اجتماعيًا مقبولًا قديمًا، له مبرراته وحاجاته، فقد بات شرًا وظلمًا يرتكبه بعض الرجال بحق نسائهم دون حاجة، ودون حساب لعواقبه وتبعاته التي تنعكس على الأسرة وبنائها، فللتعدد شروط ومقاصد وأسباب، لا تتحقق في زماننا للأسف إلا نادرًا، فلا الزوجة ترضى بالضرة، ولا الزوج يقدر على ضبط الأمور والعدل بين زوجاته إلا من رحم ربي.
كثيرة هي البيوت التي يعيش فيها الزوج وزوجته حياة جافة، خالية من التواصل الحقيقي المطلوب، حيث يغلب النكد والخصام والتنافر على التشارك والوفاق والمودة، وهناك دراسات تُظهر مدى غلبة الرغبة بالانفصال من أحد الطرفين إذا ما سنحت الظروف، على البقاء ضمن إطار الزواج، وما انتشار الطلاق وكثرته، إلا دلالة على ضحالة جذور الروابط الأسرية في مجتمعاتنا.
ولكنني لا أظن أن أحد يخالفني الرأي بأن قوام الحياة هو في ارتباط رجل وامرأة، ارتباطًا يقدس الحياة المشتركة، ويعرف فيه كل طرف واجباته، وحقوق الطرف الآخر، ارتباطًا يزيد أواصر المودة والرحمة بينهما، بحيث يصير كل واحد منهما سكنًا للآخر، لا شريك فراش فقط، أو مقيمًا بالإكراه ينتظر فرصة حل هذا الارتباط الواهي في أي وقت.