في بلدٍ يعشق أبناؤه كرة القدم حتّى النّخاع، ويرون في نجوم السّاحرة المستديرة ما يرونه في أبطالهم القوميين، لا غرابة أن نجد مشاعر الغضب والاستياء هي السائدة عند جلّ الأتراك تجاه منتخبهم الوطنيّ، لدى عودته من مشاركةٍ مخيّبةٍ للآمال في بطولة أمم أوروبا الحاليّة، التي لم يتجاوز فيها حدود الدّور الأوّل، بعد أن مُني بهزيمتين أمام كلٍّ من كرواتيا وإسبانيا، مقابل فوزٍ يتيمٍ على منتخب جمهوريّة التشيك، لم يكن كافيًا لإحياء ذكرى اللّوحات الجميلة، التي اعتاد نجوم منتخب (الهلال والنجمة) على رسمها خلال جميع مشاركاته السابقة في البطولات الكبرى منذ مطلع الألفيّة الحاليّة، فما هي قصة نهضة الألفيّة في كرة القدم التركيّة؟ وكيف تحوّل المنتخب التركي بفضلها من مجرّد رقمٍ لا هويّة له ولا إنجازات، إلى اسمٍ كبيرٍ لا يُستهان به في محافل الكرة الأوروبيّة والعالميّة؟
منتخب تركيا المشارك بأولمبياد باريس 1924
يعود تاريخ تأسيس الاتّحاد التّركي لكرة القدم إلى عام 1923، حيث تشكّل المنتخب الوطني للجمهوريّة التركيّة ولعب أولى مبارياته الدّوليّة في العام ذاته، وكانت أمام منتخب رومانيا في اسطنبول، وانتهت بالتعادل بنتيجة 2-2، بعد أن سجّل المهاجم التاريخي زكي رضا سبوريل أوّل هدفين في تاريخ منتخب أحفاد العثمانيين في تلك المباراة.
ولم ينتظر الأتراك كثيرًا بعدها ليظهروا في المحافل العالميّة، حيث أتيحت له فرصة التواجد في أولمبياد باريس عام 1924، ثم أولمبياد أمستردام عام 1928، ثم أولمبياد برلين عام 1936، دون أن ينجحوا في تجاوز الدّور الأوّل خلال مشاركاتهم ال3، قبل أن ينجح جيل أواخر الأربعينيات بقيادة النجم الأسطوري ليفيتير في فعل ذلك، من خلال بلوغ الدّور ربع النهائي خلال دورتي: لندن 1948 وهلسنكي 1952.
وتابع ذلك الجيل نجاحاته، فقاد المنتخب للتأهّل إلى كأس العالم للمرّة الأولى في تاريخه، وذلك في مونديال سويسرا عام 1954، والذي شهد تسجيل الأتراك هدفهم الأوّل في تاريخ كؤوس العالم عبر نجمهم سوات مامات، وذلك في الدقيقة الثانية من مباراتهم الأولى أمام ألمانيا الغربيّة، التي انتهت بهزيمتهم بنتيجة 1-4، قبل أن يحققوا فوزًا كبيرًا على كوريا الجنوبيّة بسباعيّةٍ بيضاء، في المباراة التي شهدت تسجيل المهاجم التركي برهان سرجون ثلاثيّةً تاريخيّة، لتتجدّد مواجهتهم مع العملاق الألمانيّ بحسب نظام البطولة آنذاك، وينقادوا إلى هزيمةٍ مريرةٍ أمامه بنتيجة 2-7.
تلك الهزيمة لم تضع حدًّا لمسيرة الأتراك خلال تلك البطولة فحسب، بل كان لها أبلغ الأثر في وأد أحلام أبناء الأناضول بالتحوّل إلى منتخبٍ عالميٍّ يتواجد وينافس في جميع البطولات، فباستثناء مشاركته الأولمبيّة الأخيرة في أولمبياد روما عام 1960، والتي لم يتجاوز خلالها الدّور الأوّل، فشل منتخب الهلال والنجمة في التأهّل إلى أيّ محفلٍ كرويٍّ عالميٍّ على مدى 4 عقودٍ ونيّف، حتّى نجح المدرّب فاتح تيريم في قيادتهم للتأهّل إلى بطولة أمم أوروبا التي استضافتها إنجلترا عام 1996، وهناك لم يقو اللاعبون الأتراك بعودهم الطريّ على مقارعة صناديد القارّة العجوز، فتجرّعوا 3 هزائم متتاليةً أمام كلٍّ من كرواتيا، البرتغال والدانمارك، ألقت بهم خارج البطولة دون أيّة بصمةٍ تُذكر، ليستمر انتظار بزوغ فجر الكرة التركيّة، والذي تأخّر نتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور الذي كانت ترزح البلاد تحت تأثيره خلال تلك العقود، والذي ألقى بأوزاره الثقيلة على شتّى مجالات الحياة، ولم تكن كرة القدم عن ذلك باستثناء.
المدرّب التركي الشهير فاتح تيريم
وبقي الوضع على حاله حتّى مطلع الألفيّة الجديدة، الذي شهد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم في البلاد، لتُفتح معه صفحةٌ جديدةٌ في تاريخ الجمهوريّة التركيّة، عنوانها النهوض الاقتصاديّ والاجتماعيّ، الذي تحقّق بعد إزالة الأسباب التي كانت تعيق ظهوره، من صداماتٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ وخارجيّة، إلى غيابٍ للأمن والاستقرار وسلطة القانون، إلى تفشّي الفساد والبيروقراطيّة في أروقة المؤسسات التركيّة، لترتدي الجمهوريّة التركيّة خلال سنواتٍ قليلةٍ، حلّةً حضاريّةً باهيةً تتناسب مع حجمها التاريخي والإقليميّ، ممّا انعكس إيجابًا على كافة مفاصل الحياة هناك، بما فيها الرياضة ولا سيّما كرة القدم، التي شهدت نهضةً شاملةً على صعيد الملاعب والمنشآت والأندية، فاتّخذ الدّوريّ التركيّ شكلًا جديدًا تحت اسم (السوبر ليغ)، الذي حظي بدعمٍ حكوميٍّ مباشر، من تسهيلاتٍ ماليّةٍ واقتصاديّةٍ لأنديته، إلى دعمٍ لمشاريع الاستثمار والتطوير فيها، إلى تسهيلاتٍ خاصّةٍ بانتداب النجوم الأجانب، الذين أصبح الدّوريّ التركيّ إحدى وجهاتهم المفضّلة في العالم، بفضل الأمن والرفاهية الذي أصبح المجتمع التركي ينعم به، إضافةً إلى الرواتب الممتازة التي أصبحت الأندية التركية تغدقها، فضلًا عن قيمة الضرائب المنخفضة على مداخيلهم مقارنةً بالدّوريّات الأوروبيّة الأخرى، ممّا أغرى كثيرًا من نجوم الكرة العالميّة باللّعب ضمن السوبر ليغ، بدءًا بالروماني جورجي هاجي، البرازيليين كلاوديو تافاريل وروبيرتو كارلوس، الآرجنتيني آرييل أورتيغا، والتشيكي ميلان باروش، ومرورًا بالإيفواري ديديه دروغبا، الفرنسي فرانك ريبيري، الهولندي ديريك كاوت، الصربي ماتيا كيزمان، والإسباني داني غويزا، ووصولًا إلى النجوم الحاليين كالكاميروني صامويل إيتو، الألمانيين ماريو غوميز ولوكاس بودولسكي، والهولنديين ويسلي شنايدر وروبن فان بيرسي، وكلّهم من ألمع وأفضل نجوم الكرة الأوروبيّة والعالميّة.
وبالتوازي مع تطوّر الدوريّ التركيّ، شهد المنتخب الوطنيّ التركيّ قفزةً نوعيّةً ملموسة، تمثّلت بتجاوزه الدّور الأوّل للمرّة الأولى خلال مشاركاته الكبرى، وذلك عندما تمكّن أبناء المدرّب مصطفى دينزلي من هزيمة المنتخب البلجيكي المضيف في آخر مباريات الدّور الأوّل من بطولة أمم أوروبا عام 2000، ليظفروا بالمركز الثاني في مجموعتهم خلف إيطاليا ويتأهّلوا لملاقاة البرتغال في الدّور ربع النهائي، حيث انتهى مشوارهم بهزيمةٍ وخروجٍ مشرّف.
منتخب تركيا صاحب المركز الثالث في كأس العالم 2002
وبعدها بعامين، سجّل أحفاد العثمانيين حضورهم الثاني في بطولات كأس العالم، من خلال تأهّلهم إلى مونديال اليابان وكوريا 2002، الذي كتب خلاله نجوم الجيل الذهبيّ للكرة التركيّة شهادة ميلادهم، وأبهروا العالم بعروضٍ شيّقةٍ ومستوياتٍ ممتازةٍ أهّلتهم لإحراز المركز الثالث في البطولة، بعد مشوارٍ حافلٍ تجاوزوا من خلاله الصّين واليابان والسّنغال، قبل أن يخسروا بصعوبةٍ أمام البرازيل في نصف النهائيّ بهدفٍ وحيد، وينهوا مسيرتهم بانتصارٍ ثمينٍ على منتخب كوريا الجنوبيّة المضيف، ضمن لهم الصعود إلى منصة التتويج العالميّة بصفتهم أصحاب المركز الثالث، كما ضمن لنجومٍ كروشتو، هاكان شوكر، حسن شاش، إيمري بيلوزوغلو، ألباي أوزلان، أوميت دوفالا، يلدراي باشتورك، إيلهان مانسيز، وباقي كتيبة منتخب الهلال والنجمة تحت قيادة المدرّب شينول غونيش، دخول التاريخ التركيّ من بابه الواسع والتحوّل إلى أبطالٍ قوميين في البلاد.
إيمري بيلوزوغلو أحد نجوم الجيل الذهبي للكرة التركيّة
وتابع أبناء الجيل الذهبيّ كتابة التاريخ، فشاركوا في بطولة كأس القارات التي استضافتها فرنسا عام 2003، واستطاعوا إحراز المركز الثالث فيها، بعد تحقيقهم نتائج مبهرة، أبرزها التعادل مع البرازيل 2-2، والفوز على الولايات المتّحدة وكولومبيا، وعادوا إلى بطولة أمم أوروبّا عام 2008، في النسخة التي استضافتها النمسا وسويسرا، واستطاع من تبقّى منهم بمساعدة نجوم الجيل الصاعد كآردا توران، نهاد قهوجي، تونكاي سانلي وحميد ألتينتوب، تحت قيادة المدرّب الكبير فاتح تيريم صانع أمجاد نادي غلطة سراي في بداية الألفيّة، تسجيل أفضل مشاركةٍ لتركيا في البطولة القاريّة، من خلال بلوغهم المربّع الذّهبيّ للبطولة، بعد أن قدّموا عروضّا قويّةً اتّسمت بالروح العالية والقتاليّة، ممّا مكّتهم من تجاوز كلٍّ من سويسرا والتشيك ثم كرواتيا، قبل أن يُهزموا أمام ألمانيا في نصف النهائي بنتيجة 2-3، بعد ملحمةٍ كرويةٍ خالدةٍ لم تُحسم حتّى اللحظات الأخيرة.
أردا توران أبرز نجوم الجيل التركي الحالي
وخفت بريق الجيل الذهبيّ بعدها، ففشل في بلوغ بطولتي كأس العالم التاليتين وبطولة أمم أوروبا 2012، قبل أن يعود فاتح تيريم لاستلام دفّة تدريب المنتخب، ويتمكّن من إعادته إلى خارطة البطولات الكبرى، من خلال قيادته جيلًا مليئًا بالمواهب والخبرات، كأردا توران، نوري شاهين، براق يلمظ، هاكان كالهانوغلو، إيمري مور وغيرهم، إلى نهائيّات بطولة أمم أوروبّا الحاليّة، بعد نجاحهم في تخطّي مشوار التصفيات المؤهّلة على حساب هولندا، ليدخل أحفاد العثمانيين المعترك الأوروبيّ، والأمل يحدوهم بإحياء أمجاد العقد الأوّل من الألفيّة، ولكنّ الطموحات أُحبطت، والآمال تحطّمت على صخرة الواقع، بعد أن وجد الأتراك أنفسهم خارج أسوار البطولة الفرنسيّة من دورها الأوّل، بعد أداءٍ لم يرتقِ إلى مرتبة الإقناع ولا الإمتاع، لتعود الجماهير التركيّة إلى وضع كفّها على خدّها بانتظار ظهور جيلٍ ذهبيٍّ جديد، أو اكتمال نضج الجيل الحالي الذي لا يفتقر إلى المواهب والإمكانات، بقدر افتقاره إلى حماس وقتاليّة وتفاني أسلافهم، الذين وضعوا أرواحهم ودماءهم في خدمة قميص الهلال والنجمة، فبلغوا مبالغ النجاح والسؤدد.