ترجمة وتحرير نون بوست
اعتاد القادة الأمريكيون على تقديم فروض الدعم والحماية للمملكة العربية السعودية، ولا يعد الرئيس باراك أوباما استثناءًا من هذه القاعدة؛ ففي اجتماع عقد مؤخرًا في واشنطن بين أوباما ونائب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أكد أوباما مرة أخرى على “الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية”.
من هذا المنطلق، يجدر بنا التساؤل حول سبب استمرار واشنطن بالتزاماتها تجاه العلاقة مع السعوديين ودول الخليج الأخرى؛ فرغم حكمها من قِبل حكومات استبدادية، سوء معاملتها للنساء، ومساهماتها في انتشار التطرف الإسلامي، تختار واشنطن أن توائم نفسها مع أنظمة لا تعكس القيم أو المصالح الأمريكية المفترضة.
الجواب على هذا السؤال يكمن في السياسة الأمريكية البالغة من العمر 36 عامًا، والتي صاغها في بداية المطاف الرئيس جيمي كارتر؛ ففي خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه في عام 1980، تعهد كارتر بحماية التدفق الحر للنفط من الخليج العربي، مشيرًا إلى أن الغزو السوفييتي لأفغانستان جلب القوات السوفيتية على مقربة من مضيق هرمز، الممر المائي الذي يعبر من خلاله معظم نفط العالم، الأمر الذي يشكل تهديدًا خطيرًا لحرية حركة النفط في الشرق الأوسط.
في ذاك الوقت، ذهب كارتر إلى اعتبار أن دول الخليج الغنية بالنفط تشكّل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، وتوعّد بالدفاع عن المصالح الأمريكية هناك “بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية”.
منذ بزوغ ما يسمى بـ”عقيدة كارتر”، استمر كافة الرؤساء الأميركيين اللاحقين بمعاملة دول الخليج باعتبارها مصلحة حيوية بالنسبة لواشنطن، حتى أوباما، وعلى الرغم من رغبته في انتشال الولايات المتحدة من حروبها المكلفة في العراق وأفغانستان، التزم بمبدأ ضرورة حماية الجيش الأمريكي لتدفقات نفط الخليج “لضمان حرية تدفق الطاقة من تلك المنطقة إلى العالم”، وفقًا لما جاء على لسانه.
ولكن مع ذلك، العالم تغيّر على مدى العقود التي تلت التزام كارتر بحماية دول الخليج العربي، ويتوجب على رئيس الولايات المتحدة القادم أن ينبذ “عقيدة كارتر” ويسحب الوجود العسكري الأمريكي من دول الخليج.
ولكن لماذا يتوجب على أمريكا أن تفعل ذلك؟
أولًا وقبل كل شيء، الأمر نابع من التكلفة؛ لأن دافعي الضرائب الأميركيين ينفقون ثروة طائلة لإبقاء حوالي 30,000 جندي أميركي والعديد من السفن والطائرات ضمن منطقة الخليج؛ حيث تشير التقديرات بأن تكلفة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج تتراوح ما بين 50 مليار وحتى 90 مليار دولار سنويًا، كما يقدر أحد المحللين بأن الولايات المتحدة أنفقت 6.8 ترليون دولار ما بين عامي 1980 و2007 للحفاظ على تدفق النفط من الخليج.
تلك الأموال تشتد إليها الحاجة في أماكن أخرى؛ فالدين الإجمالي لواشنطن يبلغ اليوم 19 ترليون دولار، وهو ما يغطي 100% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما أن شيخوخة السكان في أمريكا تضع تكاليف الاستحقاقات الداخلية، كالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، على مسار غير مستدام، فضلًا عن أن الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين صنفت مؤخرًا البنية التحتية للولايات المتحدة بدرجة +D، مستشهدة بـ”الحاجة الملحة لتحديثها”، الأمر الذي ينطوي على إنفاق 3.6 مليار دولار بحلول عام 2020، أضف إلى ذلك المجموعة الوافرة من الأسباب المالية الأخرى التي تقتضي تقليص الوجود الأمريكي في الخليج.
في هذا السياق، ولحسن الحظ بالنسبة للولايات المتحدة، فإن التغيرات الحاصلة في أسواق الطاقة العالمية اليوم جعلت هذا الأمر ممكنًا؛ فبفضل ازدهار صناعة استخراج النفط، يمكن للحفارات الأمريكية الآن استخراج النفط من الصخر النفطي، مما يفسح الباب أمام الوصول إلى إمدادات جديدة هائلة من النفط المحلي؛ فقبل عامين تفوقت الولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية كأكبر منتج للنفط في العالم، ونتيجة لذلك، وفي عام 2015، استوردت الولايات المتحدة 24% فقط من النفط الذي اعتادت على استيراده، وهو أدنى مستوى لاستيراد النفط في البلاد منذ عام 1970.
وعلاوة على ذلك، شهدت الولايات المتحدة تطور مصادر الواردات النفطية أيضًا خلال العقود الأخيرة، حيث شهدت الواردات النفطية من دول الخليج العربي انخفاضًا سريعًا، ويُتوقع أن تطّرد هذه الواردات بالانخفاض حتى تصل إلى نسبة 80% بحلول عام 2025، أي بحدود 300,000 برميل فقط في اليوم الواحد، وستختفي هذه الواردات تمامًا في السنوات اللاحقة، وفي الوقت عينه، ارتفعت حصة النفط المستورد من كندا لأكثر من الضعف في السنوات الـ20 الماضية.
وفقًا لدراسة أجراها البيت الأبيض مؤخرًا، تبين بأن استهلاك الولايات المتحدة للنفط في عام 2014 كان في أقل مستوى له منذ عام 1997، على الرغم من حقيقة أن الاقتصاد الأمريكي نما بنسبة 50%؛ و يُنسب هذا الانخفاض إلى زيادة كفاءة استخدام الوقود وانتشار مصادر الطاقة البديلة، حيث يقدر عدد من المحللين بأن الولايات المتحدة ستصبح قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي النفطي بحلول عام 2030.
حتى لو افترضنا جدلًا بأن نفط الخليج سيبقى بحاجة للحماية، فيجب على الولايات المتحدة حينها أن تترك للصين والدول الآسيوية الأخرى عبء تحمل هذه المهمة؛ فأمريكا تستورد 16% فقط من نفطها من دول الخليج، في حين تستورد الصين، التي تجاوزت الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مستورد للنفط في العالم، أكثر من 70% من احتياجاتها من النفط من منطقة الخليج.
إذن يبدو الأمر في جوهره اليوم كالتالي: الولايات المتحدة تدعم أمن الطاقة لأعتى منافسيها الاقتصاديين والجيوسياسيين في القرن الـ21، الأمر الذي لا يمكن أن نصفه بالمنطقي؛ وإذا كان يمكن أن نصنف أي تصرّف للولايات على أنه “صفقة أمريكية سيئة”، كما يقول دونالد ترامب، فإن هذا التصرف ينطبق بشدة على ذلك.
يشير البعض بأن “عقيدة كارتر” لعبت دورًا في جر الولايات المتحدة إلى ثلاث حروب في منطقة الخليج العربي، وحتى نكون منصفين، لم يكن النفط سوى أحد العوامل التي ساهمت في تلك التدخلات الأمريكية، ومن المبالغة حقًا أن نصف عمليات واشنطن العسكرية في الخليج العربي باسم “حروب النفط”، ولكن مع ذلك، يحق لنا التساؤل عمّا إذا كانت الولايات المتحدة ستلجأ حقًا إلى إنفاق الدم والثروات ضمن الخليج لولا “عقيدة كارتر” وإدمان البلاد التاريخي على النفط المستورد.
لقد حان الوقت لترى واشنطن الخليج العربي باعتباره مصلحة هامشية لا حيوية، حيث ينبغي أن يبتدر الرئيس المقبل ولايته بالقول إن “عقيدة كارتر” لن تبقى محور السياسة الأميركية.
المصدر: رويترز