عباس كيارستمي هو المخرج الإيراني الحائز فيلمه “طعم الكرز” على جائزة السعفة الذهبية عام 1997، وهي أعلى جائزة تُمنح لفيلم في مهرجان كان السينمائي، لقبوه بالغامض في حياته الخاصة وحياته العملية في مجال السينما، لقد غيّر حياة الكثيرين، وكان إلهامًا لآخرين، حيث لم يفقد عالم السينما مُخرجًا مبدعًا فحسب، بل خسر العالم أيضًا رجلًا عظيمًا برحيل عباس كيارستمي، الذي توفي منذ بضعة أيام عن عمر يناهز السادسة والسبعين سنة.
وُلد كيارستمي في طهران، كان الرسم هو أول تجربة له في مجال الفن، عمل بالرسم حتى عمر الـ 19، انفصل عن بيته وهو في عمر الثامنة عشر، وربح في مسابقة رسم قبل دخوله كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران بفترة، والتي درس فيها الرسم وتصميم الجرافيك، كان يعمل في شرطة المرور أثناء دراسته، وعمل رسامًا ومصممًا وكاريكاتيري في مجال الدعاية والإعلان عام 1960، صور ما يقرب من 150 إعلانًا للتليفزيون الإيرانى بين عامى 1962-1966، ومن ثم بدأ في إعداد مقدمة للأفلام، ليدخل منها إلى عالم الإخراج.
في حديث له مع صحيفة الغارديان عام 2005 قال بأنه عندما بدأ في تصوير الأفلام، كان في مركز التأهيل والتنمية الفكرية للأطفال والشباب، وكان عمله آنذاك هو تصوير أفلام خاصة بمشاكل الأطفال، إلا أن ذلك العمل ساعده في التحول إلى عباس كيارستمي الفنان، والذي فتح له بابًا للسينما الإيرانية ومنها إلى العالمية، ففي عام 2003، رشحته صحيفة الغاريان كذلك للحصول على المركز السادس ضمن قائمة أفضل مخرجين سينمائيين.
كان كيارستمي ممن فضلوا البقاء في إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979، على عكس كثير من المخرجين الذين تركوا إيران وتوجهوا إلى دول الغرب، لذا كانت الحياة في إيران والهوية القومية من أكبر القرارات التي اتخذها في حياته الشخصية والمهنية أيضًا، والتي عززت من موهبته كمخرج، وأكد على ذلك بقوله بأنه إن رحل سيكون كالشجرة التي تُقتلع جذورها، والتي إن تم نقلها لمكان آخر، لن تستطيع طرح الثمار مجددًا، وهذا هو حاله إذا رحل عن وطنه، لذا فضل كيارستمي البقاء على الرغم من فرض القيود الرقابية الجديدة في عالم السينما الإيرانية بعد الثورة الإسلامية.
يشير العديد من فناني السينما الإيرانية بأن الفضل يعود لعباس كيارستمي في إعطاء السينما الإيرانية تلك السمعة التي تكتسبها الآن، والتي استطاع تحقيقها عن طريق ثلاثية الكوكر والتي أوضحت حسه الفني ودقته الفكرية للعالم، والتي بدأت بفيلم “أين الصديق”؟ والذي انتهى عام 1987، وهو الفيلم الذي حاز على أول جائزة قيمة في مسيرة كيارستمي الفنية، وهي جائزة مهرجان لوكارنو السينمائي.
يأتي بعد ذلك فيلم “الحياة، ولا شيء بعد ذلك” من ضمن الثلاثية، وهو الفيلم الذي انتهى عام 1992، صّور الفيلم أحداث ما بعد الزلزال المدمر الذي ضرب إيران عام 1990، وهو تجربته الأولى في تصوير الأفلام الوثائقية، ومن ثم يأتي الفيلم الأخير “كلوز آب” والذي يصوّر رجل انتحل شخصية مخرج سينمائي يدعي محسن مخملباف، كان “كلوز آپ” من أشهر الأفلام التى أخرجها كيارستمي عام 1990، والفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية حيث يحكي قصة شخص قام بخداع عائلة غنية بادعائه أنه المخرج المشهور محسن مخملباف، إذا تم التفكير في هدف حسين سابزيان الذي كان سرقة العائلة المذكورة، يتضح أن السبب الذى جعله يتصرف بهذا الشكل أكثر تعقيدًا، وهو فيلم وثائقي، وقد عزز من موهبة مخملباف الثقافية والفنية عندما كان سابزيان يبحث عن حقيقة أخلاقه مدعيًا أنه مخملباف.
وقد تم مدح الفيلم من قبل العديد من المخرجين المشهورين مثل كوينتن تارانتينو ومارتن سكورسيزي وفرنر هرتزوغ وجان – لوك غودار ونانى مورتى، ومن ثم يأتي كيارستمي في النهاية مؤلفًا ومخرجًا مساعدًا للعديد من الأفلام الأخرى وذلك بسبب تشديد الرقابة على الأعمال السينيمائية في ذلك الوقت.
“طعم الكرز”، هو الفيلم الذي صعد به كيارستمي إلى العالمية، وهو فيلمه السابع، الحاصل على جائزة السعفة الذهبية “Palme d’Or”، وهي أعلى جائزة تُمنح في مهرجان كان السينمائي، والتي نالها الفيلم بالاشتراك مع فيلم “The Eal” للمخرج الياباني “إيمامورا شوهيه”، يدور فيلم طعم الكرز Taste of Cherry حول رجل أزمته فيمن يدفنه بعد انتحاره، لذلك يلجأ من خلال صورة عميقة ومعبرة عن مأساته وحوار مليء بالشجون إلى مجند كردي، وشاب أفغاني، ورجل تركي عجوز له محاولة سابقة في الانتحار.
رابط الفيلم
لم يقتصر عباس كيارستمي على السينما التقليدية فحسب، وهذا يظهر في تصويره للدراما الشعرية “The Wind Will Carry Us and Ten الريح ستحملنا وعشرة”، وهي التي وضحت شغف كيارستمي بالتصوير داخل السيارات، كما اتجه كيارستمي دوليًا بتصويره فيلم “إيه بي سي إفريقيا” ” ABC Africa”، الذي صوّر فيه الملاجئ التي تضم الأطفال مرضى الإيدز في أوغندا.
فى عام 2002 أخرج كيارستمي فيلم 10 بأسلوب مختلف تاركًا العادات التي تم اتباعها حتى ذلك اليوم في حكاية الفيلم وكتابة السيناريو، ركز كيارستمي في هذا الفيلم على المشاهد السياسية والاجتماعية في إيران، من خلال مشاهد امرأة تتجول بسيارتها لعدة أيام في شوارع طهران.
يشتمل هذا الفيلم على محادثات مع عشرة من المسافرين طوال سفر المرأة ومعها أختها، وقد أشاد كاتب نيويورك تايمز أنطوني أوليفر سكوت الذي يعتبر من كتاب السينما المحترفين بالأسلوب الذي تم اتباعه في فيلم 10.
لم يكن من السهل أبدًا على كيارستمي تصوير أفلامه مؤخرًا في إيران مع وصول أحمدي نجاد للسلطة، لذا نجد فيلميه الأخيرين “الصورة المُصدقة Certified Copy” و”كأنه وقع في الحب Like Someone in Love” تم تصويرهما في الخارج، واحدًا في إيطاليا والآخر في اليابان، إلا أنهما لم يخلوا من مشاهد كيارستمي التي تمتاز بالأصالة الإيرانية المعتادة في أفلامه، نال كل من الفيلمين مكانًا في مهرجان كان، ونال الفيلم الأخير جائزة أحسن ممثلة والتي حصلت عليها الممثلة الفرنسية “جولييت بينوش”.
توفي عباس كيارستمي منذ بضعة أيام في باريس، بعد تدهور حالته الصحية بسبب إصابته بسرطان الجهاز الهضمي، وفي تعقيب لزملائه المخرجين من طهران لصحيفة الغارديان قال المخرج أصغر فرهادي بأن خسارته تعد صدمة لعالم السينما، فلم تخسر السينما مخرجًا مبدعًا فحسب، بل خسر العالم رجلًا رائعًا أيضًا.
كما قال المخرج محسن مخملباف بأن سمعة السينما الإيرانية في الخارج تعود لهذا المخرج العظيم، على الرغم من اجتهاده الفني الذي تم تقديره من قِبل السينما العالمية، إلا أن ذلك لم يُقدر بالشكل الكافي داخل إيران، ولكن هذا لا يمنع من أن عباس كيارستمي هو من أعطى للسينما الإيرانية مصداقية ووجود فعال في السينما العالمية.