منذ نهاية ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في الـ 24 من مايو 2014، وتعاني الجمهورية اللبنانية من “فراغ” رئاسي قاتل، أصاب الشارع السياسي بحالة من الإحباط والترقب خشية ما يمكن أن يترتب على هذا الوضع غير المسبوق في تاريخ المنطقة، من آثار تلقي بظلالها القاتمة على المشهد اللبناني بصورة عامة.
عامان على خلو كرسي الرئاسة اللبناني من خليفة لـ “سليمان” تخللهما 44 جلسة برلمانية لاختيار رئيس جديد للبلاد، لكنها باءت جميعًا بالفشل، 5 منهم في فترة الشهرين التي سبقت انتهاء الولاية والمحددة من الدستور، لم ينجح في المرة الأولى بتأمين أغلبية الثلثين المطلوبة لفوز أحد المرشحين بينما عجز في المرات اللاحقة عن الالتئام بسبب عدم اكتمال نصاب الجلسات المحدد بغالبية الثلثين، و39 جلسة عقدها البرلمان بعد انتهاء الولاية لانتخاب رئيس من مرشحين اثنين يلقيان دعمًا من كتل نيابية رئيسية، هما مؤسس التيار الوطني الحر النائب ميشال عون، ورئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، لكن دون أي نتيجة تذكر.
وتأتي زيارة وزير الخارجية الفرنسي، اليوم الإثنين، لبيروت، في محاولة جديدة لتحريك الاستحقاق الرئاسي بعد عدة اتصالات أجريت على الخط الإيراني – السعودي خلال الفترة الماضية لمناقشة هذه الأزمة، فهل يحمل جان مارك إيرولت داخل حقيبته ما يمكن أن يسرع بإنهاء هذه الحالة وملء الشغور الرئاسي؟ وما الرسائل التي يسعى لتوجيهها للبنانيين خلال هذه الزيارة؟
الشغور الرئاسي مسؤولية من؟
على مدار عامين كاملين ومنذ نهاية ولاية ميشال سليمان، والشارع اللبناني يحيا حالة من التراشق الإعلامي والسياسي حول المتورط الرئيسي في إبقاء الوضع على ما هو عليه، لاسيما بعد تأكيد القوتين الفاعلتين في لبنان – السعودية وإيران – على أن اللبنانيين وحدهم من بيدهم الخروج من هذا المأزق، وعليهم أن يتفقوا أولاً كخطوة أولى نحو حلحلة الأزمة.
سياسة الصيد في الماء العكر التي تنتهجها القوى الفاعلة في المشهد السياسي اللبناني دفعت بعض المحللين المقربين من دوائر صنع القرار في بيروت إلى التأكيد على أن آفاق الاستحقاق الرئاسي مسدودة، ولا يوجد انفراجات قريبة لملء هذا الشغور، كما قال بذلك المحلل السياسي سعد كيوان.
كيوان أضاف في تصريحات صحفية للجزيرة في وقت سابق أن الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بهذا الملف تعي جيدًا أن أزمة الرئاسة في لبنان طويلة وممتدة ولا يمكن تحريكها حاليًا، دون التوصل إلى اتفاق داخلي بين القوى السياسية، وهو أمر يصعب في الوقت الراهن، لاسيما في ظل انشغال حزب الله بالأزمة السورية وهو ما يجعل إجراء أي انتخابات داخل لبنان هذه الأيام، خارج نطاق حساباته السياسية.
والملاحظ خلال الأشهر الماضية أن هناك اتفاق واضح في الرؤى بين الرياض وطهران بشأن عدم التدخل في اختيار رئيس لبنان القادم، حتى وإن كان هذا الاتفاق ظاهريَا فقط، إلا أنه يلقي بالكرة في ملعب القوى السياسية اللبنانية، حيث أكد وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف خلال زيارته الأخيرة لباريس في 22 يونيو الماضي، على موقف بلاده من أن إنهاء الشغور الرئاسي لن يكون إلا باتفاق اللبنانيين أنفسهم، مشيرَا – خلال لقاءه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ووزير خارجيته -، أنه طالما لم يتفق المسيحيون في لبنان، لا يمكن إنهاء الشغور الرئاسي.
وفي المقابل، عبرت الرياض عن إيمانها البالغ بأن إنهاء هذه الحالة لن يأتي إلا من الداخل اللبناني، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال زيارته لباريس مؤخرًا، لكنه في الوقت نفسه وجه الاتهام لإيران بتعطيل إجراء أي انتخابات رئاسية لبنانية، من خلال إيعاز حزب الله على خلق العراقيل والمعوقات التي من شأنها زيادة حالة الانقسام بين القوى السياسية المتناحرة.
الكثير من المصادر السياسية والدبلوماسية المعنية بالملف الرئاسي اللبناني، تبنت وجهة النظر السعودية بشأن مسؤولية حزب الله عن تعطيل الانتخابات الرئاسية بزعم أن الحزب – الممالي لطهران – لا يريد للبنان أن تكون دولة قوية، ومن ثم يرفض كافة الترشيحات المقدمة، وينأى بنفسه خارج حلبة النقاش في هذه المسألة في الآونة الأخيرة، وبموجب نظام تقاسم السلطة المعتمد في لبنان، يجب أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيًا من الطائفة المارونية، ورئيس الحكومة مسلمًا سنيًا، ورئيس مجلس النواب مسلمًا شيعيًا.
عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل محمد المراد حمّل في تصريحات له، حزب الله والتيار الوطني الحر مسؤولية إفشال مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد للبلاد، مشيرًا أن التيار الوطني يريد أن يكون الزعيم المسيحي الماروني ميشال عون هو الرئيس، بينما يرى حزب الله أن له أجندة خاصة بهذا الشأن مع إيران وليس له أي مصلحة في انتخاب رئيس جديد للبنان.
المراد حذر من المخاطر التي من الممكن أن تتعرض لها بسبب شغور منصب الرئيس، كما أكد على أن الدور العربي والإقليمي والدولي في هذا الملف لا يمكن إنكاره بأي حال من الأحوال، مشيرًا إلى أن الحوار مع التيار الوطني الحر مفتوحًا، وقد تحقق جزء كبير منه.
المرشحون لخلافة سليمان
بالرغم من انحصار الأسماء المرشحة لخلافة سليمان في اسمين فقط، يلقيان دعمًا من كتل نيابية رئيسية، الأول: مؤسس التيار الوطني الحر النائب ميشال عون، والثاني: رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، إلا أن هناك بعض الأصوات ذات الثقل السياسي كان لها رأي آخر، معلنة رفضها لهذين الاسمين، وهو ما فعله رئيس جبهة النضال البرلمانية وليد جنبلاط، حين قام بترشيح النائب هنري حلو، كإعلان رفض منه لعون وجعجع.
موقف جنبلاط وحزبه (الحزب التقدمي الاشتراكي) وكتلته البرلمانية تكشف عن اختياره “النأي بنفسه” عن المبادرة الحريرية في تبني ترشيح النائب سليمان فرنجية، إضافة إلى رفض ضمني وغير مباشر للمبادرة التي أطلقها جعجع باتجاه ترشيح العماد عون، وذلك في سياق يعيد المساعي على خط الأزمة الرئاسية الى المرحلة التي رافقت الجلسة الأولى التي عقدت قبل عامين لانتخاب رئيس للجمهورية حيث تنافس فيها كل من عون وجعجع وحلو وفرنجية وأمين الجميل، وحصل حلو خلالها على نحو 10 أصوات.
ونستعرض هنا أبرز الأسماء المرشحة لقيادة لبنان في الفترة القادمة، حتى وإن تمحورت كافة التكهنات حول مؤسس التيار الوطني الحر ميشال عون، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
- ميشال عون
ميشال عون عسكري مخضرم وسياسي محنك، ولد في 17 فبراير 1935، وكان قائدًا للجيش في الفترة من 23 يونيو 1984 إلى 27 نوفمبر 1989، ورئيس الحكومة العسكرية التي تشكلت في عام 1988.
كُلف في نهاية سنوات الحرب برئاسة مجلس الوزراء من قبل الرئيس أمين الجميل، وقام بتشكيل حكومة عسكرية بعد تعذر انتخاب رئيس جمهورية جديد يخلفه، وكان حينها قائدًا للجيش اللبناني، وقام الرئيس الجميل بتسليمه السلطة بعدما شكل الحكومة العسكرية التي أصبحت في مواجهة الحكومة المدنية التي يرأسها بالنيابة الرئيس سليم الحص، وقد استقال الوزراء المسلمون من الحكومة بعد تشكيلها بساعات، وبذلك أصبحت للبنان حكومتان.
تم إقصاؤه من قصر بعبدا الرئاسي بعد رفضه لاتفاق الطائف في 1989 الذي كان بداية لإنهاء الحرب الأهلية، فلجأ إلى السفارة الفرنسية في بيروت، وبقي هناك لفترة من الزمن حتى سمح له من بعدها بالتوجه إلى منفاه في فرنسا في 28 أغسطس 1991.
عاد عون من منفاه في مايو 2005 بعد 15 عامًا قضاها في باريس، وعند عودته إلى لبنان استقبله عدد كبير من مناصريه في المطار، وخاض بعدها الانتخابات النيابية التي أجريت في العام 2005 ودخل البرلمان اللبناني بكتلة نيابية مؤلفة من واحد وعشرين نائبًا، وهي ثاني أكبر كتلة في البرلمان، وفي انتخابات عام 2009 تمكن من زيادة عدد نواب تكتل التغيير والإصلاح إلى 27 نائبًا.
- سليمان فرنجية
فرنجية سياسي لبناني ينتمي إلى عائلة سياسية عريقة، فجده هو الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة ووالده هو النائب والوزير طوني فرنجيّة، يترأس تيار المردة.
ولد في مدينة طرابلس في 18 أكتوبر 1965، ثم بدأ عمله السياسي عام 1987 أثناء الحرب الأهلية، حين أسس كتيبة من 3400 شخص، واتخذ له من بنشعي مقرًا كما كانت مقرًا لوالده طوني فرنجيّة، واستلم فعليًا القيادة يوم 20 أغسطس 1990 من عمه روبير.
وفي سنة 1989 قبِل باتفاق الطائف كدستور جديد، كما قام بدعم ترشيح الرئيس رينيه معوض مما شكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين أهل السياسة في المنطقة الواحدة، وقد عيّن بعد هذا الاتفاق كعضو في المجلس النيابي عام 1991 وكان حينها أصغر نائب في البرلمان، كما دخل المجلس النيابي بانتخابات الأعوام 1992 و1996 و2000، بينما خسر المقعد النيابي بانتخابات عام 2005، وعاد إلى عضوية البرلمان في انتخابات عام 2009، كما شارك بالحكومة وحمل أكثر من حقيبة.
- أمين الجميل
رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق في الفترة من سبتمبر 1982 حتى سبتمبر 1988، من مواليد 22 يناير 1942، انتسب إلى حزب الكتائب اللبنانية عام 1961، حصل على شهادة في الحقوق من جامعة القديس يوسف، ومارس المحاماة ابتداءً من العام 1965.
بعد انتهاء ولايته لم يستطع مجلس النواب اختيار خلف له، فقام قبل 15 دقيقة من انتهاء فترته الرئاسية بتنصيب قائد الجيش ميشال عون رئيسًا للوزراء شكل بموجبه حكومة عسكرية من 6 وزراء يمثلون الطوائف الرئيسية في لبنان.
عاد الجميل إلى لبنان عام 2000 لينضم إلى تيار معارض للرئيس إميل لحود، الذي اعتبره رئيسًا تحت الهيمنة السورية، كما اغتيل نجله وزير الصناعة بيار الجميل في نوفمبر 2006، وبعد مرور 18عامًا على تركه عرش لبنان، لازال الجميل يحلم بالجلوس على كرسي الرئاسة اللبنانية مرة ثانية، في ظل ما يتمتع به من دعم من الكثير من أنصاره في مختلف أنحاء البلاد.
- قهوجي وعبيد وسلامة
إضافة إلى الثلاثي السابق (عون – فرنجية – الجميل) وهم الأوفر حظًا لخلافة سليمان، إلا أن هناك بعض الأسماء الأخرى التي فرضت اسمها على قائمة الترشيحات مؤخرًا منها: جان قهوجي، وهو سياسي وعسكري في آن واحد، حيث بدأ حياته العسكرية سنة 1973 ملتحقًا بالمدرسة الحربية ليتخرج منها سنة 1976، تدرج في الترقية حتى عين قائدًا للجيش سنة 2008 مع وصول رفيق سلاحه ميشال سليمان إلى منصب الرئاسة بعد اتفاق الدوحة 2008.
ثم يأتي الوزير الأسبق وصاحب الفخامة جان عبيد، والذي بدأ حياته العملية صحفيًا إلى أن عينه الرئيس الأسبق للجمهورية إلياس سركيس مستشارًا له حتى انتهاء ولايته صيف 1982، ليصبح لاحقًا مستشارًا لخلف سركيس الرئيس أمين الجميل حتى عام 1987.
وقد شارك عبيد – من موقعه كمستشار للجميل – في مفاوضات إلغاء اتفاق 17 مايو مع إسرائيل، وصياغة بيان الإلغاء، مما كان له أبلغ الأثر في إشراكه في مفاوضات جنيف لحل النزاع اللبناني اللبناني، وبعد اتفاق الطائف 1989 أصبح نائبًا من 1991 حتى 2005، ووزيرًا للتربية 1996 في عهد رئاسة إلياس الهراوي، ثم وزيرًا للخارجية (2003) في عهد رئاسة إميل لحود.
ثم يأتي اسم حاكم مصرف لبنان الاقتصادي المعروف رياض سلامة كمرشح “توافقي”، وبالرغم من حاجة سلامة حال وصوله إلى تعديل دستوري بصفته موظفًا من الفئة الأولى إلا أن له موقع اقتصادي مهم، لاسيما وهو يطبق قوانين أمريكا بفرض عقوبات على حزب الله بصورة دقيقة، وقد عيّن حاكمًا لمصرف لبنان سنة 1993 لمدة ست سنوات محققًا نجاحات مالية أسهمت في استقرار العملة الوطنية، فكوفئ بإعادة تعيينه لثلاث ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011.
زيارة وزير الخارجية الفرنسي: هل تحمل انفراجة للأزمة؟
تمثل زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت لبيروت في هذا التوقيت بالذات أهمية محورية للمهتمين بالملف الرئاسي اللبناني، لاسيما بعد سلسلة اللقاءات التي عقدها الوزير مع نظيريه السعودي والإيراني في العاصمة باريس لبحث آليات الخروج من هذا المأزق.
وبالرغم من تقليل البعض من جدوى هذه الزيارة، إلا أنها تعطي بعض المؤشرات والرسائل للبنانيين، منها بقاء فرنسا حاضرة في الساحة اللبنانية، مهتمة بكافة شؤونها، مؤمنة بدورها الإقليمي المنشود بالرغم من الظروف غير المواتية التي تعيشها لبنان في الآونة الأخيرة.
أيرولت الذي من المقرر أن يلتقي جميع القيادات اللبنانية بما فيها حزب الله، فضلاً عن زيارته الجنوب اللبناني حيث 750 جنديًا فرنسيًا في قوة حفظ السلام للأمم المتحدة يقيمون هناك، ويلتقي منظمة غير حكومية معنية باللاجئين السوريين، يسعى إلى التأكيد على الحضور الفرنسي القوي في المشهد سواء على المستوى اللبناني الداخلي أو السوري المجاور.
وبحسب مصادر دبلوماسية فإن زيارة وزير الخارجية الفرنسي لبيروت اليوم لها أكثر من شق، الأول: سياسي، ويحتوي على عنصرين، أحدهما يكمن في بحث مسألة التعطيل المؤسساتي والبحث في الاجتماع الدولي لمجموعة دعم لبنان في أيلول على هامش الجمعية العمومية في نيويورك، والثاني هو البحث في مسألة اللاجئين السوريين، العبء الكبير للبنان وكيف تساهم فرنسا في مساعدة لبنان على تحمل هذا العبء، لاسيما وأن باريس ستقدم 50 مليون يورو في 2016 من أصل 100 مليون خصصت للبنان.
أما الشق الثاني لهذه الزيارة فهو الشق الأمني، والذي يتمحور في زيارة أيرولت للجنوب اللبناني وزيارة العناصر الفرنسية من قوات حفظ السلام، ويتلخص الشق الثالث للزيارة في المحور الاقتصادي، والذي يتمثل في لقاء الوزير بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي وصفه الدبلوماسي الفرنسي بأنه “شخصية تلعب دورًا أساسيًا من أجل استقرار الدولة اللبنانية”، حيث يريد إعطاءه رسالة دعم لما يقوم به المصرف من تجاوب مع القوانين الدولية نظرًا إلى العقوبات الأمريكية على حزب الله.
ولاشك أن الأزمة الاقتصادية التي تحياها لبنان مؤخرًا ستشكل محورًا هامًا في محادثات وزير الخارجية الفرنسي مع حزب الله، لاسيما بعد الهزة العنيفة التي تعرضت لها لبنان نتيجة الظروف الإقليمية وتدفق السوريين والتعطيل المؤسساتي، حيث إن استمرار الحزب – الممالي لإيران – في تعطيله لاستكمال الاستحقاق الرئاسي يصيب صلب الحركة الاقتصادية اللبنانية، ويهدد مستقبل الملايين من شعبها المترقب لانفراجة تخرجه من عنق الزجاجة.
فهل تنجح الخارجية الفرنسية في كسر حالة الجمود في الملف الرئاسي اللبناني وتجبر الفرقاء على الجلوس على مائدة حوار واحدة، لإنهاء حالة الانقسام السياسي بينها، بحيث يتم الاتفاق على مرشح بعينه يكون خلفًا لسليمان؟